باتت لا تخلو زيارة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لدولة في الخارج من افتتاح مسجد أو وضع حجر الأساس لبناء مسجد جديد، وهذا في الدول الإسلامية وغيرها، والهدف المعلن الذي تتحدث عنه الحكومة هو تعزيز ما تسمى بـ«الدبلوماسية الثقافية».

ففي الأشهر القليلة الماضية كان افتتاح مسجد في البلد المضيف ركنًا أساسيًا من جدول الزيارة، حيث تمول الحكومة التركية ومؤسساتها بناء تلك المساجد في البلاد المختلفة وهذا البناء المتسارع والجدي للمساجد لا يفرق بين كون البلد غنيا أو فقيرا، كما تظهر خريطة المساجد التركية في الخارج تركيزًا واضحًا في محيط نفوذ الدولة العثمانية، وخاصة البلقان والشرق الأوسط والقوقاز.

وعملت الحكومة التركية على مدى السنوات السابقة على توسيع أعمال بناء المساجد، وكذلك أعمال ترميم وإعادة إحياء المنشآت الأثرية التي تعود للعهدين السلجوقي والعثماني في شتى بقاع العالم.

وتركز الحكومة التركية في عملية بناء المساجد على أن تكون ضمن مراكز إسلامية كبرى، فهي تعمل على التوسع عبر بناء مراكز إسلامية تضم مساجد ومراكز للعلوم الإسلامية تشرف عليها مدارس الأئمة والخطباء في تركيا، والتي تعمل على تحفيظ القرآن وتدريس العلوم الإسلامية لمسلمي تلك البلدان، كما تضم مراكز تهتم بالأطفال.

وفي كثير من تلك المساجد تنتدب هيئة الشئون الدينية التركية أئمة معتمدين لديها للعمل في هذه المراكز، وتبقي الصلات مفتوحة بين جمهور هذه المساجد والدولة التركية. وتعتمد الحكومة التركيز على مؤسستين بشكل رئيسي في عملية التمدد خارجيًا عبر بناء المساجد، وهما وقف الديانة التركي ووكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا).


وقف الديانة التركي


http://gty.im/518743846

تأسس وقف الديانة التركي في مارس/آذار عام 1975، لتلبية احتياجات الجوامع ودور تحفيظ القرآن الكريم ودور الإفتاء والمراكز التعليمية، وفي السنوات الأخيرة تزايد دور وقف الديانة في الخارج، حيث أصبح له دوران؛ الأول دعم هيئة الشئون الدينية التركية في الداخل في المجال الديني والخدمي.

والثاني دعم وزارة الخارجية التركية عبر القيام بدور الدبلوماسية الناعمة في البلدان التي تقع فى المجال الحيوي التركي والدول التي تهم الحكومة التركية وتسعى لزيادة نفوذها فيها.

ويقوم وقف الديانة التركي بدور كبير في إنشاء المساجد حول العالم، كما يصدر الأئمة والخطباء للخارج؛ فقد فتح الوقف كلية الإلهيات الدولية وثانويات الأئمة والخطباء وأعطى المنح الطلاب المتفوقين، وهو يقوم الآن بتعليم طلاب من 108 دول حول العالم، والعديد من الدول الأوروبية تفضل الأئمة الأتراك في مساجدها.

وأنشأ وقف الديانة التركي 3 آلاف و421 جامعًا داخل تركيا، وأكثر من 100 جامع ومبنى تعليمي حول العالم، وخصص الوقف 200 مليون دولار أمريكي لترميم جوامع للدولة العثمانية خارج البلاد، وإنشاء جوامع جديدة.


وكالة التعاون والتنسيق التركية «تيكا»

تأسست «تيكا» بقرار من مجلس الوزراء التركي في الرابع والعشرين من يناير/كانون الثان عام 1992، وبحسب قرار إنشائها المنشور على موقعها الإلكرتوني فإنها تعتبر نفسها «أداة من أدوات تطبيق السياسة الخارجية التركية في العديد من الدول والمناطق وعلى رأسها الدول التي تشترك مع تركيا في القيم والثقافة».

