في

المقال السابق

، تحدثنا على محاولة الصخيرات الانقلابية، أو ما عرف تاريخيا بانقلاب الريف ضد القصر، حيث أن أغلب قادة وعناصر هذا الانقلاب كانوا ينحدرون من أصول ريفية ومن جبال الأطلس تحديدًا.

صحيح أن جمهورية أعبابو قائد انقلاب صخيرات لم تستمر إلا ساعات قليلة وسقطت، لكن كلفتها كانت باهظة للغاية على المغرب الحديث حيث أنتجت مأساة سجن تازمامارت الرهيب (غوانتنامو ذالك العصر).



قضى تسعة جنرالات من أصل خمسة عشر في انقلاب الصخيرات والتصدي له، هو ما وُصف بالكارثة العسكرية.

الكن المأساة الحقيقية كانت في الشرخ النفسي الذي حدث بين الجيش والقصر حيث كان تعداد الجنرالات في الجيش الملكي المغربي حينذاك خمسة عشر جنرالا قضى منهم في محاولة الإنقلاب والتصدي لها تسعة جنرالات. وهذه خسارة عبر عنها الصحفي الفرنسي جيل بيرو «بأنها كارثة عسكرية لم تعرفها أي حرب مهما بلغت حدتها». لكن كان هناك أمر أكبر من ذلك يحز في نفس الملك وهو أنه أثناء سيطرة الانقلابيين على مبنى الإذاعة وإعلان خبر مقتله لم تتحرك أي ثكنة من الثكنات العسكرية المنتشرة في العاصمة لثأر، بل تعاملت جميعها بلامبالاة طرحت العديد من نقاط الاستفهام حيث أن أيًا منها أيضا لم تعلن ولاءها التلقائي لولي العهد المنصَّب آنذاك محمد السادس (الذي كان يبلغ من العمر 8 سنوات).



ما حز في نفس الملك، أنه أثناء سيطرة الانقلابيين على الإذاعة لم تتحرك أي ثكنة من الثكنات العسكرية في العاصمة للثأر.

هكذا اهتزت هيبة العرش العلوي، ومن قبل الكيان الذي كان يعول عليه في الذود عنه: الجيش. وبعد تغيرات سريعة واجتماع للحكومة في القصر، قرر الحسن الثاني السفر إلى الريف الشمالي الفرنسي ليريح أعصابه وفوَّض كل صلاحياته الأمنية والعسكرية إلى وزير داخليته حينذاك ودفاعه فيما بعد الجنرال محمد أوفقير، الرجل الذي كان كلما ظهر خرق في رداء النظام، رتقه.


الجنرال غارقُ في متاهته

عندما تنظر إلى صوره تجده رجلا طويل القامة، نحيف الجسم، له شعر أملس فاحم وملامح وجهه تقترب في حدتها من الصقر. له ضمور ذئب، ومكر ثعلب، وتربص نمر. هذه الأوصاف وغيرها لم تكن على سبيل المبالغة. كان يستشعر في نفسه طموحًا متوقدًا، يبقي أهدافه غامضة، ويدرك أنه ذو مهابة عالية بين أقرانه وأعدائه. إنه الجنرال محمد أوفقير المولود في عام 1920 على تخوم الشرق المغربي، وكان الابن الثاني لـ أحمد بن قدور أوفقير؛ لأب كان يمتهن قطع الطريق والسلب والنهب، كان يغير على عشرات القوافل القادمة من الجنوب المغربي والحدود الجزائرية ويستولي على حمولتها من أموال وحبوب. لكن مع قدوم الاحتلال الفرنسي أعاد الأب تموضعه فتغيرت وظيفته ليصبح وجيهًا لضيعته الصغيرة، عين الشيخ وعونا من أعوان الاستعمار.


