(1)

هى النهاية يا صديقي

نهاية كل خططنا

نهاية كل شيء كان موجودا

لا نجاة ولا مفاجآت

لن أنظر فى عينيك مرة ثانية

-the end-

كادر ثابت على غابة استوائية وصوت مروحية يظهر في خلفية شريط الصوت موسيقى the end تعلو مع أصوات انفجارات النابالم، صوت البشرية اليائس أمام القوة الغاشمة، ربما كانت أعظم افتتاحية فى تاريخ السينما؛ لم نشاهد افتتاحية بهذه العظمة منذ الأب الروحى لنفس المخرج: فرانسس فورد كوبولا.

نحن في الستينات، العالم مقسم بين معسكرين في حرب ليست باردة بالمرة؛ أمريكا واقعة في وحل فيتنام باحثة عن خروج مشرف؛ آلاف الجنود الأمريكيين يعانون على بعد آلاف الأميال من أرضهم في مهمة طالت مدتها، شوارع واشنطن لا تخلو من المظاهرات اليومية ضد الحرب.

ليس الداخل أهون من الخارج، حركة حقوق الملونين على أشدها ومسيرات سيلما وغيرها تواجه بالعنف، اغتيالات طالت شخصيات عامة ووصلت لرئيس الدولة.،وسط كل هذا يخرج جيلًا من الشباب الرافض لتقبل الوضع على ما هو عليه؛ جيل هرب من الحداثة لعالم من صناعته.

جيل الهيبيز والحرية الجنسية وأخيرا السينما الواقعية.

من وحي هذا الجيل يخرج علينا كوبولا وغيره من المخرجين الشباب بأحلام صناعة سينما جديدة أكثر صدقًا وتعبيرًا عن البشر، ومشروعه الأهم كان صناعة فيلم عن حرب فيتنام. المشروع استلزم منه سنتين من العمل في أسوأ ظروف في غابات الفلبين؛ بين ممثل مخمور وطاقم تمثيل أدمن المخدرات. هو نفسه حاول الانتحار أكثر من مرة أثناء التصوير! مشاهد تطلبت تدمير غابات حقيقية بنبالم حقيقي ليخرج علينا بنسخة من ثلاث ساعات ونصف مرتجلة المشاهد ومتعددة النهايات وأيقونة حقيقية ما زالت تعتبر أفضل الأفلام الحربية.

01

فرانسيز كوبولا أثناء تصوير القيامة الآن

(فرانسيز كوبولا أثناء تصوير القيامة الآن)

قصة الفيلم مستوحاة من رواية قلب الظلام لجوزيف كونارد عن عقيد خارج عن السيطرة بالجيش الأمريكي يدعى كيرتز، يستقل الضابط عن الجيش ويكون جيشه الخاص من المواطنين الفيتناميين على جزيرة منعزلة عن الحضارة. لم يكن كيرتز مجرد قائد بل كان إلهًا عبدوه ونفذوا معه عمليات قتل. هنا تقرر الاستخبارات إرسال ضابط -كابتن ويلارد- لقتله، مارتين شين الذي أدى الدور لم يكن هو نفسه سويًا، فبعد سنوات من القتال لم يستطع العودة إلى منزله بأمريكا وفضل البقاء بعيدًا عن أسرته في فيتنام.

(2)

||في لحظات الجنون ينشأ صراع داخل قلب كل رجل بين العقلاني واللاعقلاني، بين الخير والشر، والخير لا ينتصر دائما||

بهذه الجملة يفسر الكولونيل لكابتن ويلارد ما حدث مع العقيد كيرتز، مس من الجنون أصابه، حتى ملامح الكولونيل غير مقتنعة بما يقول!

ليست قصة العقيد كيرتز هي محور الفيلم لكنها معبرة جدًا عن روح الإنسان الذي أصابته فظائع الحرب بصدمة كفيلة لجعله يكره كل ما هو حداثي بأخلاقه وأكاذيبه وادعائه الفضيلة حتى أثناء القتل. المتابع للحوار بين العقيد كيرتز وويلارد سيدرك أنه بالتأكيد مضطرب؛ لكن السؤال الذي يطرحه كوبولا بمكر: من الأكثر اضطرابًا: العقيد كيرتز الغريب الأطوار، أم الكولونيل في سمته الهادئ وحجته المقنعة؟!

(3)

وأثناء الرحلة السرية للتخلص منه داخل قارب فى نهر يشق فيتنام يستعرض معنا كوبولا مأساة الحرب. كانت أول محاولة ناجحة للتغلب على تابو الجندي العظيم الذي يدافع عن وطنه؛ هم يشربون المخدرات ويلهون مع الفتيات إذا سُمح لهم ويحلمون بالعودة إلى الوطن. في أجمل مشاهد الفيلم يُقتل فتى حدثًا وفي الخلفية رسالة صوتية مسجلة من أمه تحدثه عن العودة القريبة. الحرب لا تعترف بالأخلاق والكل يكرهها. يدفع الثمن في النهاية الجنود البائسون ويجني ثمارها الساسة.

