حين نفَّذ الرئيس أنور السادات وعيده بزيارة إسرائيل، طلبًا للصلح معها، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، سارع الأمن إلى اعتقالي وثلاثة من أعضاء إدارية ومندوبي مؤتمر الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في مصر (هم: مريد البرغوثي، وأحمد عمر شاهين، ومحمد أحمد رمضان)، وأُضيف إلينا من خارج الإدارية والمندوبين، الشاعر الفلسطيني المرموق، هارون هاشم رشيد، وإن لم يودع السجن، ولم يتم ترحيله، قسرًا، إلى بغداد، بل نفذوا له رغبته، بالسفر إلى دمشق. وعاد إلى القاهرة، بعد أقل من شهرين.



مثّل اعتداء جيش العدو الإسرائيلي على جنوب لبنان، في مارس 1978، «بروفة» للعدوان الأكبر، في 4 يونيو 1982.

على أن اعتقالنا كان عقابًا لفرع الاتحاد على نشاطه في مجال المحاضرات والندوات السياسية ضد المخططات الأمريكية في وطننا العربي، وليس لسبب آخر!

ما لفت نظرنا، أن الأمن استثنى من بين كل أعضاء الإدارية ومندوبي المؤتمر كلاً من: د. رضوى عاشور (لأنها مصرية)، وعلي هاشم رشيد (لوجوده في الحج)، وعضويْ «فتح» في الإدارية: طيب عبد الرحيم، وأنور عبد الرحمن، فضلاً عن نبيل عمرو (الذين كان، وقتها، في بيروت)!

بعد اعتقال دام ثلاثة أيام، حملتنا الطائرة إلى بغداد، حيث استضافتنا وزارة الثقافة، بكرمٍ باذخٍ.

سرعان ما غادرتُ إلى رومانيا، للعلاج، حيث وصلت موافقة على علاجي هناك، ثم غادر مريد إلى بيروت، فبودابست، حيث التحق بالعمل في مكتب منظمة التحرير هناك. وطار محمد إلى نيويورك، حيث عمل مترجمًا فوريًا في الأمم المتحدة. ولم يطق أحمد عمر صبرًا، فألقى بنفسه في طائرة متجهة إلى القاهرة، في يوليو/تموز 1978، ونزل في مطارها، فاحتجزه الأمن، وبعد يومين التقاه مدير الشئون العربية في أمن الدولة، وتم الإفراج عنه، بعد حوار شيِّق دار بينه وبين المدير المذكور، كشف لنا الكثير من أسرار ذلك النفي، ربما يأتي وقت قريب، أكشف عنه الستار.

أكملت علاجي في رومانيا، وهناك طمأنني الطبيب بأنني سأموت بصحة جيدة!


غادرت بغداد إلى بيروت، وهناك واجهني عرضيْن، أحدهما من الشاعر الفلسطيني المعروف، معين بسيسو، مؤداه أن يوفّر لي ياسر عرفات شقة مريحة، وراتبًا محترمًا، وأنقطع لكتاباتي. أما العرض الثاني، فجاءني من الأمين العام للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، ناجي علوش، قضى العرض الأخير بأن أتولى إدارة الأمانة العامة للاتحاد، مع استمراري في سكرتارية تحرير فصلية الاتحاد نفسه: «الكاتب الفلسطيني». ولم أتردد في قبول العرض الثاني، فور سماعي به.

سرعان ما اعتدى جيش العدو الإسرائيلي على جنوب لبنان، في مارس/أذار 1978، وأبدت القوات الفلسطينية جسارة عزَّ نظيرها في مواجهة العدوان. ما أزعج السادات، على ما ذكر وزير الخارجية المصري، آنذاك، محمد كامل إبراهيم! ويبدو أن هذا العدوان كان بمثابة «بروفة» للعدوان الأكبر، في 4 يونيو/حزيران 1982.


بدأ صباح الرابع من يونيو/حزيران 1982، بتصريح لناطق باسم «منظمة التحرير الفلسطينية»، ينفي صلة المنظمة بمحاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، وسرعان ما شنَّت طائرات إسرائيلية عدة غارات على المدينة الرياضية في بيروت، حيث كانت المقاومة الفلسطينية تتخذ من تلك المدينة مخازن لأسلحة المقاومة، وذخائرها. وبالتزامن مع هذه الغارة، توالت غارات جوية إسرائيلية على مدن ومواقع عسكرية فلسطينية. وشاركت المدفعية والبوارج الإسرائيلية سلاح الجو الإسرائيلي ذاك.

