عن قصة حياة مغني الأوبرا الاستثنائي «أندريا بوتشيلي» تدور أحداث فيلم «موسيقى الصمت – The Music of Silence» للمخرج الإنجليزي مايكل ردفورد الذي سبق أن أخرج رائعة شكسبير «تاجر البندقية» عام 2004 من بطولة النجم الكبير آل باتشينو.

من سبق واستمع لأعمال المغني الإيطالي بوتشيلي (59 عامًا) لا يستطيع مقاومة صوته الساحر الذي يبدو وكأنه قادم من السماوات العلا، ولا الوقوع في غرام تعبيرات وجهه العذبة، ولا التساؤل حول عينيه الحزينتين المغلقتين دائمًا، والتي لم أكن أعلم – حتى وقت قريب – أنهما مغلقتان لأنه فقد بصره وهو صغير، فقد ولد بوتشيلي بنظر ضعيف ثم فقد نور عينيه تمامًا إثر حادث أثناء مبارة لكرة القدم مع أقرانه.

يتتبع الفيلم البديع أثر تلك الحادثة على معنويات بوتشيلي الصغير الذي عهدت به أسرته إلى مدرسة داخلية للأطفال فاقدي البصر، حيث تعهدته معلمات إيطاليات شديدات الرهافة بالرعاية الفائقة، قبل أن تكتشف معلمة الموسيقى أثناء أدائه وصلة غنائية مع أقرانه أن صوته مختلف ورائق ولم تسمع مثله قط في حياتها.

على الرغم من شعور عائلته بالشفقة والحزن من أجله، فإن عمه أخذ على عاتقه تنمية هذه الموهبة العظيمة لدى ابن أخيه، ولم يمنعه شعور الطفل باليأس وهبوط معنوياته بعد فقدان نظره التام، من أن يدفعه دفعًا للذهاب إلى مسابقات موسيقية لاكتشاف المواهب، وفي كل مسابقة كان الصغير بوتشيلي يصعد للمركز الأول دون عناء، وهنا يقرر أن يهب حياته للموسيقى ليكون الغناء مهنته الوحيدة التي لا يفعل شيئًا سواها.

لم يكن يعلم بعد أنه سيصير مغنيًا أوبراليًا، فقط كان يغني في بار ملحق بمطعم، ورويدًا رويدًا كان عدد معجبيه ومعجباته في زيادة دائمة، ومع الوقت أصبح الناس يأتون من كل أنحاء إيطاليا للاستماع لهذا المطرب الشاب مليح الوجه رهيف الأحاسيس عذب الصوت.

في إحدى المرات، يأتي إلى المطعم مجموعة من الشباب للاحتفال بعيد ميلاد إحدى صديقاتهم، وتقوم إحدى فتيات المجموعة – وهي مغنية أوبرالية – بالصعود إلى المنصة وتهمس في أذن بوتشيلي بكلمات، قبل أن يصدحا معًا بأغنية مهداة خصيصًا لفتاة عيد الميلاد. وهنا تقع تلك الفتاة في حب بوتشيلي، وتقترب منه بعد الحفل لتصارحه بافتتانها اللحظي به، ولا يمضي وقت طويل من المواعدة حتى يتزوج بوتشيلي بمعجبته الشابة التي تبدأ معه رحلة حياة تسانده فيها ليصير النجم الكبير الذي نعرفه الآن.

المخرج «مايكل ردفورد» قام بتصوير مشاهد الفيلم كاملة في إيطاليا في إطار بصري بسيط للغاية دون أدنى قدر من البهرجة، مع إعطائه الأولوية القصوى لإمتاع المشاهد سمعيًا عبر موسيقى وأغاني بوتشيلي الذي تعلم العزف على البيانو أيضًا. ميزانية الفيلم تبدو محدودة للغاية والعناصر الدرامية بسيطة خالية من الافتعال، مع تركيز كامل على المشاعر المتضاربة التي تضطرم داخل نفس هذا الشاب القلوق الذي يرغب في الوصول للقمة، وكيف أن فقدان بصره كان في الكثير من الأحيان مصدر يأس كبير بالنسبة له، إلا أن موهبته، ودعم أهله، وزوجته، كانوا دائمًا طوق النجاة الذي يخرجه من غياهب الاكتئاب ويدفعه دفعًا للوصول لحلمه.