أكثر ما يميز الفيلم الأصالة، فجمل حوارية كثيرة منقولة من على لسان جنود حقيقين عادوا وحكوا. كثير من نصوص الحوار تم ارتجالها داخل أماكن التصوير، ويثير الاستغراب أن كوبولا بدأ التصوير بدون خط نهاية واضح في ذهنه فنجد ثلاث نهايات مختلفة! حاز الفيلم على جائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان؛ وأثناء المؤتمر الصحفى يقول كوبولا:

||ليس فيلمي عن فيتنام، بل هو فيتنام، مثل الجيش الأمريكي كان معنا مال كثير ومعدات كثيرة وبالتدريج انجرفنا للجنون||

ليس في الجملة مبالغة، طاقم التمثيل معظمه كانت أول تجربة تمثيل له؛ ممثلون هواة مدمنون، حتى dennis hopper الممثل العتيد يتعاطى الكوكايين أثناء التصوير فيخرج عن النص ويلقي قصائد سوداوية بدلا من جمله الحوارية! مشهد البداية لـ مارتن شين أداه مخمورًا وعاريًا (تجد الفيديو في الفقرة التالية)!

(4)

يعتبر الفيلم قمة التجربة البصرية في مسيرة كوبولا: صور زيتية على شريط 70 مم لا يمكن عرضه في السينمات العادية من نوع ال 35 مم، وشريط صوت يستخدم لأول مرة، بين مشاهد يغلب عليها اللون الأزرق داخل الغابة مثيرة للراحة وأخرى باللون البرتقالي لغروب يثير القلق قبل بدء القتال، وأخرى قاتمة داخل ساحات القتال، تدرج لوني وتجربة بصرية لا تنسى.

اختيار كوبولا لأكثر الأغاني كآبة في تاريخ الروك أضافت لشاعرية المشاهد ولم تختلف عنها المؤثرات الصوتية.

ترك Robert Duval بصمة داخل الفيلم على صغر دوره في ثالث مشاركة له مع كوبولا.. عقيد غريب الأطوار يحب الحرب ويستمتع بسماع الموسيقى أثناء القتال ولا يخشى الموت. جملته بعد نهاية القتال عن رائحة النبالم التى تشبه رائحة النصر، أصبحت أيقونة.

مارتين شين بملامحه الجامدة وهيئته الرياضية.. سلوكه العدمي المخلوط بصرامة عسكرية ونظرات قلقة يحاول إخفاءها أثبتت أنه أدرك حقيقة نفسية البطل جيدا.

براندو الذي أدى آخر الأدوار المهمة في تاريخه الحافل ترك بصمة لا تنسى على صغر دوره.. الملامح المتأزمة والحركة البطيئة صادرة عن شخص مليء بالغضب وليس شخصا مخبولا كما صوره الكولونيل.

02

نفسية كيرتز هي سؤال الفيلم الذي يحتاج لإجابة.. عدو الحداثة الراغب في العودة لغريزة الإنسان الأول مع أخلاق القوة. أصداء لفلسفة نيتشه يعرضها كوبولا ببراعة فلا تتعاطف معها ولا تتعاطف مع عدوه أيضا؛ وهو المطلوب.

يطرح الفيلم بالتلميح أسئلة عن طبيعة الخير والشر وما المقياس لهما؟ متى يصبح القتل ضرورة؟ وكيف ينجرف البشر في لحظات الحقيقة؟

يعتبر الفيلم أهم أفلام معاداة الحروب التي بدأت مع (كوبريك) في: Paths of glory و Dr. Strangelove ثم Deer Hunter، واستمرت بعده في Platoon. نرى فيها دور السينما الحرة في مواجهة النظام. في نهاية فيلمنا يخبر العقيد كيرتز الكابتن ويلارد:

||اذهب إلى منزلي، أخبر ابني عن حقيقة ما حدث، لا تجعلهم ينشرون أكاذيبهم||

الحقيقة أن نهاية الفيلم أثارت بعض السخط.. كوبولا نفسه يعترف بأنها ليست على المستوى المطلوب..

(5)

حوارات كثيرة دارت في الفترة الأخيرة حول اختلاف الأفلام الحربية السبعينية عن فيتنام عن نظيرتها المصنوعة عن العراق، نذكر مثلا: the hurt locker و American sniper، رؤية مختلفة بين جيلين أحدهما ضد الحرب بكل صورها وآخر يقدم تبريرا مؤسفا لما حدث على أنه صراع حتمي يجب أن نخوضه؛ تبريرا يمكن وصفه بالسطحية على أقل تقدير. لا يمكن فصل هذا عن صعود اليمين في العالم الغربي وصعود الحركات القومية المتطرفة، وإذا صدقنا ما يشاع عن تمويل الاستخبارات الأمريكية لتلك الأفلام يحق لنا أن نقلق على مستقبل صناعة السينما.

(6)

سمى كوبولا فيلمه (القيامة الأن) ليخبرنا أن لحظة القيامة لإيقاف هذا الجنون قد حانت.. لا يمكن أن نستمر بهذه الطريقة.. صوته ضد الإمبريالية التي يدفع ثمنها البؤساء وضد من يرد العنف بالعنف والرعب بالرعب.. أصداء يأس واضحة في الفيلم؛ يأس من أن يأتي يوم ليوقف الجنون.. ولكن علينا أن نملأ العالم صراخا مادمنا أحياء .