المولات التجارية أو «الميجا مول» ذات المساحات المختلفة ومحلات الماركات العالمية، لم تعد مجرد محال تجارية لبيع الملابس والأطعمة أو مستلزمات الترفيه فحسب، بل صارت أماكن للترفيه واللعب والتزلج على الجليد ومشاهدة البطاريق وركوب الألعاب الهوائية (الملاهي).

بناءً عليه، لا يتم الحديث عن ذلك الاقتصاد الريعي أو ضخ الاستثمارات الضخمة فيه بعيدًا عن المتغيرات في البنية الأساسية والتنمية المحلية وفرص العمل ومستوى المعيشة وأسعار العقارات والتدفقات النقدية المحلية والخارجية والتنمية السياحية والإنفاق الحكومي العام على قطاع الخدمات، الذي يشمل الصحة والتعليم والإسكان والكهرباء والغاز والطاقة، ومستوى الدخول والميل الحدي للاستهلاك من قبل السكان من مختلف الطبقات، إلا أن الحديث هنا يختص باستهلاك الطبقة الأكثر شراهة للاستهلاك وهي الطبقة البرجوازية بشرائحها العليا والوسطى.

في البدء كان «الإصلاح الاقتصادي»

كان لنمو هذا الشكل الاقتصادي أبلغ الأثر على الحياة الاجتماعية في مصر، خصوصًا إذا تحدثنا -زمنيًا- عن أكثر فترات مصر الحرجة عقب 30 يونيو 2013، حيث اقتصاد شبه منهار بجميع قطاعاته الإنتاجية، وانخفاض احتياطي النقد الأجنبي الذي وصل إلى ما يقرب من 13.6 مليار دولار، مع تواصل اضطراب الأوضاع السياسية وتردي الأحوال المعيشية في الشارع المصري من جانب، وارتفاع معدلات الفساد بشكل كبير جدًا داخل القطاع الحكومي. استمر ذلك منذ خلع رأس النظام الأسبق حسني مبارك في فبراير/شباط 2011، مما تسبب في تجنيب المستثمرين رؤوس أموالهم عن ضخها في الاقتصاد المصري.

وبعد صعود الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم في يونيو/حزيران 2014، أصبحت المسئولية ملقاة على عاتق السلطة الجديدة في مصر التي صار عليها أن تواجه أزمات اقتصادية فادحة والعمل على تخفيف الآثار الناتجة عن ذلك التدهور المالي الكارثي؛ لكي تتجنب سيناريوهات الدخول في دوامات الاقتراض محليًا أو الوقوع في براثن صندوق النقد الدولي.

إلا أن السلطة الجديدة في مصر لجأت للحلول السريعة الأسهل، وهي بدء الاقتراض إقليميًا من الدول العربية التي كانت داعمة وبقوة للسلطة الجديدة بعد 30 يونيو/حزيران 2013، وعلى رأسها السعودية والإمارات والكويت ثم بدء اللجوء إلى صندوق النقد الدولي عام 2016 الذي شهد بداية المرحلة الأكثر تدهورًا اقتصاديًا، وانعكس ذلك اجتماعيًا على شرائح الطبقة الفقيرة محدودة الدخل، والاتفاق على قرض كبير يبلغ حوالي 12 مليار دولار يتم صرفه على 4 دفعات عقب إقرار خطة ما يسمى «الإصلاح الاقتصادي» التي اعتمدها بالفعل صندوق النقد.

تضمنت تلك الخطة خفض الإنفاق الحكومي العام على الخدمات الأساسية للمواطنين التي تشمل قطاعي الصحة والتعليم والطاقة بأنواعها (المحروقات – الكهرباء – المياه – الاتصالات)، كما تعهدت الحكومة المصرية بعد صرف أول دفعة وقيمتها 2.75 مليار دولار بأن تبدأ على الفور تنفيذ هذا الإصلاح.

كنمط وسلوك مؤسسات الرأسمالية العالمية في كيفية المعالجة بالصدمة حال وقوع كوارث اقتصادية كبيرة، صرح حينها مجلس إدارة صندوق النقد في بيان أن القرض سيساعد مصر في استعادة استقرار الاقتصاد الكلي، وتعزيز النمو الشامل واستعادة القدرة التنافسية، ووضع عجز الموازنة والدين العام على مسار تنازلي، وتعزيز النمو وخلق فرص العمل.

نجحت الخطة بالفعل بعد تنفيذ تلك الإجراءات التي تشبه القتل الاقتصادي للمواطنين المصريين، حيث ارتفعت أسعار جميع السلع سواء غذائية أو دوائية أو ملابس أو سلع معمرة، مرورًا بأسعار فواتير الخدمات (الكهرباء – الغاز – المياه – الاتصالات أرضي ومحمول وإنترنت)، بالإضافة إلى فرض ضريبة القيمة المضافة 13% على أي سلعة يستخدمها المواطن أو يأكلها، إلا رئيس الجمهورية كان يرى أنها صعبة لكنها ضرورية ولا مفر منها.