http://gty.im/51400218

أمام إعجاب والده الشديد به، قرر أن يمنحه خنجره ذا الغمد النحاسي المرصع بالفضة الذي يحمله معه منذ ستين سنة، مشدودا إلى صدره بضفيرة من الصوف. كان يريد أن يعلمه كيف يتم في أيام «الغزو» نزع الاعتراف من سجين حول مخبأ الكنز. يتم ذلك عبر غرز طرف الخنجر قليلا في عدد لا متناه من النقط الصغيرة بين الأضلع. بالكاد يكون الأمر وخزا، لكن بسرعة كبيرة، وبشكل شبيه بالوخز بالإبر، تتقطع أوصال الضحية ألما، لدرجة تفقده أنفاسه والتحكم في ذاته. سابقا، لم يستطع أي شخص المقاومة. حمل محمد الخنجر بين يديه واتجه نحو الأفق. وكأحد أبناء الإقطاعيين الجدد الذين صنعهم الاستعمار تلقى تعليمه في المدارس التي أنشأت لفصل القبائل البربرية عن جذورها الإسلامية من خلال نظام تعليمي وصفه الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري بأنه كان «يعمل على قولبة سلوك المغاربة وتعليب وعيهم وتعويدهم الطاعة والخضوع والاستسلام».

شارك أوفقير في الحرب العالمية الثانية ونال وسام صليب الحرب، ودخل روما يحمل العلم الفرنسي في استعراض عسكري مهيب. وقد حارب في الهند الصينية كجندي فرنسي. وقد أورد جيل بيرو الصحفي الفرنسي في كتابه «صديقنا الملك» شهادة بعض رؤساء أوفقير أثناء الحرب، وقد تحدثوا عن شجاعته التي لا لبس فيها، و قسوته التي كانت أيضا لا حد لها.

استعد أوفقير لأن يكون مخزني (بمعنى رجل القصر، وقد فسرنا طبيعة المخزن في المغرب في المقال السابق).عند عودة الملك محمد الخامس من المنفى، انتهز أوفقير الفرصة وكان ممن استقبلوا الملك عند عودته بعد أن تقدم أحد رجال الشرطة وهو يحمل مسدسين ليقدمهما لسائق الملك لحمايته؛ لكن أوفقير استولى عليهما دون استشارة أحد، وجلس بالقرب من الملك مطمئنًا إياه أنه لن يكون في خطر طالما هو في جانبه. ومن خلال هذه الحركة البهلوانية، نصَّب نفسه مرافقًا عسكريًا للملك محمد الخامس، ثم الذراع الأيمن لوريثه الحسن الثاني.

لعب أوفقير دورًا حاسمًا في كسر انقلاب الصخيرات لاشك في ذلك؛ لكن ثمن إثبات ولائه للملك لم يكن فقط التصدي لانقلاب، بل كان عليه أن يشرف على إعدام رفاقه الذين اشتركوا في الانقلاب، خصوصا رفيقه في الدراسة والطفولة والبندقية الجنرال بوغرين. كان على أوفقير أن يشهد إعدام رفاقه الذين كانوا عائلته الحقيقية وبأمر منه سيطلق عليهم النار من فوهات بنادق جنوده في معسكر مولاي إسماعيل. في هذه الحظة على ما يبدو، فقد رجل النظام إيمانه به بالكلية.


الملك ذهب ولن يعود

يقال أنه في لحظة وداع أوفقير للملك الحسن الثاني في مطار طنجة متوجهًا إلى فرنسا ليقضي عطلته بعد أن فوَّض إليه كل صلاحياته الأمنية والعسكرية، أثار الانتباه عندما بادر أوفقير إلى الانحناء مقبلًا يد الملك ظاهرًا وباطنًا ثم أجهش في البكاء. ومع اقتراب عيد ميلاد الملك ولَّى عائدًا إلى المغرب.


