في

غرفة مكتب بسيطة

يبدأ المشهد، يبدو من أثاث الغرفة أننا في تسعينيات القرن الماضي، لا داعي لأن نستمع للحديث الدائر بين أبطال المشهد الثلاثة لكي نتأكد أنهم على خلاف واضح.

رئيس نادي السكة الحديد، المهندس أبو العلا فرحات، يستمع للعرض الذي يقدمه مندوب رئيس النادي الأهلي حينئذ صالح سليم، أما ثالثهم فكان المدرب إبراهيم يكن مدرب الناشئين في نادي السكة الحديد.

خمسة آلاف جنيه هي العرض المقدم من النادي الأهلي للحصول على الناشئ محمد بركات، يحاول رئيس النادي أن يظفر بمبلغ أكبر، بينما يؤكد مدرب الناشئين أن محمد بركات لا يمكن بيعه الآن، وإن حدث فليس بعرض زهيد كذلك. يرى يكن في عيني رئيس ناديه أنه أصبح أميل للموافقة على العرض، يخرج الكابتن يكن من جيبه ظرفًا أبيض ممتلئًا بالأموال ثم يصيح: سأشتري أنا بركات بنفس المبلغ وليبقَ في النادي.

كانت تلك أولى مشاهد دراما بركات، قليل الحجم الذي كان حديث قطاعات الناشئين في مصر، والذي سيصبح بعد بضع سنوات في طي النسيان لا يكترث به أحد، ثم ستدور الدائرة ويصبح بعدها أفضل وأهم لاعب في مصر.

وعى بركات مبكرًا كيف أن مصير لاعب كرة القدم كرمية نرد غير مضمونة النتائج، فأصبح على استعداد لاستغلال كل فرصة دون أن يتعشم في المزيد ودون أن يتحسر على فرصة ضائعة. دعنا نسير في دروب مسيرة بركات والتي تستحق التحليل بشكل أكثر عمقًا للاعب كرة قدم يبدو أذكى كثيرًا من أقرانه.


بركات: البطل القادم والموهوب عديم الحظ

لم تكن بداية بركات في عالم كرة القدم سوى الرمية الأولى للنرد في حياته، لم يختر بركات النادي الذي سيبدأ من خلاله لعب كرة القدم، وعلى الرغم من تألقه الشديد ولمعان نجمه فهو لن يمتلك رفاهية اختيار النادي الذي سيبزغ نجمه فيه. رميات نرد متتالية، واحدة له والأخرى عليه، لكن بركات كان أذكى من تعامل مع تقلبات كرة القدم، أعطى لكل مرحلة ما تستحق من مجهود وأسلوب وتعامل.

ذهب بركات للاختبار في نادي الزمالك بتوصية من أحد أهم رموز الزمالك، كابتن يحيى إمام، إلا أن تلك التوصية لم تُجدِ نفعًا كما يبدو، فلم يخض بركات اختبارات نادي الزمالك من الأساس، قرر بعدها والده ببساطة أن يذهب به لنادي السكة الحديد كونه أقرب الأندية لمنزل العائلة.

لم يكن من السهل أبدًا أن يقارع نادٍ صغير، مثل نادي السكة الحديد، أندية هي الأفضل في قطاع الناشئين مثل الأهلي والمقاولون العرب، إلا أن بركات كان له فعل السحر بشكل فعلي

وليس على سبيل المبالغة

. ذهب بركات إلى ملعب التتش وخرج فائزًا، ثم استقبل فريق الأهلي في ملعب السكة وانتصر ثانيةً. أصبح الحديث عن بركات في قطاعات الناشئين مزيجًا من التوقع والتمني، إلى أين سيصل هذا الصغير في عالم كرة القدم؟ فقط نتمنى ألا يضل طريقه كما فعل الكثيرون من قبله.

لعب بركات في صفوف الفريق الأول قبل أن

يتم السادسة عشر

، وقبل أن يتم العشرين جاء دور كرة القدم في رمي النرد مرة ثانية، وتلك المرة كانت الرمية ضده وبشكل عنيف.

كسر مضاعف في قصبة الساق، تلك الإصابة التي تحتاج لتدخل جراحي وتترك مصابها على عكازين لفترة ليست بالقليلة.

