منذ مقتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في غارة أمريكية بمحيط مطار بغداد مطلع يناير/كانون الثاني 2020، تعرض المشروع الإيراني لهزة مؤلمة، وظهر العديد من القادة أُطلق على كل منهم لقب «خليفة سليماني»؛ لأن الأخير كان قائدًا كاريزميًّا يتمتع بحضور وتأثير افتقده إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس الحالي، ولذلك حاول عدد من الأشخاص توزيع مسئوليات سليماني عليهم، فتم تكليف محمد كوثراني بتولي ملف العراق، وإدارة العملية السياسية به.

مسئول ملف العراق

يجمع كوثراني بين جنسيتي لبنان والعراق، ويحمل وثائق هوية بأكثر من اسم؛ فهو «محمد كوثراني» و«جعفر الكوثراني»، وله ثلاثة تواريخ ميلاد هي 1945 و1959 و1961، وينتمي إلى أسرة شيعية لبنانية لا تنتسب لآل البيت، لذا يعتمر عمامة بيضاء، وقد وُلد في مدينة النجف جنوب العراق ودرس الفقه الجعفري في حوزتها، وتزوج امرأة عراقية أنجبت له عدة أبناء، ويعد من الجيل المؤسس لحزب الله اللبناني في الثمانينيات، وخاض الانتخابات النيابية عام 1996.

وبعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين عقب الغزو الأمريكي لبغداد عام 2003، نشطت الحركات الشيعية التابعة لطهران ومنها حزب الله اللبناني، واختير كوثراني لتولي متابعة المشروع الإيراني هناك، وعمل عن قرب مع قاسم سليماني، وضباط الحرس الثوري في إدارة «ملف العراق».

ومع تولي رئيس حزب الدعوة نوري المالكي المقرب من إيران رئاسة الحكومة العراقية عام 2006، قوي نفوذ كوثراني في الساحة السياسية في البلاد وصار باستطاعته تعيين الوزراء وكبار المسئولين المدنيين والعسكريين، وامتلك كذلك نفوذًا وسلطة على الحكومة جعلته قادرًا على إجبارها على الإفراج عن أي معتقل سياسي حتى لو كان مدرجًا على لوائح الإرهاب ومتهمًا بأي تهمة.

خلال هذه الفترة ظهرت العديد من الجماعات والتنظيمات الشيعية الغامضة عُرفت باسم «فرق الموت»، واتهمت بالوقوف وراء أعمال العنف الطائفية، ووصلت هذه الظاهرة إلى ذروتها بعد تولي نوري المالكي، رئاسة الوزراء، وهو قيادي بحزب الدعوة ومقرب من طهران، ثم بدأت هذه المجموعات تظهر للعلن شيئًا فشيئًا تحت أسماء ولافتات شتى يجمع بينها العلاقة بإيران وحزب الله.

وفي عام 2007، تم الإعلان عن تأسيس كتائب حزب الله العراقي ليكون نسخة من الميليشيا اللبنانية التي تحمل نفس الاسم، عبر اندماج عدد من الميليشيات الموالية لطهران، وكان لكوثراني دور مهم في هذه المرحلة، فقد أشرف على تدريب هذه الميليشيات وغيرها ونقل خبرات حزبه إليها، واتخذ الأراضي العراقية قاعدةً لتوزيع الأسلحة الإيرانية على الخلايا والميليشيات الشيعية المنتشرة في الدول العربية كالحوثيين في اليمن، كما ساعد في نشر مقاتلين من المتعصبين الشيعة في الساحة السورية نفذوا جرائم طائفية مروعة.

وارتبط اسم كوثراني بقضايا عديدة؛ فقد وُجهت إليه اتهامات بالضلوع في تفجير مرقد سامراء عام 2006 الذي يضم رفات اثنين من أئمة الشيعة الاثني عشر، وهما علي الهادي والحسن العسكري، وهو الحادث الذي أشعل شلالات من الدماء في مواجهات طائفية أغلب ضحاياها من أهل السنة، كما اتُّهم كوثراني بالوقوف وراء هجمات على قوات الاحتلال الأمريكية في العراق ومقتل 5 منهم عام 2007.