وصرَّح ناطق باسم منظمة التحرير بأن هذه الهجمة هي مقدمة لزيارة المبعوث الأمريكي، فيليب حبيب، للمنطقة! بينما ربط وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، بين تلك الهجمة وبين محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي! فيما دعا وزير الخارجية المصري، كمال حسن علي، جميع الأطراف المعنية إلى «ضبط النفس»!

وسَّعت الطائرات الحربية الإسرائيلية نطاق عملياتها، وتناغمت معها البوارج، والمدفعية الثقيلة الإسرائيلية.



صرَّح شارون بأن إسرائيل تأمل بسيطرة اللبنانيين على بلادهم، خالية من منظمة التحرير والسوريين.

قطع ياسر عرفات زيارته إلى جدة، وقفل عائدًا إلى بيروت، بينما كانت القوات الإسرائيلية اجتاحت الجنوب اللبناني، وتوقفت عند مدينة صيدا، تمامًا كما كانت دول أجنبية عدة أخبرت عرفات، من قبل!

لكن وزير الدفاع الإسرائيلي، آرييل شارون، تجاوز الخطة المتفق عليها مع واشنطن، وزحف بقواته في اتجاه العاصمة اللبنانية، بيروت. في الوقت الذي دخلها الأمين العام للجبهة الشعبية-القيادة العامة، أحمد جبريل، بعد أن أفلت، على مسئوليته، من المستشفى البلغاري، حيث كان يُعالج من كسر في عموده الفقري. أما ياسر عبد ربه، رئيس دائرة الثقافة في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فقد حرص على عدم العودة إلى بيروت، ولحقت به زوجته، الأديبة ليانتة بدر، وأنجالهما، إلى دمشق!

في 10 يونيو/حزيران 1982، صرَّح شارون، في مقابلة تليفزيونية، بأن ما تصرُّ إسرائيل عليه هو حزام أمان، يمتد مسافة 45 كيلو مترًا، على حدودها مع لبنان. بينما صرَّح زعيم حزب العمل الإسرائيلي المعارض، شيمون بيريز، بأن الجيش الإسرائيلي لا يعتزم احتلال بيروت! وفي لبنان، انتقد كميل شمعون الموقف الأوروبي، الذي استنكر الهجمة الإسرائيلية. ونفى الرمز الانعزالي اللبناني نفسه أن تكون تلك الهجمة طمعًا في مياه لبنان، أو في أرضه، بل بسبب الوجود السوري والفلسطيني فيه! بينما صرَّح هيج بأنه يجهل أهداف إسرائيل من هجمتها تلك!

أما رئيس البرلمان الإيراني، حجة الإسلام رفسنجاني، فطالب بفتح طريق، عبر العراق، أمام القوات الإيرانية، إلى الجبهة اللبنانية. بينما كانت الحرب على أشدها بين العراق وإيران!

فجأة، تم التزام كل الأطراف (11 يونيو/حزيران) بقرار مجلس الأمن، القاضي بوقف إطلاق النار، بعد معارك طاحنة، قُتل فيها الجنرال يكو ئيتيل، نائب رئيس الأركان الإسرائيلي، قرب الدامور.

تناغمًا مع كميل شمعون، صرَّح شارون بأن إسرائيل تأمل بسيطرة اللبنانيين على بلادهم، خالية من منظمة التحرير والسوريين (11 يونيو/حزيران). ردَّ شمعون بضرورة رفع ما أسماه «الاحتلالات الثلاثة»!

قدَّم هيج استقالته من الخارجية الأمريكية، بمجرد قيام القوات الإسرائيلية بمحاصرة بيروت (25 يونيو/حزيران). ويبدو أن هيج تحرَّج من هذا الحصار، بعد أن كان أبلغ الإدارة الأمريكية بأن الحكومة الإسرائيلية أكدت له بأن قواتها لن تتخطى صيدا!

حتى 5 يوليو/تموز 1982، تم خرق خمسة قرارات لمجلس الأمن، قضت بوقف إطلاق النار. ومع ذلك، فإن القوات الإسرائيلية اضطرت للوقوف عند أبواب بيروت الغربية، معقل الحركة الوطنية اللبنانية، والمقاومة الفلسطينية، اللتان أبدى مقاتلوهما بسالة ثبتت أقدام الإسرائيليين، لنحو شهرين كاملين، دون أن يتقدم الأخيرون خطوة واحدة إلى بيروت الغربية.