كانت تبدو النهاية وشيكة خلال ذلك الوقت، بدأت تزداد قناعة بركات الشخصية بأن مشواره مع كرة القدم لن يكتمل، هو مجرد بطل من أبطال القصص التي يقصها الناس مستغربين من مصائر الموهوبين غير المستحقة، أصبح بركات طي النسيان بعد أن كان محور الحديث لسنوات.

لم يكن عرض صالح سليم للناشئ ذي الثلاثة عشر عامًا محمد بركات هو آخر عرض يرفضه نادي السكة الحديد، بل إن كل أندية القمة حاولت ضم بركات دون جدوى. وبعد الإصابة، قرر نادي السكة أن يوافق على أول عرض يقدم لبركات، هنا ظهر نادي الإسماعيلي فارس المراهنات الأول في كرة القدم المصرية، راهن الإسماعيلي على بركات وكسب الرهان.

إلا أن بركات الإسماعيلي كان مغايرًا تمامًا لبركات السكة الحديد، ذاق بركات طعم النجومية وتجرع مرارة فقدها وأيقن أنه الآن يمتلك النرد في يديه ولا يملك سوى رمية واحدة، فليكن.


بركات الإسماعيلي: الآن أو لتنسَ الأمر للأبد

بركات هنا هو بركات الذي حصل على فرصة أخرى، بركات الذي أيقن أن كرة القدم قادرة على أن تعطيه ظهرها في أي وقت. لعب بركات من أجل بركات ولم يغب عن ذهنه أبدًا أن مصيره مرتبط بقرار غشيم لمدافع يطيح به بعد أن يراوغه، اكتسب بركات ميزة إضافية بسبب إصابته وهي الفاعلية، تخلى بركات عن كل حركة مهارية زائدة عن الحاجة.

أدرك بركات أن مع كل مراوغة كانت تخطف قلوب الجماهير هناك قدم مندفعة قد تخطف عمره الكروي بأكمله، ولذا قرر بركات أن يخطف قلوب المشجعين بفاعليته، أهدافه الهامة، تمريراته الحاسمة؛ أما عن مهارة المراوغة فهي في دمه ولذا كان يمر لكن دون أن يلتحم، كان أصدق الألقاب التي أطلقت عليه واصفة حالته حينئذ هو الزئبقي.

نستطيع أن نرى نسخة بركات المطورة والتي أحبتها الجماهير المصرية من خلال نادي الإسماعيلي، احتاج بركات عامين في صفوف الدراويش لكي يستعيد سحره، ثم بدأ ينثره في ملاعب مصر بطولها وعرضها. ظهرت للجميع نسخة من لاعب مثالي دون عيب، يراوغ ويسدد ويمرر بمنتهى الفاعلية والدقة، يستغل كل الفرص المتاحة دون أن يستهين بها، أجبر بركات الجميع أن يعودوا للحديث عنه وساعده في ذلك دون شك تكامل فريق الإسماعيلي حينئذ.


بركات الخليج: سكة الأموال التي لم تدم

مسيرة بركات هي مسيرة رجل يتعلم سريعًا، ولذا كانت الخطوة التالية بعد نادي الإسماعيلي نحو الخليج. آمن بركات أن عمر لاعب كرة القدم قصير، ولذا فضّل أن يصنع الأموال سريعًا ودون اعتبار لفكرة الصيت وحب الناس.

ذهب بركات للدوري السعودي وقدم موسمًا جيدًا للغاية بل من أفضل مواسم بركات مع كرة القدم، إذ توج بأفضل لاعب أجنبي في الدوري السعودي.

ثم ونحو مزيد من الأموال قرر بركات التوجه للدوري القطري، كان بركات هو الأجنبي الثالث لفريق العربي القطري بجوار باتيستوتا وايفنبرج؛ أما المدير الفني فهو البرازيلي كابرال الذي يعرف محمد بركات جيدًا، كانت الظروف مثالية لبركات لكي يواصل إبهار الجميع لكن ذلك لم يحدث أبدًا.

