المشهد الأول

ميسي يعلن الاعتزال على المستوى الدولي بعد خسارة النهائي الثالث تواليًا.


المشهد الثاني


http://gty.im/659049140

الأرجنتين تحتل المركز الخامس في تصفيات أمريكا الجنوبية المؤهلة لمونديال روسيا 2018. بعد أن خاضت 13 لقاءً جمعت من خلالها 22 نقطة، منها 15 في 6 لقاءات بحضور البولجا، بينما السبع نقاط الباقية تحصلت عليها بلاد الفضة من 7 لقاءات خاضتها بدون الملك رقم 10.

بين المشهد الأول والثاني تقف منظومة كرة القدم الأرجنتينية عاجزة، مشلولة يضرب الفساد جميع أركانها، وكبش فدائها الجاهز دومًا هو اسم واحد: ليونيل أندريس ميسي. وقد كان مشهد بكاء ميسي في نهائي الكوبا 2016 أمام تشيلي كاشفًا لحجم الضغوطات التي يتعرض لها البرغوث. إنه يتحمل الفشل وحده، بينما النجاح دومًا يتم نسبه إلى تشكيلة «الأحلام» التي تحيط به.


أن يكون ليو حاضرًا

يمكنك أن تصف الأرجنتين الحالية بالفقاعة. فقاعة تنفجر بمجرد غياب البولجا. مسيرتهم في التصفيات الحالية يمكنها أن تخبرك أنه لولا تواجد ميسي لما وصلت الأرجنتين لنهائي واحد من الثلاثة. وجود ميسي في التشكيلة هو ما يوحي للكل بأن أجويرو عملاق، وأن هيجوايين يستحق الـ 94 مليون يورو التي دفعها يوفنتوس للظفر بخدماته من نابولي، وبالتالي فالسقوط خطيئته هو.

وجود ليو ميسي في التشكيلة يعفي الكل من مشقة التدقيق في اختيارات الاتحاد الأرجنتيني لمن يتولون تدريب المنتخب الأول. فبمجرد أن تلمح الرقم 10 في القائمة، يمكنك أن تحمله كل مسئولية الفشل. أليس تواجده يلغي وجود التكتيك والعمل الجماعي والمستوى الفني وأسلوب اللعب؟


من هو إدجاردو باوزا؟


http://gty.im/657053960

لا يهم من هو إدجاردو باوزا، لا يهم أنه قد أنتج النسخة الأكثر كوميدية من المنتخب الأرجنتيني لكرة القدم. لا يهم كيف أدار مباراة البرازيل الأخيرة في التصفيات، حين انكسرت الأرجنتين أمام سيلساو تيتي، وتمت إهانتها في حضرة الملك. الأهم أنه بعد المباراة ستخرج الصحافة وقاصفو الجبهات ليقولوا: لماذا لم ينقذ ميسي منتخب بلاده من الذل؟

لن تجد لديك دافعًا قويًا لأن ترد عليهم ببعض الحقائق البسيطة كحقيقة أن المدعو باوزا قد دفع ليو كي يلعب على الدائرة مع ماسكيرانو في وضع شاذ ساهم في تسليم الملعب كله للبرازيليين، رغم تلك الفوضي التكتيكية كان ميسي هو أعلي لاعبي منتخب بلاده تقييمًا، لكنه كان مطالبًا من جديد بأن يضع الخطة ويختار اللاعبين ويعطي حديث ما قبل المباراة، ويوجه داخل الملعب ويصرخ في ديماريا كي يسجل انفرادًا محققًا أمام بوليفيا لئلا ترتد الكرة في مرمي روميرو.

إن لم يفعل هذا فسيمزقه الصحفيون وقاصفو الجبهات إربًا. من سابيلا إلى تاتا إلى باوزا، تتراجع الأرجنتين، كل من يشاهد التصفيات موضوعيا سيدرك أن هذا المنتخب لن يذهب إلى أي مكان. وأنه لو تم تجنيس باتمان وسوبر مان وكابتن ماجد ليلعبوا بجوار البولجا فلن تقف الأرجنتين على قدميها كرويًا تحت هذه الظروف.


ميسي برشلونة؟ لماذا لا يلعب وسط الهواة؟

يستفسر البعض في تعجب: لماذا لا يقدم ميسي مع الأرجنتين ما يقدمه مع برشلونة؟ هذا السؤال يستوي مع سؤال: لماذا لا تمارس كرة القدم في حقول البطاطس؟ باعتبار أن المنطق والقواعد الأساسية التي تحكم كل شيء لا وجود لها. أليس هو الأفضل، لماذا لا ينقذ منتخب بلاده؟

ما قدمه ميسي طوال مسيرته حتى الآن يغري الجميع، خصومه وجماهيره، باختزال كرة القدم في الموهبة الخارقة لأحد اللاعبين. ميسي يعتبر أفضل لاعب في العالم، وينافس بقوة على لقب الأفضل تاريخيًا، ليس لأن وجوده يلغي بقية عناصر اللعبة، العكس هو الصحيح. وجود الحد الأدني من عناصر اللعبة هو ما يتيح لكل لاعب إظهار ما يستطيع فعله.

بالتالي فإن البيئة التي وفرها برشلونة لميسي خاصة في حقبة جوارديولا، سمحت له بإظهار قدراته الحقيقية. إنه لاعب استطاع في 10 سنوات تقديم أداء لم تشهده اللعبة في ثلاثة مراكز لعب مختلفة: الجناح الأيمن والمهاجم الوهمي وصانع اللعب الصريح.

