محتوى مترجم
المصدر

الأهرام الإسبوعي
التاريخ
2013/05/02
الكاتب
محمد صُفار

بانتهازيته وسطحيته، لم يتنبأ علم السياسة في مصر بالثورة أو يفهمها كما تكشّفت، كما لم يكن لديه أي شيء نافع ليُدلي به بشأن الفترة الانتقالية التي أعقبت ذلك، يكتب «محمد صُفار».

يبدو علم السياسة في مصر وكأن لديه إدراكًا واضحًا لكُل شيء، فنجد أسماء المنتمين له بارزةً في المقالات الصحفية، والنشرات الإخبارية التحليلية، والبرامج التليفزيونية، والمناصب السياسية الرفيعة. لكن ما يقبع تحت السطح في حقيقة الأمر مُختلف تمامًا.



لم يفشل علم السياسة في مصر فقط في التنبؤ بانهيار النظام السياسي، لكنه أيضًا، وهو الأمر الأشد خطورة، فشل في حمأة اللحظة أن يتعرّف على حقيقة الثورة

لم يفشل علم السياسة في مصر فقط في التنبؤ بانهيار النظام السياسي، لكنه أيضًا، وهو الأمر الأشد خطورة، فشل في حمأة اللحظة أن يتعرّف على حقيقة الثورة. يُضاف إلى ذلك أنه كان عاجزًا عن تقديم تفسير للثورة، كما لم يستطِع تقديم بدائل مُجدية لإدارة الفترة الانتقالية تحت كلٍ من الحُكم العسكري والمدني.

يُفاقم «ورم علماء السياسة الخبيث» المستشري في كافة أرجاء الجسد السياسي المصري الوضعَ المعتلّ للبلاد. لذا تسعى تلك المقالة للنظر في التباين بين انتشار مَن يُفترَض أنهم خبراء الفن الملكي وتدهور الأوضاع السياسية للبلاد.

في يونيو/حزيران 2012، نشرت «ليزا أندرسون»، وهي الرئيسة السابقة للجامعة الأميركية بالقاهرة، دراسة عن مشكلات علم السياسة، ذهبت فيها إلى أن تزايد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث تسبّب في إيجاد مشاكل لعلماء السياسة، حيث أنهى احتكارهم للحقائق والمعلومات. ودفعت بأن علماء السياسة بحاجة إلى إعادة تشكيل هُويتهم باعتبارهم مُمارسين فاعلين يتشاركون في حوار مع الطلاب وصناع السياسة. إن حُجة أندرسون، والتي تُعتبر بمثابة صدى متأخر لمفهوم آلفين توفلر الشائع «الإغراق المعلوماتي»، جانَبَها الصواب تمامًا.

فمشكلة علم السياسة لا تعود إلى إنتاج وتوزيع المعلومات، بل على العكس من ذلك، تتوقف المشكلة على غياب أُطر تحليلية ذات مصداقية تعمل على ترشيح تدفق المعلومات، التي وُجِدَت في كل عصرٍ وفقًا لمعاييره الخاصة. وللمفارقة، ففي فصل الخريف الدراسي لعام 2012، شهدت الجامعة الأميركية بالقاهرة مشهدًا ثوريًّا متأخرًا، الأمر الذي واجهته أندرسون بحزمٍ عبر إغلاق بوابات الجامعة وتعليق أنشطة الحرم الجامعي.

إن مشكلة علم السياسة في مصر، والتي تتسع لتشمل نظيره في الولايات المتحدة، ترجع إلى هيمنة التقليد السلوكي، الذي يقف وراء حالة قِصَر النظر – إن لم يكن العمى – المستفحلة لدى علماء السياسة، سواء المصريين أم الأميركيين.

فرَغم أن العالم قد مضى قُدمًا وذهب إلى أبعد من السلوكية بكثير، لا يزال علماء السياسة يتشبثون بها بطريقة تشبه الاعتقاد الديني تحت ذريعة زائفة بأنها «اللعبة الوحيدة في المدينة». ومن ثمّ يتوجّب علينا مناقشة بعض معتقدات التقليد السلوكي في علم السياسة من أجل دحض ما أفقدته الأحداث مصداقيته بالفعل. يُعد الخواء القيمي أو الحياد الأخلاقي العامل الأساس بالنسبة للسلوكية، ما يعني أن الفراغ الأخلاقي هو الشرط الذي لا غنى عنه لعالِم السياسة كي يصل للحقيقة عما يقوم بدراسته.