هنا وجد بركات أن حساباته لم تكن دقيقة كما ظن، كان بركات يلعب وهو ابن كرة قدم الشوارع بطريقة لعبه المعتادة، فلا يسمع آهات أحدهم في المدرجات. يحرز هدفًا لا يحرزه سوى لاعب محنك وينظر للجميع فلا يجد سوى ابتسامات واهنة وكأنها حصة تدريبية. أدرك بركات سريعًا أنه ربما سيحصل على الأموال في الخليج لكن عمره الكروي سيصبح أقصر، فهو لن يحتمل اللعب في مدرجات خاوية. هنا تبرز ميزة بركات الثانية، هو رجل قادر على رؤية المستقبل بشكل جيد، ويأخذ من التجربة سريعًا ما يفيده في المستقبل دون أن يضيع المزيد من الوقت.


بركات الأهلي: فن صناعة النجومية

أدرك بركات أن حساباته لم تكن بالدقة الكافية، يستطيع بركات أن يتحصل على أموال أكثر في الخليج لكن عمره الكروي سيصبح أقصر بالتأكيد. كان بركات على استعداد تام للعودة إلى مصر لكي يصنع المزيد من النجومية المستقرة بأموال أقل، ولكنها ليست أقل بشكل كبير، وهو ما توافر في عرض الأهلي المصري الذي لم يمل من محاولات انتداب بركات أبدًا.

راهن الأهلي على عودة بركات للتألق بعد موسم سيئ للغاية في قطر، ولا شك أن بركات يحب تلك المراهنات، وساعدته الظروف مرة أخرى من خلال تكامل الفريق ووجود داهية برتغالي يدعى مانويل جوزيه، هنا نرى بركات في صورته الأكمل.

يقسم البعض أن بركات مشجع وفيّ لنادي الزمالك، ويؤكد هو بنفسه أنه ينتمي لعائلة

تشجع الزمالك بعنف

، ثم يعود ليرد على أخبار انتمائه للزمالك بأنه معجون بمياه الأهلي، والحقيقة أن بركات أدرك سريعًا مدى التشابه بين نسخته الحالية وبين النادي الأهلي نفسه.

لاعب يلعب من أجل القميص الذي يرتديه، فهو لا يؤمن كثيرًا بفكرة الانتماءات، فلا حب أبيه وتوصية يحيى إمام أدخلته الزمالك، ولا تمسكه بنادي السكة الحديد أنقذه من فخ الإصابة. يلعب بفاعلية كبيرة مستغلًا كل إمكانياته لصالح الفريق، يخلق دوافعه من الجماهير العريضة التي تنتظر الفوز بكل بطولة وكل مباراة، هكذا كان بركات وهكذا كان اللاعب الذي يليق بالنادي الأهلي.

تسع سنوات رفقة النادي الأهلي، استفاد الطرفان من تلك العلاقة على أكمل وجه، وترك بركات كرة القدم وسط توقعات بأنه سيصبح كادرًا جديدًا للنادي الأهلي في المجال الذي سيختاره.

لكن المتتبع الجيد لمسيرة بركات كان يعلم أن ذلك لن يحدث، تعامل بركات مع كرة القدم بخبرة بالغة وذكاء متقد، هو ما جعله يفضّل ألا يغالي في أي شيء، فهو لا يشجع الأهلي بشكل مباشر ولكنه يحترم كثيرًا الرصيد الذي حققه معه، لا يدخل في أي حرب مع أحد ويكتفي بأن يظهر بمظهر الضاحك دائمًا، لا يتطلع لتحقيق إنجاز ما لأنه يعلم أن النرد وقف بجواره كثيرًا مثلما وقف ضده.

اكتفى بركات بفترته الجادة مع كرة القدم، حتى أنه برر اعتزاله كرة القدم بأنه يلعب بشكل احترافي منذ أن كان في

السادسة عشر

، ولا يغفل أحد أن طبيعة بركات المرحة وقدرته على إطلاق الدعابات دون توقف جعلته محبوبًا من الجميع، وهو ما عجل بقرار اعتزاله، فهو نجم دون حاجة لكرة القدم.

رجع ملك الحركات سريعًا لبركات الناشئ الذي كان يفعل ما يحلو له ولا يستبعد أن يهجر كرة القدم في أي وقت، هو يفضل المتعة دائمًا لكنه كان مضطرًا أن يلعب مع النرد لعبته وألا يستسلم أبدًا.