المُدهش أن الحكايات التي تنتهي لا تنتهي؛ ما دامت قابلة لأن تُروى.

المكان: سُلَّم المكتبة المركزيّة بجامعة القاهرة، الزمان: العام 1966م

تسيرُ فتاةٌ نحيلةٌ بشعرٍ قصير قاصدةً المكتبة، فتاةٌ تدرسُ الأدبَ وتكتبُ الشِّعر. في طريقها، ترى شابًا جالسًا يُلقي الشِّعر بين أصدقائه، تسلَّل إليها صوته بنبرات هادئة واثقة تحمل بين طياتها كلمات مُسجَّعة عبرت أذنيها واستقرَّت في قلبِها، كلمات كان أثر وقعها عليها أن جعلها -في لحظتها- تُقرِّر التوقُّف عن كتابة الشِّعر، قائلةً لنفسِها: «الشِّعرُ أحقُّ بذويه».

التفتت ثانيةً ناحيته لتظفر بنظرات أخرى من صاحب الصوت والكلمات، لتجده هو الآخر ينظر إليها، نظرات رُبما ظنّ كلاهما أنها عابرة، ولكنها كانت بداية عُمرٍ من الحب، في حكاية استمرَّت أكثر من خمسة وأربعين عامًا في دُنيانا، وعدد لا نهائي من الأعوام في دُنياهم.. دُنيا مُريد ورضوى.

وأنا أقرأ لك أتخيلك وأنت تكتب، أرى وجهك، جلستك، حركة يديك، مكتبك.. فأشتاق أكثر!





من رضوى إلى مُريد

من اللحظاتِ الأولى، أحبّ مريد رضوى وأحبّته، لكن صبيّ الشِّعر وقتها لم يُدرِك أن عام تخرُّجه سيكون عام النكسة، له ولمصر في آنٍ؛ فالفلسطيني الذي عاشَ في أحضان رام الله مُنِع من الرجوع إلى فلسطين كواحد من الفلسطينيين المُقيمين خارج البلاد، وتبدأ رحلة حياته التي لم يكن ليدري منها شيئًا وقتذاك، رحلةٌ من الشتات الذي طال وطال، حتى قال القدر كلمته وألحقه بحبيبته..

ابتسامتها رأي، وموضع خطوتها رأي، وعناد قلبها رأي، وعزلتها عن ثقافة السوق رأي، رضوى جمال رأيها ورأيها جمالها.





مُريد عن رضوى

تقدَّم مُريد طالبًا يدّ رضوته، طلبًا قوبِل برفضٍ مُتتالٍ من أهلِها؛ فهو أجنبيّ مُشرَّد ولا أمان لها معه، ولكنّه فاز بعِنادِها وإصرارها الدائم عليه، وفي اليوم الموافق 22 يوليو 1970، حالف القدر مُريد ليكتُب: «اليوم أصبحنا عائلة.. ضحكتها صارت بيتي!».

كان يُمكن أن تسير أمور مريد على ما يُرام بعد ذلك، ربما لتمكّن من قبول فكرة اضطراره إلى البُعد عن الوطن، لكن الفلسطيني لم يكن مكتوبًا عليه سوى الشتات دائمًا وأبدًا، ففي عام 1977 أظهر شاعرنا اعتراضه على زيارة السادات للكنسيت الإسرائيلي، فسُجن ثم ترحيله من مصر بطائرةٍ مُتّجهة إلى المجر، ليس فقط، بل ومُنِع من دخولِ مصر سبع سنواتٍ كاملة.

بكيتُ.. رغم أن البكاء كان ترفًا لا أملكه في تلك الأيام.





رضوى عاشور

وفي نفس سنة ترحيله، جاءَ ابنه الوحيد إلى الحياة، جاءَ «تميم»، وبمُعطياتٍ كالمذكورة سلفًا، كان يمكن التخمين بسهولة أن طفلًا بنشأةٍ كتلك، من المنطقي جدًا أن تُثمر لنا تميمًا، تميم الذي وُلِدَ من رحمِ الأدبِ والشِّعر، لأستاذة جامعية وأديبة، وشاعرٍ ومُناضلٍ منفيّ، كان من المُحتملِ جدًا أن يكون هو خليط بين كل هذا، بل ويلقى المصير ذاته أيضًا.

بعد السبع سنوات لم يُسمَح له أيضًا بالإقامة في مصر، باستثناء زيارة سنوية لمُدّة أسبوعين فقط، تلك القسوة التي عانت منها الأسرة الصغيرة تمَّ تمريرها إلى الابن تلقائيًا، الذي انفجر بالشِّعر العاميّ في سن مُبكِّرة يقُصّ حكاية والديه بتمُرِّدٍ مُزِجَ بفخرِ مكنون لكلٍ منهما.