http://gty.im/51400219

كانت طائرة البوينغ الملكية تحلق في أجواء مدينة تطوان، عندما ظهرت 6 طائرات من طراز F5 التي قدمتها أمريكا حديثا للمغرب كهدية. ظنها الملك مبادرة من أوفقير للترحيب به بمرافقة ست طائرات حربية لطائرته كموكب تشريفي؛ لكن ما إن مضت دقائق حتى بادرت إحدى الطائرات بتصويب رشاشاتها بكثافة نحو الطائرة البوينغ التي كان يستقلها الملك فتعطل محركان من محركات الطائرة الثلاثة ثم قامت الطائرات الخمس المتبقية بنفس الأمر ورشقت الطائرة التي كانت تتأرجح في السماء على ارتفاع ثلاثة ألاف أمتار، وبسرعة 900 كيلومتر وبدأت تهبط طائرة البوينغ 1000 متر.

قدر الجميع أنها النهاية والملك الذي نجا من انقلاب لم تمض عليه شهور، ها هو سيتشظى في السماء ولن يكون له قبر. وبدأ الرصاص يثقب هيكل الطائرة فقتل حارس الملك وجرح سكرتيره الخاص ومصوره بجروح بليغة، لكن الحسن الثاني أبدى برودة أعصاب رهيبة ورباطة جأش غريبة وجلس في قمرة القيادة مع الطيار ومساعده.


الملك ذو الأرواح السبعة

لكن قائد الطائرة الملكية «قباج» خطرت في ذهنه حيلة ربما تنجيهم، وأمر ميكانيكي الطائرة أن يعلن في اللاسلكي موت الطيار ومساعده وموت الملك أيضا؛ لكن الحسن الثاني اعترض على هذا الحل، وقال إذا كان لابد فليُقل: مصاب بجروح خطيرة لكن لم يمت بعد. وعلَّق على ذالك الصحفي الفرنسي جيل بيرو بالقول بأن «موت الملك يعني فراغ في السلطة، أما الملك الجريح فيبقى ملكًا على كل حال».


http://gty.im/110154400

كانت الحواسيب تقول عن تكامل أضرار الطائرة بعد حسابها، أن فرصة نجاة هذه الطائرة بعد مجموعة الأعطاب التي تعرضت لها لا تتجاوز الواحد من المليار. استخلص الخبراء الذين فحصوا الطائرة أن حظًا استثنائيًا خارقًا حال بمعجزة دون انفجار الطائرة في الجو.

هكذا استطاع الطيار الماهر أن يهبط بالطائرة. ومن بعدها صعد الملك إلى السيارة المرسيدس التي نقلته كيلومترين حيث قاعة الاستقبال. الرجل الذي نجا لتوه من محاولة اغتيال محققة تتحكم فيه شهوة بقاء عارمة جعلته يستعرض حرس الشرف ويؤدي لهم التحية كما يظهر في الفيديو النادر للحادثة:

لم يكن أوفقير من مستقبلي الملك في المطار. وحين علم بنجاة الملك ووجوده في المطار حاول أن يكمل المهمة التي فشلت في الجو على الأرض، وأن يستهدف قاعة الاستقبال التي يجلس فيها الملك بقصف جوي، لكن الملك سارع في الخروج رفقة أخيه وأفراد حراسته من خلال غابة صنوبر قريبة من المطار. فوقع الهجوم على المطار بعد خروج الملك منه فقتل 8 أشخاص من بينهم وزراء، وساد هرج ومرج في المطار، ثم قام الملك بعملية تمويه أخرى حيث أرسل سيارات الموكب وركب هو سيارة قادها بنفسه.

اعتقد رجال أوفقير توجه الملك نحو القصر الملكي في الرباط فتوجهت الطائرات أيضا لتقصف القصر وأوقعت قتلى وجرحى لكن بدون أن يكون هنالك أثر للملك.

هكذا نجى الملك مرة أخرى من الموت المحقق ليروج الكثير عن بركته بين المغاربة بحظه الذي لا يقهر.


