كان للأحداث السياسية التي عصفت بالمنطقة على مدار السنوات الماضية تأثيرات عديدة على مختلف مناحي الحياة، لا تقتصر تبعاتها السلبية على تدمير الحاضر فقط، بل تتعداه إلى المستقبل، فجيل الأطفال الذي تعرض للتهجير والتشريد وعاين أهوال الحرب وآثارها، هو الجيل الذي من المفترض أن يبني المستقبل وينهض ببلاده من كبوتها، وهو أهم ثروة تملكها الأمة العربية وموردها الأثمن من كل ما عداه من خيرات وثروات تزخر بها أرض العرب.

ملايين العرب خارج صفوف التعليم

وفقًا

لتقرير

أصدرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في مارس/ آذار، فإن وجود تفاوت في الحصول على التعليم بين الدول، يعني أن التعليم قد يصبح عامل الانقسام الأكبر بين الشعوب المختلفة، وليس العكس، بخاصة بعد تسجيل غياب نحو 405 ملايين طفل حول العالم عن الفصول الدراسية، خلال أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19).

وبحسب جولييت توما، المديرة الإقليمية للإعلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في اليونيسف، فإن هناك نحو

15 مليون طفل

خارج المدارس في هذه المنطقة، وأن التسرب من التعليم أصبح ظاهرة إقليمية تعاني منها دول المنطقة بشكل كبير.

ومع اشتعال الصراعات المسلحة في العديد من الدول العربية يضطر المدنيون لتغيير أماكن سكناهم عدة مرات هربًا من لهيب الحرب، كما تدهور الوضع المعيشي لنسبة كبيرة من العائلات العربية، مما دفع بأطفالهم إلى ترك مدارسهم والالتحاق بالعمل للإنفاق على أهاليهم، فضلًا عن عدم وجود مدارس أصلًا في بعض المناطق.

سوريا

ففي سوريا أكثر من نصف الأطفال محرومون من التعليم، طبقًا لما ورد في

بيان

مشترك للمنسق الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السورية، والمدير الإقليمي لليونيسف للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، صدر في يناير/ كانون الثاني العام الماضي، ذكر أن أكثر من 2.4 مليون طفل لا يذهبون إلى المدارس، نحو 60% منهم من البنين، في ظل خروج ثلث المدارس في سوريا عن الخدمة بعد تعرضها للتضرر أو الدمار أو تخصيصها للأغراض العسكرية.

أما كثير ممن حالفهم الحظ بالحصول على فرص تعليمية فلم يستطيعوا الالتحاق بمدارس توجد بها مرافق مناسبة مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي أو التهوية، ورغم الظروف الصعبة، فإن آلاف الطلاب الذين واصلوا تعليمهم يشكون من

عدم اعتراف

دول العالم بشهاداتهم التي كلفتهم آلاف الدولارات، وفوق ذلك سنوات من أعمارهم.

ففي كل منطقة حكومة مختلفة بمناهج مختلفة؛ فهناك حكومتان في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة ويُطلق عليها مسمى «الشمال المحرر»، وهناك مناطق النظام السوري التي يخشى كثيرون من دخولها خوفًا من الاعتقال أو التعذيب، وهناك مناطق تسيطر عليها ميليشيات «قوات سوريا الديمقراطية» المعروفة اختصاراً بـ«قسد» وهي جماعة كردية مسلحة تحكم مساحات كبيرة في شمال شرق البلاد، تجبر التلاميذ على الدراسة باللغة الكردية، مما يدفع أولياء الأمور لتجنب إرسال أبنائهم إلى مدارسها بخاصة وأنها لا تفيدهم شيئًا في مستقبلهم الدراسي، فالمناهج من وضع عناصر ميليشيات قسد،

وتتضمن أفكارهم وعقائدهم

التي تقول إن الكرد ليسوا سوريين، ويُدَرِّسون خرائط مختلفة للدول وفقًا لمخططاتهم، ويدعمون الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

لبنان

وبالنسبة للأطفال السوريين الموجودين في لبنان، فإن

30 في المائة منهم لم يذهبوا إلى المدرسة مطلقاً

(أي نحو 200 ألف)، بحسب مفوضية اللاجئين، وفي شهر ديسمبر/ كانون الأول 2021، انتقدت منظمة «هيومن رايتس ووتش» منع أطفال اللاجئين السوريين في لبنان من الحق في التعليم، بسبب اشتراط وزارة التربية مستندات يصعب الحصول عليها بالنسبة لأغلبهم، إضافة إلى ضرورة حيازتهم وثائق إقامة في لبنان.

أما ما يتعلق بالأطفال اللبنانيين المتسربين من التعليم، فلا توجد بيانات رسمية رغم تأكيد وزارة التربية، ويونيسف وجود هذه الظاهرة التي زادت نتيجة الأزمة الاقتصادية الحالية، وقد أعاقت أزمة فيروس كورونا المستجد، جهود مكتب البحوث التربوية بوزارة التربية اللبنانية لحصر الظاهرة عام 2020، كما تسببت الجائحة في حرمان نحو ثلث التلاميذ من متابعة دراستهم عبر الإنترنت خلال ذروة انتشار الوباء نتيجة نقص التجهيزات الرقمية.