عرضت إسرائيل على المقاومة الفلسطينية، عبر المبعوث الأمريكي، الخروج بسيارات الصليب الأحمر الدولي، رافعين الأعلام البيضاء، بعد أن يكونوا سلموا أسلحتهم.

اجتمعت قيادة المقاومة الفلسطينية، وفي لمح البصر، تم رفض الاقتراح الإسرائيلي، جملة وتفصيلاً.

على أن هذا لا يعني بأن كل قادة المقاومة كانوا متماسكين، جسورين، بل إن أحدهم استمرأ إشاعة جو الهزيمة، أينما حل، وقد تهالك، وكأننا في آخر الدنيا، حتى أن مديرة مكتب عرفات شكت من انهياره، مر الشكوى! بينما وصل الأمر بقائد آخر حد تسيبه وهو مختف مع بعض مرافقيه وحراسه في أحد المخابئ المحصَّنة، فأبعدهم عنه، طالبًا إليهم أن يشتروا «مسحَّب» (لحم دجاج مشوي، خاليًا من العظم)! وحين أخذت سفن «الأطلنطي» تنقل رجال المقاومة من بيروت، صعد صاحبنا إلى السفينة، التي أقلته مع غيره، والتفت إلى مرافقيه، وقال لهم، بثقة يُحسد عليها: «ما تزعلوش يا شباب! والله لنعمل لكم ثورة أحسن منها». ياللهول!

تُرى هل كان صاحبنا يرتعش من المهاجمين الأعداء، أم يخشى من أحد ضحاياه في أقبية التعذيب؟!

أذكر أن ناجي علوش ذهب إلى صاحبنا، ذات مرة، يُطالب بالإفراج عن أحد أعضاء اتحاد الكتاب والصحفيين، فأخبره صاحبنا بأن العضو المعني أدلى باعترافات خطيرة. هنا، ردَّ عليه علوش بأنه يعلم أساليب الأمن في انتزاع ما يريد، ممن يريد. فعاجله صاحبنا: «صحيح! هات لي أبو عمار نفسه (عرفات)، حتى أخليه يعترف بأي شيء أريده»!

في 28 يوليو/تموز، تم وقف إطلاق النار الثامن، بعد مئات الأطنان من القذائف أمريكية الصنع على بيروت الغربية. وفي 12 أغسطس/آب، كان عدد مرات وقف إطلاق النار قد وصل إلى إحدى عشرة مرة. عندها تم التوصل إلى اتفاق، قضى بخروج المقاومة على سفن «الأطلنطي». ومنذ اليوم التالي، وحتى آخر سفينة نقلت رجال المقاومة (1 سبتمبر/أيلول)، على مدى أحد عشر يومًا، ساد الهدوء الذي سبق مذبحة صبرا وشاتيلا.


لكن، هل يجوز لمن كان في مثل وضعي، ألا يتحدث عن دور الثقافة والمثقفين في مواجهة تلك الهجمة؟!

لم يُخيَّب المثقفون الظن فيهم؛ فكفُّوا عن مهاتراتهم، وصغائرهم، واتحدوا، ليضربوا عن قوس واحد، بشتى ألوان طيفهم السياسي: اليساري، والقومي، والوطني، والإسلامي. ما مسح، أيضًا، الحدود بين العراقي، والسوري، واللبناني، والفلسطيني، على حد سواء.

ما أن أحدقت القوات الإسرائيلية ببيروت، حتى التقى ثلاثة لم يتفرقوا، على مدى أيام العدوان، ولم يفترقوا، إلا عند الخروج من بيروت، حين نقلت السفن اثنان منهم إلى سوريا، فيما اختار الثالث البقاء في بيروت، وقد نجاه الله من الانعزاليين ومن القوات الإسرائيلية، أثناء مذبحة صبرا وشاتيلا. وإن لم ينج من رصاص عصابة أبو نضال البنا، المنشقة عن «فتح»، وقد اغتالته العصابة، في العاصمة القبرصية، نيقوسيا، صباح أحد أيام مايو/آيار 1983!، وهو كادر إعلامي بارز في «فتح»، ورئيس تحرير مجلتها الأسبوعية، التي حملت الاسم نفسه، ما بين 1970 – 1974، بمجرد أن انحاز إلى رفض التسوية مع إسرائيل، أما الآخران، فأحدهما هو الروائي الفلسطيني المرموق، رشاد أبو شاور، وينسب نفسه إلى التيار الناصري. ولم يبق إلا الثالث، وهو كاتب هذه السطور.

