في أوائل القرن السابع عشر الميلادي، أسّس الشريف المكي أبو بكر بن محمود الغريب في السودان طريقة صوفية جديدة. نجح الشريف أبو بكر في اكتساب أنصار كُثُر لها بعدما زعم أن نسبه يمتدُّ إلى الحسين بن علي بن أبي طالب.

يروي الطيب محمد الطيب في كتابه «الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك»، أن الشيخ عبد الله بن العركي (1517- 1610)، أحد أشهر مُؤسِّسي الطريقة القادرية العركية، رجع من إحدى زياراته إلى مكة ومعه سبعة من العلماء المكيين الأشراف الذين استقروا في السودان.

وكان من بين هؤلاء العلماء محمود الغريب الذي تزوج بامرأة من منطقة أبو
حراز على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، وأنجبت له «أبا بكر» الذي نشأ على تلقّي
العلم والفقه حتى قرّر في النهاية أن يتفّرد بتأسيس طريقته الخاصة.

وعقب وفاة أبي بكر استكمل المسيرة من بعده تابعه آدم بن عبد الله أبو جريد، وفي عهد آدم بلغت هذه الطريقة الصوفية أوج مجدها لدرجة أنها عُرفت بِاسمه ولم تعد تُنسب إلى لقب المؤسِّس، خاصةً وأن الانتشار الأول للطريقة كان بين صفوف قبيلة آدم وهي «كنانة».

المِلة الجديدة

بمرور الوقت لم تعد هذه الطريقة تُنسب لأبي بكر أو آدم، بل باتت تُعرف بِاسم آخر وهو «الزبالعة»، وهي التسمية التي استمرَّ أعضاء الطريقة في رفضها حتى اليوم.

في كتابه «تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته»، وصف نعوم شقير هذه
الطائفة الدينية بأنها قبيلة عددها نحو تسعة آلاف رجل، وهم كسائر العرب في أخلاقهم
وعاداتهم، إلا أنهم يمتازون برفضهم للمذاهب الفقهية الأربعة التي اتفق عليها
المسلمون السُنة، ولهذا عُرفوا في السودان بـ«الملة الخامسة».

غير أن «الطيب» ذكر في كتابه، أن هذه الطائفة كانت لهم أناشيد مقتبسة من مذاهب شيعية، وأن ترديدها بِاستمرار يدل على تشيعهم، حتى أنه شبههم بطائفة «البابكية» المنسوبة إلى بابك الخرمي الذي كان من الباطنية، وكان أعضاؤها يمارسون طقوسًا لا تمت للإسلام بصفة.

في جميع الأحوال، كان نصيب أعضاء هذه الطائفة من التعليم والفقه الديني
يكاد يكون معدومًا، ولهذا فإن معظم ما كُتب وذُكر عن أفراد هذه الطريقة، وما نُقِل
إلينا عبر ألسنة سكان مناطقهم يبرهن على أن تعاليم الإسلام لم تتغلغل في أوساطهم،
برغم اتباعهم لها ظاهريًا، بل إنهم مارسوا عددًا من السلوكيات التي تتنافى بوضوح
مع تعاليم الإسلام.

وهو ما يُفسِّر السُمعة السيئة التي حملتها لنا كتب التاريخ في استعراضها
لتاريخ هذه الطريقة، يقول إبراهيم صديق مُحقِّق كتاب محمد النور بن ضيف الله
والمعنون بـ«الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان»، بأن
«الزبالعة هي عدم الاستقامة والشعوذة، واستعمال التكهن، وسلوك الطريق التي لا ترضي
الله سبحانه وتعالى»، مضيفًا أن هذه اللفظة أطلقها خصوم الطريقة على قوم أبو جريد،
وهم «فساق، يعملون المناكير، ويبيحون الفحشاء مع النساء».

انتشار واسع

تقول محاسن زين العابدين عبد الله في كتابها «الإسلام الباطني في السودان- حركة الزبالعة»، إن هذه الطائفة آمنت بوحدانية الإله وبالأنبياء وبالرسل أجمعين وبالقضاء والقدر، وكانوا يؤدون كل الفرائض من صلاة وصيام وزكاة وحج، لكن في المقابل ارتبط إسلامهم بمظهرٍ دخيل وهو الانقياد التام للأولياء، والإيمان بقدراتهم بالكرامات وخوارق العادات.