نهاية الجلاد ومأساة العائلة

لعله لم يخطر ببال محمد أوفقير يومًا أن نهايته لن تكون بعيدة عن النهاية الغامضة التي صنعها هو نفسه بالمعارض البارز المهدي بن بركة، الذي مايزال مجهولا حتى هذه الحظة كيفة موته.

فقد تحدثت الرواية الرسمية عن انتحار بهلواني قام به أوفقير حين علم بفشل انقلابه ونجاة الملك، من خلال الانتحار بـ 3 رصاصات من خلال إطلاق رصاصة على صدره وأخرى على جبينه والثالثة في ذراعه (نموذج إنتحار شبيه بانتحار الشخصيات العسكرية السورية في عهد البعث حين كان المنتحر يطلق رصاصتين على رأسه في نفس الحظة)!

لكن زوجة أوفقير الفاتنة فاطمة شنا كانت لها رواية أخرى في سيرتها الذاتية المعنونة بـ «حدائق الملك» التي تروي فيها رواية أخرى للأحداث حيث تقول في الصفحة 115 من الكتاب: «لم يكن زوجي يسعى لتقويض الملكية. أراد إقصاء الحسن الثاني، وخلق الشروط الملائمة لتنصيب ولي العهد على العرش فيما بعد. لم يفكر في نظام عسكري».

فاطمة أوفقير أرملة الجنرال محمد أوفقير صاحب محاولة الانقلاب في المغرب

من اليمين، رؤوف أوفقير، فاطمة أوفير، الأخ الأصغر عبد اللطيف

وتستغرب السيدة فاطمة شنا فكرة اتهام زوجها بمحاولة اغتيال الملك الذي كان يزورهم في منزلهم بدون حرس وكان من المتيسر اغتياله دون تعريض حياة 70 راكبا في الطائرة للخطر (على أساس أن زوجها لم يقتل مئات الأشخاص من قبل). وأما عن مقتل زوجها فتسرد في الصفحة 117 حتى 121 من الكتاب الواقعة من وجهة نظرها:

مساء يوم الاعتداء على الطائرة، توجه أوفقير إلى قصر الصخيرات نحو منتصف اليل مدعوًّا إليه. كان يعرف أنه ذاهب إلى موت محتم. وواجه خصومه بجرأة وإباء.. قتل زوجي تحت بصر الملك.. لم يكن أوفقير كلبًا، لكنه رجل أبي. لم يكن ملاكًا بالتأكيد، وكان له خصوم حاربهم، لكن كل مافعله كان لخير الملكية في المغرب. قيل عن موت أوفقير (انتحار بدافع الوفاء).. صدقت في البدء.. وربما أراد أوفقير فعلا أن ينهي حياته بعد أن شبع منها وارتوى.. في العشية لف الجثمان في بطانية وألقي في شاحنة صغيرة، كان وجهه شديد البرودة.. نظرت إليه بحدة، رأيت ثقبا في صدغه الأيسر.. وبدأ كل شيء يغلي في رأسي.. وبقليل من الصواب الذي بقي لي في تلك الحظات غير المحتملة بدأت أدرك الحقيقة.

تعرضت زوجة أوفقير وأبناؤه الستة للسجن 20 عامًا، لسيدل الستار بشكل نهائي على محاولات الانقلاب في المغرب، ويكرس الحسن الثاني نفسه ليس كصاحب عرش فقط، بل كرامات أيضا!

تعرضت زوجة أوفقير وأبناؤه الستة للسجن 20 عامًا في الاختفاء القسري الأشهر في المغرب، وسردت تلك الرحلة في كتابها سالف الذكر ليلاقوا ماكان يلاقيه سجناء أوفقير الذي كان يتفنن في أساليب القتل والتعذيب. لسيدل الستار بشكل نهائي على محاولات الانقلاب في المغرب، ويكرس الحسن الثاني نفسه ليس كصاحب عرش فقط، بل كرامات أيضا!