طفرة «المولات»

أكدت مديرة صندوق النقد آنذاك، كريستين لاجارد، كذلك أن المخاطر التي تواجه تنفيذ البرنامج الاقتصادي الذي تم التفاوض بشأنه مع القاهرة كبيرة، لكن ما يخفف من عبئها هو الدعم السياسي الواسع لأهداف هذا البرنامج والإصلاحات الطموحة. ومن هنا، بدأت الحكومة المصرية في جذب أموال عربية لتضخ استثماراتها في مصر، لكنها ليست استثمارات في مجال الإنتاج الصناعي الضخم كثيف الطاقة أو ثقيلة أو إنتاج زراعي أو إنشاء مصانع جديدة، بل استثمارات عملاقة في المولات التجارية على طرازات عالمية.

فمنذ عام 2015، تزايد إقبال الشركات العقارية على تطوير مشروعات المراكز التجارية الضخمة في عدد من المدن الجديدة، تصدرتها مدينتا القاهرة الجديدة و6 أكتوبر. وقد أعلنت شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير (وهي إحدى شركات قطاع الأعمال العام) عن تقديم شركة المراكز المصرية التابعة لمجموعة الحكير عرضًا لإقامة وتشغيل مول تجاري على مساحة 100 ألف متر داخل مشروع تيجان الإسكاني (سكن فيلل وكومباوندات)، كما أعلنت شركة الفطيم العقارية (المملوكة للملياردير الإماراتي ماجد الفطيم) أنها بصدد إنشاء 5 مراكز تجارية كبرى في مصر باستثمارات تصل إلى 16.5 مليار جنيه خلال السنوات الخمس المقبلة (2015 – 2020)، وتتضمن إنشاء 4 مولات تجارية في مناطق 6 أكتوبر وألماظة والمعادي والإسكندرية.

عزا المطورون العقاريون هذا التوجه إلى زيادة الطلب على المشروعات التجارية ونقص المعروض، بالإضافة إلى الربحية المرتفعة للمراكز التجارية، وأن تلبية متطلبات السوق تحتاج إلى عدد كبير من المولات، فضلًا عن مقارنة ربحية المولات بالمشروعات السكنية والسياحية في صالح المولات التجارية، كما صرح أيضًا نهاد عادل رئيس مجلس إدارة شركة B2B للاستثمار والتسويق العقاري بأن اتجاه المطورين المصريين والعرب للاستثمار في المولات التجارية يركز على المولات التي لا تقل عدد وحداتها عن 250 محلًا، وأن مناطق القاهرة الجديدة و6 أكتوبر على رأس المناطق الأكثر جذبًا لرجال الأعمال العرب مقارنة بالمناطق الأخرى على مستوى الجمهورية.

في نفس السياق، أشار محمد رشاد، مدير القطاع التجاري بشركة «كولدويل باكر – نيوهومز»، إلى تزايد الإقبال من قبل المستثمرين العرب على إنشاء مراكز تجارية بمساحات كبيرة (الميجا مول) في المدن الجديدة، ومن أشهر الشركات العربية المالكة للمولات التجارية في السوق المصري (الفطيم – إعمار – الشربتلي)، وقد بلغت قيمة الاستثمارات العربية ما يقرب من 100 مليار جنيه في عام 2015 فقط.

ومع حلول عام 2017، أعلنت مجموعة شركات ماجد الفطيم عن افتتاح «مول مصر» الكائن بطريق الواحات، على مساحة 165 ألف متر مربع، وقد تم تنفيذه بإجمالي استثمارات 722 مليون دولار. وأكدت الشركة أن مول مصر أكبر مشروعاتها في السوق المحلي المصري، حيث إنه يمثل أهم دعائم الخطة الاستثمارية في مصر والتي بلغ حجمها 23 مليار جنيه. وقد صرح قالآلان بجاني، الرئيس التنفيذي لمجموعة الفطيم، عام ٢٠١٩ لوكالة رويترز، بأن مجموعته استثمرت حوالي 28 مليار جنيه في مصر منذ نهاية 2015 حتى الآن في العديد من المشروعات، مثل مول مصر وسيتي سنتر ألماظة وفوكس سينما وكارفور، كما صرح بأن المجموعة ستستثمر 16 مليار جنيه أخرى خلال عامين إلى ثلاثة، إضافة إلى 14 مليار جنيه أخرى في قطاع مراكز التسوق.

وفي فبراير/شباط 2021، أعلنت مجموعة الفطيم عن استثمار 2.2 مليار جنيه، أي ما يوازي 141 مليون دولار، في مصر خلال العامين القادمين؛ وذلك لإضافة توسعات جديدة وتحديثات في كايرو فستيفال سيتي مول بالتجمع الخامس، وأن الإنشاءات تستغرق حوالي 18 شهرًا، وافتتاح المبنى الجديد الذي يطلق عليه «فستيفال أفينو» سيكون في الربع الأول من عام 2023؛ لذلك ضخ الاستثمارات في المشروعات التسويقية أصبح يحقق عائدات وأرباحًا كبيرة مضمونة بعيدًا عن طبيعة السوق العقاري المتغير والمتقلب، ووضع الاستثمارات فيه بمثابة مخاطرة برأس المال.