العراق

وفي العراق يعيش

ملايين النازحين

مهجرين عن بيوتهم بخاصة في المحافظات ذات الأغلبية السنية، يفتقدون أي خدمات أو مرافق، ويعد إلحاق أولادهم بالتعليم النظامي رفاهية بالنسبة إليهم وسط غياب كثير من ضروريات الحياة في مناطق نزوحهم، بخاصة بعد أن أغلقت الحكومة آخر مخيم رسمي نهاية العام الماضي ولم تعد تعترف بهم كنازحين، وآوى كثير منهم إلى مخيمات عشوائية في ظروف مزرية.

وقد أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة في مايو/أيار 2019، أنّ نصف المدارس العراقية تحتاج إلى التأهيل والترميم لتكون صالحة للعملية التعليمية، وهو الأمر الذي يبدو بعيد المنال بالنظر إلى الظروف التي تمر بها البلاد، ومؤخرًا أثارت

صور متداولة

على منصات التواصل الاجتماعي لتلامذة يفترشون الأرض خلال البرد القارس خلال أدائهم للامتحانات غضب العراقيين الذين انتقدوا على نطاق واسع نهب ثروات بلدهم وتبديدها على أيدي الميليشيات وقوات الاحتلال وأنصارهم، واعتبروا المشهد تمثيلاً صادقًا لحالة التعليم في العراق.

السودان

وفي السودان يُقدر عدد الأطفال المحرومين من التعليم بنحو

أربعة ملايين

طفل، وفقًا لوزارة التربية والتعليم السودانية، وتبلغ نسبة تسرب التلاميذ من المدارس 80 في المائة في القرى بينما تصل إلى 60 في المائة في المدن، بسبب ضعف الوعي لدى أغلب الأسر وانتشار الأمية، والنزاعات المسلحة، وتراجع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية مما يدفع بالصغار للعمل الزراعي والرعوي لمساعدة ذويهم، مع الإشارة إلى ضعف الإمكانيات المتاحة للقطاع التعليمي.

ليبيا

وفي ليبيا أدت ظروف الاقتتال الداخلي بين المكونات السياسية إلى انهيار الأوضاع في البلاد، وكان القطاع التعليمي من أوائل الضحايا، فقد قدرت منظمة اليونيسيف في تقاريرها عدد الأطفال الذين يحتاجون إلى مساعدة إنسانية في ليبيا بما يقارب

348 ألفًا

، لا يعانون فقط نقصًا في الرعاية التعليمية، بل في الأساسيات كالغذاء والرعاية الصحية، مما يهدد المسار التعليمي لهذا الجيل الذي نشأ في هذه الظروف.

اليمن

وفي اليمن، يحتاج نحو

11 مليون طفل

إلى المساعدة الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، بسبب الحرب المندلعة منذ عام 2014 بين ميليشيات الحوثي والحكومة الشرعية، وهناك مليونا طفل خارج نطاق التعليم و4 ملايين آخرين من المتوقع أن يلحقوا بهم، وسدس المدارس ليست صالحة للاستخدام من الأساس، ولا يحصل ثلثا المعلمين على رواتب منتظمة منذ سنوات.

الصومال

وفي الصومال، يهدد شبح المجاعة نصف السكان تقريبًا البالغ عددهم نحو 16 مليون نسمة، بسبب تعرض البلاد

لأسوأ موجات الجفاف منذ 40 عامًا على الأقل

، ويصبح الحديث عن الانتظام في التعليم ترف لا معنى له بالنظر إلى توارد أنباء عن موت أطفال بسبب نقص الرعاية الصحية، ووجود دلائل قوية على اقتراب البلاد من مجاعة أشد مما وقع عام 2011 حين تسبب الجفاف في موت نحو ربع مليون شخص.

أما الدول العربية المستقرة أمنيًا والتي لا تواجه شبح الحروب ولا النزاعات فليست بمنأى عن الظاهرة؛ ففي مصر يصل عدد المتسربين من التعليم إلى نحو

مليونين

، ويبلغ عدد الأميين إلى نحو 18 مليون وفق أحد التقديرات ويُقال إن العدد أكثر من ذلك بكثير، فضلاً عن تراجع جودة التعليم في أغلب أقطار الوطن العربي إلى

مراتب متأخرة

في التصنيفات الدولية، مما يطرح تساؤلات عن مدى نجاح العملية التعليمية في صناعة جيل المستقبل بالتوازي مع التحديات العالمية الكبيرة التي تتطلب مضاعفة الجهد وليس العكس.

أما الهدف الرئيسي المفترض للعملية التربوية، وهو زرع القيم وبناء شخصية الأجيال العربية، فيبدو وقد طواه النسيان في كثير من الحالات، فإضافة إلى ما سبق يعيش عدد يتراوح

ما بين 10 و14 مليون مغترب

مصري في الخارج، وفي ظل غياب أي إحصاء دقيق للاجئي العراق فإن تقديرات غير رسمية تشير إلى أن أعدادهم تقارب الخمسة ملايين، ويقدر عدد اللاجئين السوريين بنحو

سبعة

ملايين، ومعهم أيضًا ملايين الجزائريين والمغاربة وغيرهم، ورغم أن كثيرًا من هؤلاء يعيشون في دول عربية وإسلامية فإن الملايين منهم لجأوا إلى بلاد غربية أو شرقية تختلف كل الاختلاف عن قيم الدول التي جاءوا منها وتعمل ماكينتها التربوية في عكس اتجاه ما يُفترض أن ينشأوا عليه من قيم ومفاهيم.