أمي وأبويا التقوا والحر للحرة، شاعر من الضفة برغوثي واسمه مُريد، قالوا لها ده أجنبي، ما يجوزش بالمرة، قالت لهم يا عبيد اللي ملوكها عبيد، من إمتى كانت رام الله من بلاد بره؟ يا ناس يا أهل البلد شارياه وشاريني، من يعترض ع المحبة لما ربّي يريد!





تميم البرغوثي

شاءَ القدر أن يظلّ عدد أفراد الأسرة لا يتجاوز الثلاثة أفراد أبدًا؛ فكيف وهو الممنوع من العودة إلى أهلِه طيلة هذه السنوات؟ وصرَّح مُريد في إحدى الندوات بهذا، مُتّهمًا في ذلك أنور السادات الذي طرده من مصر سبعة عشر عامًا بعيدًا عن بيته وأسرته ووطنه الثاني مصر، وكان يرى أن لا فِرار من ذلك القدر، فهو في بلدٍ وزوجته في بلد، وهو لا يملُك أن يُزيد الأعباء عليها كأم وكاتبة وأستاذة جامعية وناشطة سياسية.

يقول مُريد إن أول ما نطقت به بعد العملية عندما أفقت من التخدير هو السؤال: «ضربوا العيال؟» لا أذكر ذلك!





رضوى مُتحدّثة عن ثورة يناير

سارت المُعاناة بجانب الحُب كرُفقاء تلك العائلة، وظلّ قلب مُريد ينبض تجاه امرأة واحدة تُدعى «رضوى»، ولا أحدًا غيرها، لم يتوقّف الحب، ولم تتوقف النكبات أيضًا، صحيح أن مُريد تمكّن من العودة لرام الله في أواخر التسعينيات، وكتب سيرته الذاتية «رأيت رام الله»، وفاز عنها بجائزة نجيب محفوظ عام 1997، ولكنه ظلّ يُعاني برفقة رضوى التي حاربت المرض لمدة 35 عامًا، حتى قضى عليها ورم في الدماغ وهي في عمر الثامنة والستين.

وبعد رحيلها في نوفمبر 2014، راح مُريد يكتب الشِّعر في حُب رضوى، تمامًا كأوّل مرة التقوا فيها على سُلَّم الجامعة، يراها أمامه حاضرةً تنظر له وتبتسم في خجلٍ وانجذاب، كعادتها دائمًا، وبحُبٍّ وإكبار كعادته هو، عادّ يُرسِل لها الحُب مُجددًا، مرّات بدأبه على نشر أعمالها الأدبية التي لم تُنشر في حياتها، ومرّات أخرى بكتابة قصائد في حُبِّها؛ حتى أنه قال في حفل تأبين لها في جامعة عين شمس، التي عملت فيها رضوى كأستاذة طيلة حياتها الأكاديمية:

من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب، ينشغل عن المحبوب، الآن أطلب من حزني أن يتّجه إلى أقرب بوابة ويغادر، هادئًا كما أشاء، أو هادرًا كما يشاء، لستُ أنت المهم اليوم، ولا أنا أيها الحزن، أنا منشغل بها لا بك أنت.

تُرى هل أحبَّ مُريد رضوى لملامحها الدقيقة التي ارتسمت على وجهٍ هادئ أحاطه شعرٌ قصير؟ أم لضحكتها المُضيئة التي حاربَ لتسكُنَ بيته منذ اللحظةِ الأولى، وعاش يحلم بعودتها باقي عمره حتى اجتمعَ بها أخيرًا؟ هل لروحِها المُثابرة المُناضلة التي تحدَّت بها الظُلم والغُربةَ والمرض؟ أم لصوتِها الذي لم يخش يومًا قول الحقّ في وجه الطُغاة؟ تعدَّدت الأسباب والحُبُّ واحدٌ، صامدًا في وجه الظُلمةِ، مهما تقطَّعت سُبُل الوصال، فحتى الموت لم يُفرِّقهما طويلًا، ها هو مُريدٌ يلحق بحبيبته ليُدفئ جسدها النحيل كما قال: «خلف أزرار هذا القميص الخفيف أواصل أشغال من ظلّ حيًا.. أُدفئ رضوى من البرد».

أنا أكبر من إسرائيل بأربع سنوات، والمؤكد أنني سأموت قبل تحرير بلادي من الاحتلال الإسرائيلي. عمري الذي عشت معظمه في المنافي تركني محملًا بغربة لا شفاء منها، وذاكرة لا يمكن أن يوقفها شيء.

الآن يُوحَش الحاضرون.. وتأنس الغائبة؛ الليلة تأنس رضوى..

ويجلس تميم وحيدًا.