ولهذا تعتبر محاسن، أن الطريقة لم تنتشر إلا بين أكثر المجموعات تخلفًا،
والتي تتكون في مجملها من العرب الرُحل المتمثلين في قبائل كنانة والشكرية
والميرفاب.

انتشرت طريقة الزبالعة في المنطقة الممتدة من جنوب الروصيرص حتى ملتقى
النيلين الأزرق والأبيض، ولم تستند إلى تكوين قبلي، فكان أعضاؤها من مختلف
القبائل، إلا أنها ارتكزت أساسًا على فرع البليلاب من قبيلة كنانة الكوانيل
والرواشدة في شرق مدني (وسط السودان على ضفة النيل الأزرق).

ويدين الانتشار الواسع للطريقة بالفضل إلى النشاط الاقتصادي المتجوِّل
لأعضائها المعتمد على الرعي والترحال، وهو ما أتاح لأعضائها فرصة كبيرة للمرور
بالعديد من المناطق، التي نجحوا في استقطاب أهلها لطريقتهم المثيرة للجدل.

مسلمون لا يؤمنون بالقرآن

من أكثر الأمور التي تُؤخذ على «الزبالعة» هو إيمانهم المُطلق بشيوخهم، وتمجيدهم لهم على حساب الله والرسل والملائكة، وهو أمر اتسق مع المكانة القديمة التي اكتسبها شيخ القبيلة وسط المجموعات البدائية، والذي كان يُعتقد فيه أن يمتلك القُدرة على الإتيان بالخوارق، ما يُشبع حاجاتهم الباحثة عن تفسيرٍ لظواهر الكون وتشعرهم بالحماية والأمان، ولهذا اقتصرت عبادات الطريقة وأشعارها على التمسّح في الشيوخ واللجوء إليهم، ولم تتطرق إلى ذِكر الأنبياء والرسل إلا نادرًا.

لكن نعيم شقير يذهب إلى أبعد من ذلك، عندما يقول، إن الزبالعة يعتقدون بأن نبيهم هو «أبو جريد»، بل إنهم لا يعرفون نبيًا آخر سواه، وقد أقاموا رمزًا على قبره في حلة شرقي النيل الأزق بين منطقتي كركوج والرصيرص، حيث يجتمعون للأذكار مساء كل أحد وثلاثاء، ويرددون «لا إله إلا الله.. أبو جريد نبي الله»، وبهذا فإن شقير يُخرِج هذه الطريقة من الزاوية الإسلامية تمامًا.

وهو ما ينفيه الرحالة البريطاني سيلجمار هيللسون الذي زار السودان في عامي 1917 و1918، وكتب عنها مقالة قديمة نُشرت في مجلة “السودان” عام 1918 بعنوان “جماعة أبوجريد.. السودان في رسائل ومدونات”، مؤكدًا أن الزبالعة لم يخرجوا عن الإطار الإسلامي لدرجة نفي نبوة الرسول محمد وما أتى به من تعاليم، ويؤكد أنهم لم يعتبروا أنفسهم «مِلّة مختلفة» أبدًا، وإنما كانوا يُردّدون دائمًا «نحن مسلمون، نؤمن بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن الصلاة فريضة فرضها الله علينا كما الزكاة وصيام رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا».

هذا الإيمان الإسلامي لا يبدو كاملاً في نظر محاسن زين العابدين، التي ترى
أن هذه الطريقة الدينية تفرّدت عن غيرها من الفرق الدينية الإسلامية بأنها لا
تعتقد بقُدسية القرآن!

تقول، إن علاقةً غريبة جمعت الزبالعة والقرآن، فهم لا يعرفونه ولا يعتقدون
فيه، بل ويمنحونه اسمًا مختلفًا هو “أبو رقيط”، دون أن يعرف أحد السبب
وراء هذه التسمية.

