يوضح لنا فرانز فانون في كتابه «

معذبو الأرض

» كيف تغير مفهوم الشعب الجزائري نحو الثورة والوطن بعد حدوث المجازر الفرنسية الكبرى. يقول فانون بأن الشعب توحد خلف الثوار، واختفت كل الجرائم المتعلقة بالأمور العامة. كذلك خفتت المشاجرات المتعلقة بالأمور الفردية الشخصية. فقد تحلَّى الجميع بأخلاق الثورة، وتساموا فوق صغائر الأمور. فاتحد الشعب بأكمله لأجل الحرية، وضد المحتل. وتوجهت كل الميول العنيفة نحو المحتل، حتى وإن عادت لتتوجه إلى بعضهم بعد زوال المحتل.

يضيف فانون أيضًا أن الاستعمار الفرنسي أقنع الجزائريين لحقبة من الزمن أنهم مواطنون مختلفون، لا يفكرون إلا في الطعام فحسب، وأنهم لا يعبأون بوطنهم. لكن بحدوث المجازر الفرنسية المتعاقبة يدرك المواطن الجزائري فجأة أنه يمكن أن يتحول لجثة هامدة في أي لحظة، وأن وطنه يُمكن أن يُسلب منه للأبد، لهذا تحول الجزائريون إلى مناضلين، قد تمنح أسرة طعامها بالكامل لكتيبة من الثوار.

لا يمكن منح لقب أبشع الجرائم لجريمة واحدة فحسب من جرائم فرنسا في الجزائر، فكل جرائم الاحتلال الفرنسي كانت بشعة. لكن مجزرة 8 مايو/ آيار، أو

كما ينطقها الجزائريون 8 ماي

، كان لها وضعها الخاص في التاريخ الجزائري، خصوصًا في الأعوام الأخيرة؛ إذ تصادف إحياء الجزائريين لذكراها مع أول يوم لتولية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفترته الأولى، فازدادت رمزيتها في قلوب الجزائريين.

ومن قبل ماكرون فإن مجزرة 8 مايو/ آيار تتوافق سنويًّا مع احتفال في نفس اليوم بذكرى انتصار الحلفاء على دول المحور بقيادة ألمانيا؛ لذا ففي كل عام تتكرر المأساة على قلوب كل جزائري، فقد عمدت سلطات الاستعمار الفرنسي لإبادة شعب الجزائر. واستخدمت في سبيل ذلك كل المتاح لديها من سياسات القمع والقتل. لم تميِّز آلة القتل الفرنسية بين الرجال أو النساء، أو الأطفال والشيوخ، وحرص المستعمر أن يقوم بكل شيء في إطار القانون، لكنها قوانين وضعها هو، وأسماها القوانين الخاصة.

الإبادة هي السياسة


قبل 77 عامًا من الآن حدثت المجزرة. أنباء استسلام الألمان طارت للجزائر، فانتفض الشعب دون تجهيز مسبق. احتفل الجزائريون بسقوط الألمان

فرفعوا أعلام الحلفاء

، كالولايات المتحدة وفرنسا والصين والاتحاد السوفيتي. ومن ضمن الأعلام قرر مؤيدو حزب الشعب الوطني، الذي أسسه مصالي الحاج عام 1937، رفع العلم الجزائري كإشارة لأن الجزائر دولة مستقلة ذات سيادة تناطح الدول صاحبة باقي الأعلام.

تركزت

الانتفاضة في مدينة سطيف

، وجاء الرد الفرنسي في لحظتها، القتل لمن يراه الجنود مشاركًا في الانتفاضة. لتُرتكب بذلك مجازر 8 مايو أو مذبحة سطيف كما يُطلَق عليها أحيانًا.

حظرت السلطات الفرنسية أي مظهر احتفالي قومي متعلق بالجزائر أو الجزائريين. لكن كما أشعل شاب تونسي يافع ربيع العرب عام 2011، شاء القدر أن يكون بوزيد سعال هو شرارة الانتفاضة. بوزيد أبى إلا أن يرفع علم الجزائر في الاحتفالات، قام فرنسي يُدعى أوليفيري بقتله فورًا بالرصاص الحي. صُعقت الجموع المحتشدة، وثارت على الضباط الفرنسيين، ولا يدرك أحد ممن يتعارك من الجنود أو المتظاهرين أنهم بذلك يكتبون تاريخًا لن تنساه الجزائر أبدًا.


اتسعت رقعة الانتفاضة

فكان بوزيد بمثابة حجر كريم أُلقي في بحيرة هادئة فأحالها طوفانًا. انتشرت الانتفاضة في كامل المدن الجزائرية، واشتبكت مجموعة مع البعثة الفرنسية فقتلوا قائدها. اشتعلت باريس غضبًا، أرسلت الجنرال ريموند دوفال برفقة قوة عسكرية ضخمة لقمع تلك الانتفاضة في أسرع وقت.

لم يفكر دوفال في السياسة التي سيتبعها، فقد كان عازمًا أمره من البداية.