هذا التنوع في القدرات التكتيكية أيضًا لم تشهده اللعبة، لم نر من هو قادر على الجمع بين مهام ثلاثة وأدائها بهذا المستوى الاستثنائي وبهذه الاستمرارية. كان ميسي متهمًا بأنه يحيا على مجد الثنائي العظيم تشافي هيرنانديز وأندريس أنييستا. لكن في موسم الثلاثية الأخيرة 2014-2015 برهن ميسي على تهافت هذا الاتهام لأنه تحمل مسئولية صناعة اللعب والتهديف، ونجح فيها ببراعة، حيث أنهى الموسم كهداف الفريق وأكثر من صنع.

هل هذا الموسم الخرافي لميسي ينكر أن الفريق كله كان حاضرًا؟ لا ، وجود ميسي لم يلغ الفريق. لكن الفريق بدون البولجا لم يكن ليحرز ألقابه الخمس الأولى تحت قيادة اللوتشو.


http://gty.im/501102176

بيئة العمل في برشلونة تساعد على ظهور كل فرد في المنظومة بإمكانياته الحقيقية. أحد الأمثلة الساطعة هو تشافي هيرنانديز نفسه. تشافي قبل بيب يختلف عن تشافي بعد بيب. فرغم أنه كان دومًا يبرهن على إمكانياته سواء مع المنتخب أو النادي فإن بيئة العمل تحت قيادة ريكارد في آخر موسمين له لم تكن مواتية لدرجة أن زرقاء اليمامة كان على وشك الرحيل لولا تدخل العناية الإلهية ووصول الفيلسوف في الوقت المناسب.

إذن بيئة العمل في الأرجنتين فيها ثابت واحد: إمكانيات البولجا التي يتم إهدارها على كل الأصعدة. تكتيكيًا تعاني الأرجنتين كثيرًا، فمدربو الأرجنتين يلتزمون بالخطة ميسي. سنسلمه الكرة، وليرينا ما يمكنه فعله. يراوغ، يسدد، يمرر، لا يهم. الأهم أننا سنتوقف ونشاهد السيرك الذي يعرضه البولجا.

الفشل له والنجاح للجميع. لذا ليس غريبًا أن تجد متوسط ميدان الأرجنتين عاجزا عن تسليم الكرة لميسي في المناطق التي يحب مهاجمتها. ليس غريبا أن ينزل لتسلم الكرة من دائرة المنتصف وأن يركض كثيرا لعل أحدهم يريد أن يشاركه اللعب ويتحرك. وجوده في الملعب يحفظ توازن الأرجنتين، لكنه توازن هش لأنه يعتمد على رعب المنافس من ميسي. هذا التوازن ينقلب إلى حالة من الهلع بمجرد أن يبدأ أي خصم -حتي لو كان بوليفيا- الضغط على الدفاع الأرجنتيني. حتى في وجود لاعبي ارتكاز يئن دفاع الأرجنتينيين تحت الضغط. والأهم أن هذا التوازن لن يجلب بطولة.

بيئة العمل تشهد تغيرات جذرية، فمن نموذج سابيلا المتحفظ، إلى كرة تاتا العقيمة إلى إدجاردو باوزا الذي لا أحد يدري ماذا يريد. كل ما نعلمه أن الأرجنتين تحت قيادة باوزا تتحول إلى 10 لاعبين وليو. يبدو أنه لا أحد في الاتحاد الأرجنتيني يدرك أن ميسي أرجنتيني. وأن وجوده يقتضي فقط توفير الحد الأدنى من عناصر النجاح، وأن أول تلك العناصر هي وجود مدرب ذي شخصية بدلا من باوزا السطحي. فكيف يمكنك أن تتساءل عن عدم نجاح ميسي مع منتخبه دون أن تتساءل عن الإطار التكتيكي الحاكم لهذا المنتخب؟


منتخب الـ «هيجوايين»

لماذا يظهر ابن الـ 94 مليون يورو بهذا الشكل المروع مع منتخب بلاده؟ وما الفارق بينه وبين براتو؟ يبدو أن دور هيجوايين الصريح هو إهدار الفرص. تلك هي لقطاته المميزة مع المنتخب. لكن فكرة تحميله شرور منظومة الكرة الأرجنتينية هي فكرة مبتذلة للغاية، كالحُكم على أجويرو بأنه منتهٍ لأنك لا تتذكر آخر عرض مبهر قدمه الكون مع المنتخب. وهي بالطبع كانتقاد ديماريا لأنه يبدو دائما منهكًا. تلك المنظومة جعلت جميع أفرادها يظهرون بشكل مخزٍ عدا الاستثنائي الذي يطالبونه جميعا بإنقاذ منظومة فاشلة. فالذي سحب ريكيلمي من الملعب في 2006 ليهدي النصر لألمانيا، هو الوجه الآخر لمن ضربه الألمان بالأربعة في 2010 لأنه ظن أن ريكيلمي قد تلقي المزيد من الحفاوة التي تمس أسطورته، وبالتالي وجب استبعاده. الداء في الكرة الأرجنتينية متوطن وعميق.


عن التتويج : أتى أو لم يأت

على الأرجح، لن يحقق الملك رقم 10 شيئًا مع منتخب بلاده رغم أنه يطمح لذلك. ربما لأن كرة القدم ليست لعبة الأبطال الخوارق بقدر ما هي جماعية، وهذا هو سر شعبيتها. فلو توقف الأمر عليه وحده لتحقق له ما أراد، لأن إمكانياته لا يضاهيها شيء. تلك الإمكانيات لن تتغير سواء أحرز لقبًا أم لم يحرز. الإمكانيات هي ما تستطيع فعله، وميسي يبرهن منذ 10 سنوات على أن ما يستطيع فعله أكبر من الطاقة البشرية.