وفي يوم 22 أغسطس/آب 2013، تم فرض عقوبات عليه من جانب وزارة الخزانة الأمريكية وتصنيفه كإرهابي عالمي، على خلفية اتهامه بدعم حركات إرهابية في عدة دول، منها اليمن، وإرسال مقاتلين إلى سوريا لدعم نظام الرئيس بشار الأسد، وهذا القرار يتيح حظر جميع ممتلكات الأشخاص المتهمين بالإرهاب، ومنع الأمريكيين بوجه عام من إجراء أي معاملات معهم، وتجريم محاولة توفير أي دعم مادي لهم.

وفي عام 2015 فرضت المملكة العربية السعودية على كوثراني وبعض أعضاء حزبه عقوبات على خلفية تهم تتعلق بالإرهاب وتمويله، وتم حظر تعامل المواطنين السعوديين معهم.

وقد استطاع كوثراني التربح من عمله بشكل كبير؛ فله شركة مقاولات في العراق يديرها شقيقه عدنان، وكان هشام الهاشمي، الباحث في الشئون الأمنية والاستراتيجية، والمقرب من رئيس الوزراء العراقي، يعد دراسة حول الإمبراطورية المالية لحزب الله اللبناني في العراق، أرسل نصوصًا منها إلى عدد من أصدقائه قبل اغتياله في بغداد في يوليو/ تموز 2020، على أيدي عناصر كتائب حزب الله العراقي.

واطلع الهاشمي على وثائق استخباراتية رُفعت عنها السرية، ومحتويات مكالمات هاتفية، ولقاءات مع ضباط ومختصين بمكافحة غسل الأموال، وخلص إلى أن التعاملات المالية المرتبطة بميليشيات الحشد الموالية لطهران، تدر على الحزب اللبناني

حوالي 300 مليون دولار سنويًّا

؛ إذ يستبيح المال العام العراقي ويجني ثروات كبيرة من الاستيلاء على ممتلكات الوزارات والمواطنين المهجرين، ويدير استثمارات اقتصادية مستغلًّا كونه جماعة غير محظورة في هذا البلد المنكوب.

خلافة سليماني

ظل الكوثراني مسئولًا عن

ملف العراق

في حزب الله اللبناني فكان يتدخل لفض الخلافات بين فصائل الحشد الشعبي، ويعالج الانقسامات بين الحشد الولائي (أي الموالي للحرس الثوري الإيراني)، وحشد المرجعية (الموالي لحوزة النجف ممثلة في المرجع علي السيستاني)، والتيار الصدري الذي تتبع له قوات سرايا السلام.

ولدى اشتعال انتفاضة تشرين عام 2019 ضد النفوذ الإيراني في بغداد، كان كوثراني يدير عمليات قمع الاحتجاجات الشبابية في المحافظات الشيعية جنوب العراق، والتي خلفت الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين، نتيجة الهجمات على المتظاهرين، والصدامات التي اشتعلت بينهم وبين فصائل الحشد، حيث أحرق المحتجون القنصلية الإيرانية في النجف ٣ مرات

في أسبوع واحد

.

وفي الثالث من يناير/ كانون الثاني 2020، تم اغتيال سليماني قرب مطار بغداد، وسرت

شائعات

عن موت كوثراني في نفس الغارة، وأنه كان في الموكب المستهدف، لكن حزب الله نفى مقتل أي لبناني في هذا الحادث.

تم تكليف مسئول ملف العراق في الحزب اللبناني بتولي مهام قائد فيلق القدس الراحل، فجمع قادة فصائل الحشد لمواجهة الموقف لا سيما وأن حادثة الاغتيال شملت أيضًا أبو مهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي، وأهم شخصية فيه، مما زاد من ثقل المهمة.

حاول الرجل تقمص دور سليماني مما جعل برنامج «

مكافآت من أجل العدالة

» التابع لوزارة الخزانة الأمريكية يعلن في أبريل/نيسان 2020 عن مكافأة مالية قيمتها 10 ملايين دولار مقابل الإدلاء بأي معلومات عن أنشطته وشبكات علاقاته ومعاونيه، على خلفية اتهامه بدعم فصائل استخدمت العنف في قمع التظاهرات الشعبية في العراق، وهاجمت البعثة الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة الخضراء ببغداد.

