يشير عزمي بشارة في كتابه «

الجيش والسياسة .. إشكاليات نظرية ونماذج عربية

» إلى أن الضباط لا يقومون بانقلاب من أجل أن يحكم آخرون، وما يجري غالبًا هو خلع الضابط الزي العسكري لسيتبدله بزي مدني، وهو ما لا يعني تمدّن العسكر، بل عسكرة السياسة.

مع اقتراب الانتخابات التشريعية المزمع تنظيمها خلال مطلع سبتمبر/ أيلول المقبل، أطلقت المعارضة الموريتانية اتهامات للجيش بالتدخل في الانتخابات لصالح الحزب الحاكم ودعت قادته إلى الابتعاد عن الحياة السياسية. تعهدات سابقة من الرئيس محمد ولد عبدالعزيز بعدم الترشح لولاية ثالثة في 2019، تطرح العديد من الأسئلة حول أشكال تحكم الجيش في الحياة السياسية من خلف الكواليس، خاصة إذا ما نفذ الرئيس وعده بعدم الترشح.

نجح العسكريون في نواكشوط في إنتاج صور جديدة للانقلاب على الحياة السياسية، سلاحهم التأثير المباشر وخلق كتائب مدنية مرتبطة بمصالح عسكرية في إطار من التحالف المدني العسكري.


انقلابات متكررة

بالرغم من حداثة تكوين الجيش الموريتاني فإن نواكشوط شهدت منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي سنة 1960

انقلابات عسكرية

متعددة، كان أولها في 1978 وآخرها عام 2008. كان الانقلاب الأول عندما انتظر المُقدم المصطفى ولد السالك ما يقرب من 18 سنة من حكم أول رئيس لموريتانيا بعد الاستقلال المختار ولد داداه ليقود انقلابًا عسكريًا عليه في العاشر من يوليو/ تموز سنة 1978.

لم تتوقف الانقلابات على السلطة المدنية فقط، لكنها تعدت إلى انقلاب العسكريين على الجنرالات الحاكمة. تداعي الصراع على الزعامة وتدهوُر الأوضاع الداخلية دفع إلى مزيد من الطرائف حيث شهدت نواكشوط ما بين عام 1978 إلى 1980 انقلابًا كل عام، صمد بعدها حكم ولد هيدالة لأربع سنوات فقط قبل أن يتم إسقاطه سنة 1984، بعدما غادر البلاد للمشاركة في قمة أفريقية فرنسية في بروندي.

اقرأ أيضًا:

الاستفتاء الدستوري يجعل موريتانيا في نفق مظلم

بعد الإطاحة بحكم ولد هيدالة شهدت موريتانيا أطول فترة استقرار رئاسي تحت حكم العقيد ولد سيدي أحمد الطايع، إلا أن تمت الإطاحة به بعد عشرين عامًا من الحكم من قبل أعلي ولد محمد فال عام 2005، الذي بدوره قام بنقل السلطة إلى الرئيس المدني المنتخب آنذاك سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله في أبريل/ نيسان 2007.

يعد الرئيس الحالي محمد ولد عبدالعزيز ثامن رئيس لموريتانيا منذ الاستقلال وسادس رئيس عسكري يحكم البلاد منذ إطاحته في انقلاب عسكري في 6 أغسطس/ آب 2008 بالرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ عبدالله. جاء الانقلاب بعد أن أصدر الرئيس المنتخب قراره بإقالة قائد أركان الحرس الرئاسي محمد ولد عبد العزيز وقائد أركان الجيش محمد ولد الغزواني، مما دفع الاثنين مباشرة إلى اعتقال الرئيس المنتخب ورئيس الوزراء آنذاك يحيى ولد أحمد الوقف، وأعلنا قيام انقلاب عسكري وتشكيل مجلس الدولة.


اتهامات بعسكرة الديمقراطية

استطاع محمد ولد عبدالعزيز تقديم نفسه كرئيس مدني بعد الانقلاب الذي قام به في 2008، فقدم استقالته من المجلس العسكري وفاز بالانتخابات الرئاسية عام 2009، ثم أعيد انتخابه في 2014 كرئيس للبلاد لفترة ثانية، ومع اقتراب انتهاء فترته الثانية وإجراء الانتخابات الرئاسية في 2019 صرح ولد عبدالعزيز بأنه لا ينتوي الترشح لولاية ثالثة لحكم البلاد.