إلا أن الخبير الاقتصادي مدحت نافع، مدير عام وعضو اللجنة التنفيذية العليا بالبورصة المصرية، يرى العكس تمامًا. ففي رأي نافع، من الأفضل أن نبدأ بدراسة طبيعة المجتمع الذي تنشأ به تلك المراكز التجارية أولًا، فكلما كان المجتمع محدود الدخل كلما كان الميل الحدي للاستهلاك كبيرًا، أي أن المواطن يخصص الجانب الأكبر من دخله على الاستهلاك وهذا النوع من المغريات. فالمولات تقوم في الأساس على تجميع العديد من العلامات التجارية والمنتجات في مكان واحد، وتلك المغريات من شأنها أن تزيد من استقطاع جانب أكبر من الدخل بغرض الاستهلاك، فضلًا عن أن نمو اقتصادنا في مصر محفز بالاستهلاك بنسبة تزيد عن 95% وهو ما يعني أننا ننتج السلع والخدمات بغرض الاستهلاك، ولأن الصادرات محدودة للغاية ولا تزيد عن 18 مليار دولار سنويًا، فإن الإنتاج يكون للاستهلاك المحلي بالأساس، ومن ثم فمشروعات المراكز التجارية (المولات) تساهم في تحسين شبكة المواصلات وتقيم الكباري وتعبد الطرق ويخلق المزيد من فرص العمل.

اقتصاد للأقلية

انطلاقًا مما سبق، وجد المستثمرون العرب صدى استثماراتهم لدى الشرائح العليا والوسطى من الطبقة البرجوازية الشرهة للاستهلاك التي سجلت الحضور المكثف في تلك المولات الضخمة، والمتمثل في الترفيه غالي الثمن وشراء الملابس من أفخم الماركات العالمية والساعات الفارهة والتبضع بآلاف الجنيهات، حيث اقترن ذلك بقيمة الوحدة الإيجارية عالية الثمن التي يحاول أصحاب المحلات تعويضها مع هامش الربح المناسب لهم، ويؤيد ذلك الاتجاه كلام المهندس أحمد حامد، مدير إدارة التسويق بشركة أدوار للاستثمار العقاري، بأن ثقافة المولات باتت موجودة لدى المواطن المصري عكس العقود السابقة.

لكن الملفت أن المسوّق العقاري لم يوضح أي مواطن مصري هذا الذي ينتظر إنشاء مول في التجمع الخامس و6 أكتوبر ليتبضع من «كارفور» و«H&M» ويتزلج على الجليد ويشاهد البطاريق في مول مصر! هذا بالإضافة إلى رضا الغالبية من الطبقة البرجوازية عن الخدمات التي تقدمها قطاعات السجل المدني بوزارة الداخلية داخل المولات، حيث أُدخلت خدمات استخراج الأوراق الرسمية والمميكنة لتجنب مشاوير الذهاب والزحام في طوابير القسم الذي بداخله السجل المدني، وقد أعلنت الداخلية عن تفعيل خدمة المحررات المميكنة المترجمة بمول مكسيم بالقاهرة الجديدة، مول سيتي سنتر المعادي بالقاهرة، مول العرب في 6 أكتوبر بالجيزة، مول العرب بطنطا، الغربية، وكذلك استخراج كافة الأوراق الرسمية الخاصة بالشهر العقاري، حيث تم افتتاح أفرع للشهر العقاري أيضًا بالمولات.

والآن أثناء إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، تنتشر آلاف الإعلانات على الطريق الدائري، وعلى جانبي شارع التسعين بالتجمع الخامس ومناطق 6 أكتوبر، عن قرب افتتاح مولات ضخمة بالعاصمة الجديدة فبادر بالحجز فورًا في فلل وكومباوندات، بمساحات واسعة لتناسب وضعك الاجتماعي والسكني الجديد؛ لتصبح قرب المول الجديد المناسب لأوقات ترفيهك وتسوقك.

يبرر ذلك الشكل الاقتصادي كذلك بأنه يخلق آلاف فرص العمل، وهي بالطبع فرص عمل غير آمنة مؤقتة أغلب من يعملون في المولات غير مؤمن عليهم، ولا ينطبق عليهم قانون العمل لأنه قطاع خاص غير خاضع لأي حقوق أو زيادات مالية حكومية، وفي نفس الوقت تجنب المستثمرون عناء التصنيع والإنتاج وإنشاء مصانع وتشغيل عمالة ودفع مرتبات وحوافز ونسب من الأرباح، ولا يشغل باله بإضراب عمالي ضد انتهاك قوانين العمل أو من أجل زيادة المرتبات، فالطريق الأسهل والأسرع لنمو الأرباح هو الاقتصاد الريعي ذو القطف السريع.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.