القتل الجماعي والإبادة المباشرة

للجزائريين، سواء كانوا في مظاهرات أم لم يكونوا. لم يستثنِ دوفال النساء أو الأطفال. وأعدم العديد من المدنيين عبر إطلاق النار من مسافة قريبة. وحرَّك شاحنات مشحونة بالبشر إلى وديان مرتفعة وألقوهم من فوقها. وأخرجوا عددًا من المدنيين إلى خارج حزام المدن ودفنوهم في مقابر جماعية. كما استخدموا أفران الجير للتخلص من آلاف الجثث.

المجد الفرنسي على الدم الجزائري


في خلال أيام قليلة وصل عدد القتلى إلى 45 ألف قتيل، وهو أكثر الأرقام اتزانًا. وتقول بعض المصادر غير الرسمية إن أعداد الضحايا تتجاوز ذلك الرقم بعدة أضعاف. وتقول مصادر أخرى إنه وصل 70 ألف شهيد، إضافة لاعتقال 5 آلاف فرد. وحتى الاعتقالات لم تكن كافية، فكانت المحاكم الفرنسية تصدر أحكامًا بالإعدام على المعتقلين، فيصبح اعتقالهم مجرد تأجيل لاستشهادهم فحسب.

خصوصًا أن القتل لم يكن بالرصاص المباشر فحسب، لكن

عبر قصف المدن بالطائرات

الحربية التي حوَّلت مدينة مثل سطيف إلى ركام، وسقط عليها وحدها 40 طنًّا من القنابل. وسُبق القصف الجوي بقصف مدفعي ثقيل لتمهيد الطريق للطائرات، ثم مهدت الطائرات الطريق للمشاة. وقد طار الطيارون الفرنسيون قرابة 300 مرة في اليوم الواحد.

كذلك قدمت فرنسا أسلحة للأوروبيين من جنسيات مختلفة، وسمحت لهم بإطلاق النار على من يشاؤوا من المتظاهرين. وكان الأوروبيون خائفين من حصول الجزائر على استقلالها وما يترتب على ذلك من خسارة العديد من الامتيازات التي يمتلكونها فيها.

نجح القمع الفرنسي في

إخماد نار الانتفاضة

، لكنه لم يطفئ جذوة الثورة الشاملة. على النقيض من ذلك اعتبر عدد من المؤرخين أن تلك المجزرة كانت نقطة الانطلاق للتحرر الجزائري، إذ ساهمت في خلق جيل جديد لا يميل للتصديق بأسطورة الحضارة الفرنسية التحررية التي كانت تسيطر على بعض المثقفين الذي اعتادوا وجود الاستعمار، بل عملوا على الدعاية له عند الأجيال الناشئة من الشباب الجزائري.

خصوصًا مع الخطاب التبريري الذي رافق تلك المجزرة، فكانت بيانات الحكومة تؤكد أن القمع الذي حدث مع متظاهري 8 مايو/ آيار هو ضرورة حتمية، وأنه كان لازمًا لإنقاذ سمعة فرنسا وحفظ هيبتها، وكانت كلمة المجد الفرنسي حاضرة بقوة في خطابات ديجول، وفي التبريرات التي انبرى الموالون للاستعمار في إطلاقها.

التحرر بالسلاح لا السلمية


لكن تلك المجزرة أقنعت الجزائريين أن نيل

التحرر لن يكون إلا بالسلاح

وحده. لهذا وجدت الدعوات للكفاح المسلح صدًى واسعًا لدى الشباب الجزائري.  انتظر الجزائريون الفرصة كي يعودوا لانتفاضهم وينتقموا لشهدائهم، كانت تلك الفرصة سانحة عام 1945 عندما شاعت الأخبار عن هزيمة فرنسا على يد الفيتناميين، وأن فرنسا بدأت في التراجع من مستعمراتها في جنوب شرق آسيا. وبعد أشهر قليلة بدأت شرارة ثورة التحرير تنطلق واستمرت لـ 8 سنوات حتى حصلت الجزائر على استقلالها أخيرًا.

يجب أن

يُعترف بشكل واضح وصريح

بأن الجرائم التي ارتكبت كانت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما تنص على ذلك المادة 212-1 من قانون العقوبات الفرنسي.

المؤرخ الفرنسي أوليفيه لوكارو، مخاطبًا ماكرون.

الحصول على الاستقلال لم يعنِ حصول الجزائر على اعتراف رسمي بتلك المجازر. فحتى الرئيس الفرنسي، ماكرون، الذي أعلن في جولته الانتخابية الأولى أنه سيعترف بتلك الجرائم، عاد بعد فوزه ليتراجع عن ذلك الوعد. لم يحصل الجزائريون على شيء إلا في بدايات عام 2005 حين قال السفير الفرنسي في الجزائر إن المجازر الفرنسية، إجمالًا، كانت جرائم لا تُغتفر.

بعد 10 سنوات من ذلك التصريح شارك وزير الدولة لقدامى المحاربين في وضع إكليل من الزهور عند النصب التذكاري لبوزيد سعال، لكن حتى ذلك لم يرافقه اعتراف رسمي فرنسي بتلك المجزرة، ومع غياب الاعتراف الفرنسي الرسمي يصبح واجبًا على أصحاب الحق، الجزائريين، وعلى داعميهم، أن يستمروا في

تذكير العالم بتلك المجازر

كي لا يطويها النسيان، أو تطمسها صفقة سياسية بين الحكومات.