وجاء تأسيس «تيكا» استجابة لحاجة الجمهوريات التركية عقب تفكك الاتحاد السوفيتي إلى إعادة الهيكلة والتنمية، وكانت أهداف «تيكا» في تلك الفترة هي مساعدة الجمهوريات التركية المنفصلة حديثًا عن الاتحاد السوفييتي في إنتاج بنيتها الاجتماعية بنفسها وإنشاء هويتها الخاصة بشكل سليم، وتطوير الحقوق الثقافية والسياسية، وإتمام النقص في أمور البنية التحتية الفنية.

ونفذت «تيكا» العديد من المشروعات في الفعاليات في مجالات التعليم والصحة والترميم والزراعة والتنمية والمالية والسياحة والصناعة.

اقرأ أيضًا:

تيكا: يد تركيا الناعمة

وبعد وصول حزب العدالة والتنمية لحكم الدولة التركية توسعت أنشطة «تيكا» لتصل عملياتها إلى 140 دولة مختلفة في 5 قارات حول العالم وتقوم تركيا الآن بواسطة «تيكا» بمشروعات في العديد من الدول حول العالم من المحيط الهادي إلى آسيا الوسطى، ومن أفريقيا والشرق الأوسط إلى البلقان، ومن القوقاز إلى أمريكا اللاتينية.

وهناك جانب مهم تقوم به «تيكا» وهو أعمال ترميم وإعادة إحياء المنشآت الأثرية، ومنها المساجد التي تعود للعهدين السلجوقي والعثماني في شتى بقاع العالم، بحسب وكالة الأناضول شبه الرسمية في تركيا.


زيارات المسئولين الأتراك وافتتاح المساجد

على مدى العامين السابقين كان افتتاح وتأسيس المساجد بندًا أساسيًا على جدول أعمال المسئولين الأتراك في الخارج ومن هذه الزيارات:

1. في أبريل/نيسان 2015 افتتح أردوغان جامع ومجمع «خوجة أحمد يسوي» الذي أنشأته رئاسة الشئون الدينية التركية في مدينة تركستان جنوبي كازاخستان.

2. في أبريل/نيسان 2016 افتتح أردوغان أول مجمع إسلامي بتمويل تركي في ولاية ميريلاند بأمريكا، وضم المركز الإسلامي التركي بداخله مسجدًا كبيرًا وفق الهندسة العثمانية الخاصة بالقرن السادس عشر، والمكون من مئذنتين، ويملك قدرة استيعابية تتيح لثلاثة آلاف شخص إمكانية الصلاة في آن واحد، ويعد المسجد الأول الذي تعتليه مئذنتان في الولايات المتحدة، واعتبرت محطة سي إن إن الأمريكية أن افتتاح المسجد يعد من مظاهر «الإمبراطورية العثمانية في منطقة تبعد عن العاصمة الأمريكية نصف ساعة».

3. في مايو/آيار 2016 افتتح رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داود أوغلو جامع «فرهادية» العثماني في البوسنة والهرسك، الذي شيده «فرهاد باشا»، أحد مسئولي الدولة العثمانية في البوسنة والهرسك، عام 1579، والذي كان قد تعرض للهدم على يد الصرب في عام 1993.

4. في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 افتتح أردوغان مسجد «مينسك‎» التاريخي في عاصمة روسيا البيضاء الذي هدمه النظام السوفيتي السابق قبل 54 عامًا، وكان بتمويل من وقف الديانة التركي.

5. في يناير/كانون الثاني 2015 افتتح أردوغان مسجدًا يحمل اسم والدته «تنزيلة أردوغان» في عاصمة الصومال مقديشيو وبتمويل من «تيكا».