المدح بلغة الملائكة

في سلوكها الديني تبدو طريقة الزبالعة كلاسيكية للغاية، فهي، مثل أي طريقة دينية أخرى، تُمارس طقوسها بشكلٍ منتظم، فيتجمّع أعضاؤها ويتبادلون تلاوة الأذكار بشكلٍ دوري، وبينما يقول “هيللسون” إن حلقات الذكر كانت تقام مرتين في
الأسبوع يومي الجمعة والاثنين، يُعارضه شقير بقوله إن اجتماعات الزبالعة كانت
تُقام خلال يومي الأحد والثلاثاء.

وأيضًا، كأي طريقة أخرى، أقام الزبالعة حلقات ذِكرٍ في كُل مناسباتهم كالزواج
والولائم وعودة المسافر وشفاء المريض وعودة الشيخ من الخلوة، والتي تُقام في شهر صفر
من كل سنة، عندما يعتزل مشايخهم النّاس لمدة 7 أيام في خلوات يقف على أبوابها
حرّاس يمنعون المريدين من الدخول، وعندما ينتهي الأسبوع يخرج الشيخ ويدعي رهطه من الرجال
والنساء ويُقيم حلقة للذكر.

ووفقًا لــ”هيللسون” فإنهم خلال هذه المناسبات يُردّدون أذاكر إسلامية الطابع مثل “أستغفر الله، الصلاة على النبي، سبحان الله، لا إله إلا الله والله أكبر” مئتي مرة، ثم يعرجون بعد ذلك إلى مدح النبي وشيوخهم، بعدها ينقادون تدريجيًا إلى حالات جذب روحي يرددون خلالها، وبأصواتٍ عالية، كلماتٍ غير مفهومة مثل “هو ال يد هل هل هو”، وتعابير مماثلة غير مفهومة تعطيهم الحماس والطرب اللازمين.

هذه الكلمات غير المفهومة المُستخدمة في «حالات الجذب» لها مكانة كُبرى في
صفوف الزبالعة، فهم يؤمنون بأن المُؤسِّس أبو أبكر تعلّمها من الملائكة.

إباحية في ختام الاحتفالات الدينية

أكثر اتّهام تُوصَم به الزبالعة هو ممارسة الإباحية ضمن طقوسها الدينية، فتقول محاسن زين العابدين، إن الكُتب التي أرّخت لسلوكيات الطريقة والروايات الشعبية التي نُقلت عن ممارسات أعضائها، أجمعت على أن حلقات الذكر التي يعقدونها غالبًا ما تتحوّل إلى حفلات لممارسة المجون والإباحية الجنسية في ختامها!

تحكي، أن حلقات الذِكر التي تبدأ بترديد النغم والإنشاد تنتهي بعبارة «اطفوا النور واكبسوا الحور»، وبعدها يختار الشيخ أجمل امرأة لنفسه ويليه بعد ذلك بقية الأتباع، حيث يأخذ كل رجل امرأة يستبيحها لنفسه، وهذا ما يعدُّ خاتمة الاحتفالات.

وهو ذات ما يذكره شقير في كتابه، ويؤكد أن استباحة النساء طقس مهم في
اجتماعات الزبالعة، فبعدما تنتهي الأذكار يُقبِّل الجميع يد الشيخ رجالًا ونساءً، وبعدها
يختار الشيخ امرأة لنفسه، ومن بعده يُقلِّده بقية الأتباع.

ويحكي «هيللسون»، أن سكان خدر (في مدينة المناقل وسط السودان) اعترفوا له بأن وطء النساء في حلقات الذكر كان «عادة قديمة»، وينقل عن لسان أحد أتباع الطريقة، يُدعى الشيخ أبو القاسم، أن أي امرأة من نساء الزبالعة كانت تذهب إلى حلقة الذِكر بعدما تتعطَّر وترتدي أفخر الثياب، وكانت الواحدة التي ينتقيها الشيخ لنفسه تفخر بذلك، وتعتبر انتقاءه لها شرفًا تتسابق إليه النساء.

حاربوا ضلالات الزبالعة

بسبب معتقداتها المتطرفة والنظر إلى أتباعها كأصحاب «ملة خامسة»، واجهت
الزبالعة حالة من العداء الرهيب في كافة أنحاء السودان، وهو ما شكّل عاملًا حاسمًا
في تراجعها وانهيارها كتنظيم جماعي.