لاحقًا يتعرف من خلال صديق مشترك على مايسترو عظيم متخصص في تدريب المواهب الاستثنائية – يلعب دوره الممثل الإسباني الشهير أنطونيو بانديراس – يقوم بسؤال بوتشيلي: «هل أنت على استعداد أن تنسى حياتك التي تعرفها؟»، ويخبره أنه لكي يصير مغني أوبرا عظيمًا، عليه أن يتأقلم على نظام دقيق وصارم، عليه أن يترك الغناء في البار، وعليه الإقلاع عن التدخين والشرب حتى لا يأثرا على نقاء صوته، وأن يتعلم النوم والاستيقاظ مبكرًا من أجل المران، وعليه أيضًا – وهو الأمر الأهم – أن يصمت تمامًا، الصمت هو المفتاح، عليه أن يوفر صوته من أجل الغناء وفقط، الكثير من الصمت والكثير من المران المحسوب.

يجتذب بوتشيلي انتباه إحدى شركات الإنتاج والترويج الموسيقي، الذي تعده بجولة موسيقية مع المغنى الإيطالي الأسطوري «بافاروتي»، لكن الأيام تمضي واحدًا بعد الآخر دون أن تتصل الشركة بالشاب القلوق لتخبره بموعد انطلاق الجولة، يصيبه اليأس مرة أخرى، وتتعرض علاقته الزوجية باضطراب شديد، ويكاد يفقد الأمل في أن يصير المطرب الكبير كما يرغب، لكن زوجته تقف وراءه كالصخرة الثابتة، وتأتيه المكالمة في النهاية، وفي إحدى الليالي حيث يصدح في بداية الجولة، يصور لنا «ردفورد» نوافذ البيوت الإيطالية التي تومض كلها بلا استثناء بنور أجهزة التليفزيون التي تنقل الحفل، الآن حقق ما يرغب فيه، الآن كل إيطاليا تستمع إليه.

فيلم «The Music of Silence» من الأفلام القليلة التي تحتفل بسيرة واحد من العظماء أثناء حياتهم وليس بعد أن يرحلوا عن عالمنا كما العادة. الفيلم لا يقدم فقط وجبة موسيقية دسمة لعشاق الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الأوبرا، ولكنه ومضة ساطعة في ظلام اليأس والاكتئاب التي تعتري الكثير منا أحيانًا، لتؤكد أن العمل الدؤوب والعناية بالموهبة والإيمان بها هي التي تمنحنا النجاح الذي نستحقه في النهاية.

في سبتمبر/أيلول من عام 2010 – قبل الثورة بقليل – أحيا بوتشيلي حفلًا عند سفح الأهرامات بمصر، وقتها كنت شديد الحزن لعدم قدرتي على حضور الحفل نظرًا للسعر الباهظ للتذكرة، لكن الفيلم جاء ليعوضني عن ذلك، لم أشعر فقط بالمتعة والإشباع، ولكن أيضًا لأن هذا النجم مثلنا قادم من عائلة بسيطة، وشق طريقه للنجاح بالكثير من العرق والتعب، شعرت بصلة شخصية ما معه، وأن حياته وموهبته لا تقتصر فقط على موسيقاه وغنائه، وإنما الخيط الخفي لتلك الصلة يكمن في قدرته الدائمة على الإلهام، إلهامي لكي أصير شخصًا أفضل، إلهامي كي أجد صوتي الخاص وموهبتي الخاصة، والعمل عليها – وسط الصمت – حتى أصير يومًا ما أتمناه.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.