سرعان ما اتفقنا على الإسراع بإصدار جريدة ثورية يومية، تحمل اسم «المعركة»، وهو نفس اسم أول ديوان شعر لمعين بسيسو (مطلع 1952). وفي اليوم التالي، صدر العدد الأول منها، بتحرير طيف واسع من المنابت الفكرية السياسية، والانتماءات القُطرية.

عرض عرفات علينا تمويل الجريدة، وإن اشترط مَن نقل اقتراحه إلينا، أن يتولى زياد عبد الفتاح (مدير وكالة الأنباء الفلسطينية-وفا) رئاسة تحريرها. فوافقنا، ودارت العجلة. وتولى الفنان اليساري المصري المعروف، عبد المنعم القصاص، إخراجها الفني. بينما كان الصديقان العزيزان، جابر سليمان وخالد عايد يُصدرا نشرة «المتاريس»، وطبعاها على آلة سحب (استنسل).



لم يكن كل قادة المقاومة الفلسطينية متماسكين، جسورين، بل إن أحدهم استمرأ إشاعة جو الهزيمة، أينما حل، وقد تهالك، وكأننا في آخر الدنيا.

كما استمر فرع «الجبهة الديمقراطية» في إصدار أسبوعية «العودة»، بشكل يومي. أما فرع «الحزب الشيوعي الفلسطيني» في لبنان، فحوَّل إصدار شهريته «المقاومة» إلى إصدار يومي. وكذلك فعلت شهرية «بلسم»، الصادرة عن «الهلال الأحمر الفلسطيني».

في الوقت الذي أثمر صلح تلقائي بين الشاعريْن الخصميْن، معين بسيسو، ومحمود درويش، قصيدة مشتركة، نشرتها يومية «السفير» البيروتية.لم تكن الحركة الوطنية المصرية غائبة عن المشهد، فيساريوها اندفعوا إلى خطوط القتال، يشاركون المقاتلين، فلسطينيين، ولبنانيين، وسوريين، القتال، أو يلقي زين العابدين فؤاد، وسمير عبد الباقي، وحلمي سالم قصائدهم الملتهبة بين استحكامات مقاتلي خط الدفاع الأول. ويتنقل عدلي فخري بآلته الموسيقية، بين المقاتلين، يصدح بأغانيه الثورية. فيما لم تغمض عين للروائي الأردني الشهير، الذي قضى أكثر من عقدين في مصر، غالب هلسا، وهو يتنقل من استحكام لآخر، يلهب حماس المقاتلين، ويشيع الفرحة بين صفوفهم.لأن لكل ضوء ظله، فإن ما قلته هنا يشمل الغالبية العظمى من المثقفين العرب، وقد غصَّت بهم عاصمة البهجة، بيروت. فقد حدث أن كتب زياد عبد الفتاح، في عموده، بيومية «المعركة»، منددًا بمثقفيْن إثنيْن انهارا، بمجرد وقوع العدوان الإسرائيلي، مطلقًا على أحدهما «مستر فاليوم»، وعلى الآخر «مستر ليبراكس»، على اسميْ المهدئيْن اللذين استمرأ ذينك المثقفيْن تعاطيهما، لمواجهة انهيارهما.في 14 أغسطس/آب، تم اغتيال الرئيس اللبناني الجديد، بشير الجُميل، إثر انفجار دمَّر «بيت الكتائب»، في الأشرفية، شرق بيروت. وفي اليوم التالي، اجتاحت القوات الإسرائيلية بيروت الغربية، ونظمت مجزرة صبرا وشاتيلا، على مدى يومين متتاليين، سقط فيها ما يربو على 1400 فلسطينيًا ولبنانيًا.هنا تأسست «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، وضمت كلاً من: «الشيوعي»، و«منظمة العمل الشيوعي»، و«السوري القومي الاجتماعي»، لتبدأ صفحة مجيدة من المقاومة، ومعها العد التنازلي لظهور «حزب الله».