يذهب ليو شتراوس بأن علم السياسة الذي لا يرى الاستبداد شرًا وخطرًا، بنفس الطريقة التي يرى بها الطبيب السرطان، لا يستحق أن يُسمى علمًا في المقام الأول.

يمكن أن يترتّب على اعتياد الحياد بين الخير والشر آثار خطيرة على علماء السياسة. وبعبارة ليو شتراوس، «كلما كنا – نحنُ دارسو العلوم الاجتماعية – أكثر جدية؛ طوّرنا بداخلنا حالة من اللامبالاة… أو حالة من التشتت والانحراف، حالة يمكن تسميتها بالعدمية». ونتيجة لذلك، سيقوم عالِم السياسة بازدراء كافة الاعتبارات ذات الصلة بالعام أو الخاص، وسيتعيّن عليه اللجوء إلى «قيمة» الحياد القيمي. وبعد أن خسر هامشه الأخلاقي، لن يكون عالمِ السياسة عاجزًا عن التمييز بين الأشكال الجيدة والسيئة للحكومة فحسب، لكنه أيضًا، والأكثر أهمية، سيُصبح منفصلًا عن واقعه السياسي.

تلك العلاقة المباشرة مع واقعه هي التي كانت يُفترَض لها أن تزوده بأسئلة رئيسية وتوجيه نظري ومنظومة مفاهيمية ومنهج ووظيفة. وما هو أكثر خطورة، أن ممارسة علم السياسة على هذا النحو ستفقد أي هدفٍ أو غرضٍ باستثناء الحفاظ على أمن عالِم السياسة الشخصي، إلى جانب دخله ووجاهته الاجتماعية ونفوذه.

وسوف تتحول الخبرة والمهارات العلمية إلى سلعة للبيع في السوق السياسي لمَن يدفع أعلى سعر. لا يسع المرء سوى أن يذهب إلى ما ذهب إليه ليو شتراوس بأن علم السياسة الذي لا يرى الاستبداد شرًا وخطرًا، بنفس الطريقة التي يرى بها الطبيب السرطان، لا يستحق أن يُسمى علمًا في المقام الأول.

يُمكن للمرء أن يُدرك حجم التشويه، بل حتى الإفساد، الذي ألحقه التقليد السلوكي بعلم السياسة عندما نستدعي المفهوم الأفلاطوني عن «السفسطائي». ينظر أفلاطون إلى السفسطائيين باعتبارهم أفرادًا مرتزقة يقومون بتدريس آراء الجماهير ويطلقون على تلك الآراء حكمة. بل إنه يذهب خطوة أبعد من ذلك من أجل توضيح وجهة نظره عبر وضعهم في مقارنة مع رجل يدرس بعناية شديدة طباع ورغبات وحش شرس.

مثل هذا الرجل يعلم جيدًا كيف يتعامل مع الوحش، ومتى يقترب منه، ولماذا يصبح خطِرًا أو هادئًا، ويمكنه أيضًا تفسير معنى صرخات الوحش، كما يعلم الأصوات التي يجب إصدارها من أجل تهدئته أو إثارة غضبه. بسبب كثرة التعامل مع الوحش، أصبح الرجل يقوم بمهامه الصعبة بكفاءة، ما يُبرر بالنسبة له أن يُطلق على معرفته بالوحش “حكمة”، وأن يصنع منها حتى «نظامًا» يُدرَّس.

هذا الرجل، كما يُخبرنا أفلاطون، ليس لديه أية مبادئ تُمكنه من التمييز بين الخير والشر، ومن ثَم فهو يُسمي الصالح والطالح، أو العادل والظالم، أوالشريف والوضيع من الأمور وفقًا لذوق وطباع الوحش. لسنا بحاجة لأفلاطون كي يخبرنا، أن هذا السفسطائي لن يسعى للحقيقة أبدًا وليس لديه أي غرض آخر من معرفته سوى امتطاء ذلك الوحش. كما أننا لا نحتاج لتبرير لماذا ينبغي على المرء ألا يثق في نزاهة وولاء مثل هذا الشخص.

بالأخذ في الاعتبار تشبيه أفلاطون عن السفسطائيين، فإن علماء السياسة في الوقت الحاضر في مصر جزءٌ من المشكلة وليس الحل. ليسوا هم العلاج للجسد السياسي المعتلّ. بل إن وجودهم يُعد عَرَضًا صارخًا لمرضه. إذا كان أفلاطون لم يجد بديلًا عن طرد الشعراء من «جمهوريته» خوفًا من تدمير أسسها الأخلاقية، فلنفس السبب لا ينبغي أن ندخر وسعًا من أجل أن يحظى علماء السياسة بنفس المعاملة.