ومع ذلك ظل الكوثراني يتعامل وكأنه الحاكم غير الرسمي للعراق؛ ففي واقعة تكشف مدى نفوذه هناك، بعث أهالي منطقة جرف الصخر السنية ممثلًا عنهم لتسمح لهم ميليشيات الحشد الشعبي بالعودة إلى منطقتهم التي هجرتهم منها بحجة الحرب على الإرهاب، وظل عدنان الجنابي، شيخ غالبية سكان الجرف، يتنقل هنا وهناك حتى تلقى نصيحة بالذهاب إلى طهران لأن الأمر خارج عن سلطة الميليشيات العراقية، ولما ذهب إلى إيران قالوا له إن الحل ليس لديهم، وطالبوه بالذهاب إلى بيروت للقاء محمد كوثراني باعتباره مسئول ملف العراق.

وقد

ألمح

رئيس الوزراء العراقي الأسبق، إياد علاوي، إلى هذه الواقعة، مبينًا أن حديثه مع قادة الحشد الشعبي حول إعادة النازحين من أهل السنة إلى جرف الصخر لم يُجدِ نفعًا، واستنكر علاقة رجل في لبنان بهذه القضية العراقية، مع العلم بأن كل المحاولات لحل هذه القضية باءت بالفشل، وظلت جرف الصخر بمثابة عاصمة لميليشيات الحشد الولائي حتى اليوم.

الوساطة بدلًا من القيادة

حاول القيادي بحزب الله أن يقوم بدور صانع الملوك بالتعاون مع السفير الإيراني السابق في العراق، إيرج مسجدي، عبر الضغط لاختيار أسماء معينة لحكم العراق بعد موت سليماني، لكن لم يستطع فرض أي شخص برغم ما بذله من جهود حثيثة واتصالات.

وأثبتت التجربة أنه لم ينجح في سد الفراغ الذي تركه اغتيال قائد فيلق القدس الراحل؛ لأنه يفتقر إلى المؤهلات الكافية لتبوء هذه المكانة، فالأحزاب والميليشيات الولائية لا ترى فيه قائدها المطاع أبدًا كسلفه الراحل، لذلك فشل فشلًا ذريعًا في إقناع الأطراف الشيعية بالتوحد والتوافق وتصدَّع ما يسمى بـ «البيت الشيعي»، ولم تفلح زياراته واتصالاته في إنجاز المهمة المكلف بها، حتى ضج منه قادة الميليشيات وتحدثت تقارير عديدة عن طرده من العراق لفترة من الوقت بعدما أصبح شخصًا غير مرغوب فيه.

ومؤخرًا بعد احتدام الخلافات الشيعية الشيعية بين التيار الصدري وقوى الإطار التنسيقي المقربة من الحرس الثوري، ووصول هذه الخلافات إلى مرحلة الاقتتال المسلح، حاول كوثراني رأب الصدع بين الطرفين للحفاظ على وحدة البيت الشيعي، وهي مهمة صعبة جدًّا لم يفلح في إنجازها على مدى عام كامل منذ الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2021.

فبعض أطراف الإطار التنسيقي ظلت ترفض

محاولاته

للتمديد لرئيس الوزراء المؤقت، مصطفى الكاظمي، بهدف فرض مرشحها محمد شياع السوداني، بدلًا منه، ووقعت انقسامات داخل الإطار التنسيقي نفسه على هذا الموضوع، حتى تم تنصيب السوداني.

وتزعم رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، الجناح المعارض لكوثراني، وأيده في ذلك قيس الخزعلي الأمين العام لما يسمى «عصائب أهل الحق»، وقد ذكرت تقارير أن ممثل حزب الله كان وراء وقف المعارك في المنطقة الخضراء مؤخرًا بين أنصار الإطار التنسيقي ومقتدى الصدر، حيث تواصل مع الأخير وتوسط لمنع استمرار المواجهات المسلحة بين الطرفين، فالتوترات في العراق تؤثر على النفوذ الإيراني في المنطقة خاصة الساحتين السورية واللبنانية.