اقتراب انتهاء الولاية الثانية يسبقه ماراثون من معارك تكسير العظام بين النظام والمعارضة قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية والبلدية في موريتانيا والمقرر عقدها في سبتمبر/ أيلول المقبل والتي تشارك فيها المعارضة بعد مقاطعتها لانتخابات عام 2013. تسعى المعارضة مسبقًا إلى تحييد موقف الجيش من الانتخابات الرئاسية القادمة وضمان قدم ساق فيها.

اتهمت

المعارضة الموريتانية

في حملتها الانتخابية نظام الرئيس الحالي بالعمل على تفكيك المجتمع الموريتاني عن طريق إحياء و إذكاء النعرات العرقية والقبلية والشرائحية من أجل إحكام قبضته على البلد. وانتقلت اتهامات المعارضة إلى التحذير من خطورة الزج بالجيش في السياسة، مشيرة إلى أن إقحام بعض قادة الجيش وقوات الأمن في السياسة يعني تصدير الخلاف والشقاق إلى المؤسسة العسكرية، مما يعني تفكيك هذه المؤسسة التي هي الضامن الوحيد لوحدة البلد وأمنه واستقراره.

تتشابه تلك الاتهامات مع نظيرتها قبيل انتخابات 2013 حيث

ذهبت التقارير

إلى وجود مسارين لدور الجيش في التدخل للتأثير في مسار نتائج العملية الانتخابية وذلك من خلال التعبئة السياسية واختيار الأسماء المقربة من الضباط للترشح، بالإضافة إلى مخاطبة المجموعات القبلية بهدف تنسيق الدعم السياسي للحزب الحاكم، أما المسار الثاني، يتمثل في التأثير على لائحة المصوتين وذلك بنقل كتائب عسكرية للتصويت في مناطق عدة.

اقرأ أيضًا:

إخوان موريتانيا وهندسة الديمقراطية الداخلية


مدنيون برتب عسكرية

إن إقدام بعض الجنرالات بصورة علنية على جمع الوحدات القاعدية لحزب السلطة، وتنظيم الاجتماعات القبلية في بيوتهم، والتدخل السافر في الترشيحات الحزبية، وقيادة الطوائف السياسية في ولاياتهم، يفتح المجال أمام كل ضابط وكل ضابط صف وكل جندي للتعبير العلني عن قناعاته السياسية والانحياز لانتماءاته القبلية والجهوية.


في كل فترة يقرر فيها جنرال أو ضابط عسكري الإطاحة بالنظام القائم يجد دومًا

سندًا مدنيًا

، ينشط بقوة في الواجهة السياسية حيث يرون الأحقية للجيش بالحكم لأنه القوة الأكثر تنظيمًا وتماسكًا بدلًا من القوى المدنية، وأظهرت نتائج الانتخابات في 2009 و2013 دور المكونات المدنية في ترسيخ عسكرة الديمقراطية.

نجح العسكريون في إنتاج صور جديدة للانقلاب على الديمقراطية سلاحها عسكرة الديمقراطية بوجود تأثير مباشر من الجيش على المسار الديمقراطي والدور المتزايد في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، كذلك من خلال خلق كتائب وجماعات ضغط مدنية مكونة من شبكات المصالح المرتبطة بالجنرالات في ظل العلاقات القبلية المتشابكة مع قوات الأمن.

يبقى في النهاية

التأكيد على أن الانقلابات العسكرية تحتاج إلى التحالفات المدنية والسياسية لفرض نفسها وبدونها تفشل.

تلك الصور المستحدثة ربما دفعت بجنرالات الجيش الموريتاني إلى التخلي عن صور التحكم النمطية عن طريق الانقلابات، وهو ما دفع وزير الدفاع الموريتاني

إلى التحذير

في أبريل/ نيسان الماضي من محاولات الزج بالقوات المسلحة في التجاذبات السياسية، كما يرى البعض أن وعود الرئيس ولد عبدالعزيز بعدم الترشح لولاية ثالثة يأتي في نفس السياق ليكون الحكم من خلف الستار ومنع تكرار سيناريو الانقلابات بدعم مرشح بعينه.