شمل هذا العداء الكثير من الطرق الصوفية والعلماء والناشطين في العمل الديني والاجتماعي، ومن بين هؤلاء الشيخ فرح ود تكتوك (1635- 1732)، الذي بذل جهودًا كبيرة من أجل القضاء على هذه الطريقة، وأقام عددًا من المناظرات مع بعض قياداتها مثل الشيخ كرين بن عبد الله شيخ الطريقة.

ومن أشهر هذه المناظرات، واحدة جرت في منطقة بنسو بالقرب من الروصيرص (مدينة سودانية تقع في ولاية النيل الأزرق)، حيث شنَّ الشيخ فرح هجومًا حادًّا على الشيخ كرين واتهم جماعته بأنه “مخالفون للسنة والكتاب”.

وفي وقتٍ لاحق، انضمَّ العديد من العلماء لجهود الشيخ فرح ود، مثل الشيوخ سالم رابح الدويحي والمصري قنديل البديري والفقيه عمر جاه الله، الذين كوّنوا فيما بينهم «مجلس علماء» اتفقوا على محاربة «ضلالات الزبالعة»، وزّعوا أنفسهم في المناطق يلقون الخطب المثيرة ويفتون بكفر الزبالعة
ويأمرون بوجوب محاربتهم.

وكان أول من قرّر قتال الزبالعة، هو الملك أحمد سليمان ملك قبيلة الجموعية (جاءت مع العرب بعد دخول الإسلام واستقرت غرب النيل)، والذي حشد ثلاثة آلاف فارس، وجرت بين الطرفين حرب في وادي الكوت جنوب العاصمة سوبا، وحقق الزبالعة انتصارًا كبيرًا.

لم يُؤمِّن هذا النصر الأمان للزبالعة، فلم تنقطع المعارك الراغبة في
استئصال وجودهم بعدما انضمت قبائل أخرى لمحاربتهم حتى انتهى الأمر بهزيمة الطريقة.

بعدها فرَّ أعضاؤها متفرقين في البلاد حتى عبروا نهري “ستيت” و”باسلام” واستقروا جنوب كسلا (شرق السودان)، ولم يتجرأ أحدهم على العودة لوطنه إلا بعد دخول الأتراك للسودان في العام 1821، فعادوا من جديد لممارسة طقوسهم بشكل سري.

واستقر الزبالعة بعد عودتهم من الشرق في غرب منطقة الحاج عبد الله وشرق النيل تجاه مدني التي تقع على النيل الأزرق (جنوب مدينة الخرطوم بنحو 186 كيلو مترًا) كما اعتنق بعض سكان جبل كرن الواقع ضمن حزمة في جبال تقلي (وسط السودان) نهج الزبالعة، فسار إليهم الفقيه بدوي أبو صفية البديري، الذي اشتُهر في تاريخ السودان بتشكيله ميليشيات لمقاتلة الكفار، بجيشٍ عظيم لمحاربتهم، ولم يتركهم إلا بعدما أعلنوا توبتهم.

الزبالعة اليوم

في هذه الأيام أصبحت طقوس الزبالعة المثيرة للجدل شيئًا من الماضي، وبالرغم من أن ذُريتهم لا تزال تعيش في السودان حتى الآن، إلا أنهم انقطعوا تمامًا عن تراث أجدادهم المُشين.

في العام 1975م، زارهم الطيب محمد الطيب الباحث في التراث السوداني فلم يلمس شيئًا مشينًا في تصرفاتهم، لكنهم ظلّوا على احتفاظهم بتبجيلهم المُفرط لشيوخهم، يحكي أنه عندنا أتى على ذِكر كرين بن عبد الله بينهم اكتشف أن الزبالعة يُطلقون عليه اسم «الخليفة الثالث» (بعد أبي بكر وآدم)، وأن ذريته تُعرف حتى اليوم بأنهم «خلفاء الطريقة».

وتحكي محاسن زين العابدين في كتابها، أنها التقت شيوخ الطريقة الحاليين، الذين أعربوا لها عن فخرهم بتاريخ أجدادهم، لكنها في المقابل أكدت أن ما تبقى من آثار قديمة للطريقة على أفرادها الحاليين هو الرابطة الروحية القوية والتجمعات المستمرة وإنشاد القصائد التي تُمجِّد المجموعة وقادتها.