6- وفي فبراير/شباط الماضي جرى الاتفاق خلال زيارة أردوغان للبحرين على بناء مسجد على الطراز التركي في العاصمة المنامة.

7. في مارس/آذار 2015 افتتح مسئولون أتراك وأمريكيون مسجدًا لأتراك الأهسكا الأمريكيين، في ولاية ماساتشوستس الأمريكية.

إضافة إلى ما سبق تعمل وكالة التعاون والتنسيق التركية «تيكا» ووقف الديانة التركي على بناء وترميم عشرات المساجد في المجال الحيوي لتركيا والمناطق المرتبطة بالدولة العثمانية، ومنها ترميم مسجد «بانغ أوتيت» في العاصمة التايلاندية بانكوك، ويحمل على مدخله شعار الدولة العثمانية الذي أرسله السلطان عبدالحميد الثاني لمسلمي مملكة سيام «تايلاند حاليا».

كما تعمل «تيكا» على ترميم مسجد النجاشي في إثيوبيا، وهو من أوائل المساجد التي بنيت في أفريقيا، وكذلك ترميم مقابر 15 من الصحابة، وذكرت «تيكا» أنها تستخدم فن الزخرفة والعمارة العثمانية القديمة لاسيما في الأبواب والنوافذ.

ويعمل وقف الديانة التركي علي بناء مساجد على الطراز العثماني حاليا، حيث يمول الوقف بناء المسجد الكبير وسط العاصمة المقدونية يتسع لـ 2000 شخص، ومسجد في رومانيا يتسع لـ 1500 شخص، ومسجد كبير في لبنان على الطراز العثماني في مناطق قريبة من وجود التركمان.

كما يبني وقف الديانة مسجدا بالقرب من جامعة كامبردج فى بريطانيا وهو قريب من طرازه المعماري من المسجد الأقصى، ويبني الوقف مسجد الإمام في قزغيزستان، ومسجدا في ألبانيا، وآخر في روسيا يضم معهدا لدراسة العلوم الإسلامية ومساجد كبرى في كوسوفو وجيبوتي.


العثمانية الجديدة تتنافس مع السعودية وإيران

يبدو واضحًا أن الحكومة التركية ساعية إلى توسيع نفوذها إلى ما هو أكبر من مناطق نفوذ الدولة العثمانية، ولكن نقطة انطلاقها وتركيزها هي البلقان والشرق الأوسط والقوقاز، وهي مناطق تصارع بينها وبين السعودية وإيران، وهذا غير اللاعبين الآخرين من خارج العالم الإسلامي، مثل روسيا والولايات المتحدة.

وتبدو تركيا متقدمة في خطابها الإسلامي عن السعودية وإيران، وتلقى ترحيبا في المجتمعات التي تنتشر بها وتلقى دعما من دول أوروبية وآسيوية عدة كما أن نظامها السياسي العلماني يقلل المخاوف لدى الدول الأخرى من وجود مساعٍ لتعزيز نفوذ ديني داخل مجتمعاتها.

وتنظر المجتمعات الأوروبية والآسيوية لما يسمى بـ«الإسلام التركي» على أنه نموذج أكثر حداثة، وأنه يتسم بالاعتدال والتجذر في التقاليد الصوفية الإسلامية، وأنه تشكل عبر تاريخ البلد التعددي، ويرون أن «الإسلام التركي لا يزال علمانيًا وحداثيًا»، وهذا على عكس النموذجين السعودي والإيراني.


المراجع




  1. وقف الديانة التركي: الموقع الرسمي

  2. “تيكا” التركية: ترميم مسجد النجاشي في إثيوبيا يكتمل العام الجاري

  3. Amerika Diyanet Merkezi

  4. “تيكا” التركية ترمم مسجدا يحمل شعار الدولة العثمانية في تايلاند
  5. التايمز: أنقرة تبني مساجد لتوسيع تأثيرها في العالم