لا تحاول أبدًا أن تمنطق مشاعر الجماهير عقب كل مباراة. كانت تلك هي الجملة الأساسية التي يرد بها البعض إثر وجود حالة فرحة عارمة أو حزن متطرف لفوز أو خسارة الفريق المفضل.

يكمن سحر كرة القدم في توحد الجماهير مع الفريق دون شك، بداية من ألوان الملابس وصولًا للهتافات ثم المشاعر الصادقة من حزن وفرح. مجانين كرة القدم في كل مكان ويتفننون في التعبير عن هذا الجنون.

يذكر

إدواردو غاليانو

في كتابه

كرة القدم بين الشمس والظل

على لسان الصحفي الأرجنتيني المخضرم

أوزفالدو سوريانو

أن أحد مشجعي بوكا جونيورز المخلصين طلب على فراش الاحتضار أن يلفوه براية الغريم ريفر بليت قائلًا «لكي يكون الميت واحدًا منهم».

حسنًا، هكذا كانت كرة القدم ولا شيء جديد في ذلك، ما نتحدث عنه تلك المرة هو ما طرأ من تغير بسبب وجود الإنترنت وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي بما تحتويه من عالم خاص.

عالم مكونه الأول والأساسي هو التواجد في حد ذاته. أنت غير موجود على مواقع التواصل الاجتماعي إلا إذا تفاعلت. تبدي رأيك أو تعلق على رأي أحدهم أو تعلن تضامنك معهم بالضغط على زر يوضح الإعجاب أو الحب أو حتى الضحك.

تمامًا مثلما كتب الشاعر «مصطفى إبراهيم» في قصيدته «المواقع الزرقا».

والآلة قدامك بتتأكد إن أنت مش آلة

وأنا لسه بعماصي

بشوف قصص وبشوف مآسي

أكتر مما اتحمِّل

لكن صباعي لوحده بيكمِّل

لأن الوحدة بتخوِّف

وأنا مش وحيد

وإمَّا يجد جديد

هكون في انتظاره هنا

أنا

وولادي

وولاد ولادي

على المواقع الزرقا






الشاعر مصطفى إبراهيم


في البدء كان كل شخص يعبر عن تواجده هذا بطريقته الخاصة ثم ظهر مع الوقت ما يسمى بـ «الميم».

حسنًا، ما علاقة الميمز بكرة القدم التي يتسم تشجيعها بالتطرف المطلق؟ هنا بيت القصيد. لأن الميم كان أقرب الصور التي وجد فيها مشجعو كرة القدم حلًا سحريًا لتشجيع كرة القدم افتراضيًا.

يمكننا تعريف الميم طبقًا لموقع Merriam-Webster اللغوي الأمريكي الشهير على أنه عنصر ممتع أو مثير للاهتمام مثل صورة أو مقطع فيديو مرفق بنص معين ينتشر على نطاق واسع عبر الإنترنت خاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

ماذا فعلت الميمز في كرة القدم؟

أصبحت جماهير كرة القدم مهووسة بما يسمى تحفيل ما بعد المباراة، التحفيل هنا المقصود به الاحتفال بالفريق الفائز والنيل من الفريق الخاسر دون النظر إلى أي تفاصيل منطقية أو فنية أو حتى رقمية، وبالطبع الميم هو بطل تلك الطريقة دون منازع.

لماذا يشغل المرء نفسه بكل التفاصيل التكتيكية التي توضح سبب هزيمة فريقه أو حتى رصد أداء لاعب ما يملك دورًا محوريًا في خطة المدرب ويؤثر على النتيجة طالما أنه قادر ببساطة على نشر ميم الكابتن علاء عبد العال وهو يصرخ: هي دي كورة.


يفوز الأهلي بعد أداء سيئ مليء بالأخطاء الفنية الواضحة فتبدأ جماهير الأهلى على الفور في نشر ميم بعنوان: حرك شفايفك عشان مش شايفك. هل ناقش أحد كم الأخطاء الواضحة والمؤثرة في مسار الفريق؟ بالطبع لا لأن الأهم هو التحفيل وطالما أن الميم موجود فلا داعي حتى للتفكير.


كان أخطر ما وقع فيه مشجعو كرة القدم طبقًا لتلك الطريقة هو التنميط. لأن الميم الجاهز يوفر على الجميع عناء النقاش ويحقق غرضه من الاحتفال والنيل من المنافس لكنه يضع لك قالبًا ثابتًا لا تحيد عنه.

طبقًا لتلك القوالب، يفوز الأهلي بالحكام وأزمة الزمالك الأساسية هي عدم الاستقرار واقترب الإسماعيلي من الهبوط لأن الأهلي لا يلعب في الإسماعيلية ولاعبو بيراميدز يلهثون وراء الأموال وبقية لاعبي الدوري يلعبون حبًا في كرة القدم.

محمود علاء: مدافع الزمالك حبيب الأهلاوية

كان أشهر ميم والأكثر استمرارية وتأثيرًا في كرة القدم في الفترة الماضية هو ميم عبارة عن صورة تشير إلى حصول محمود علاء لاعب الزمالك على أفضل لاعب في قوام النادي الأهلي. ميم ذكي دون شك بسبب خطأ في إخراج الكرة قام به مدافع الزمالك وانتهى بهدف للأهلي نصره على غريمه في نهائي بطولة أمم أفريقيا للأندية.


انتشرت تلك الصورة على نطاق واسع بقدر أهمية الحدث، فالخطأ كان سببًا في فوز الأهلي بنهائي القرن، لم يناقش أحد مدى أفضلية الزمالك في هذه المباراة فنيًا وكيف أن العامل البدني كان مؤثرًا للغاية في خسارة الفريق.

لم يجلس أحد مع محمود علاء نفسه ليوضح له أن هذا الخطأ البدائي لا يمكن أن يصدر عن مدافع دولي كبير وكيف أن إخراج الكرة لا يكون في قلب الملعب بتلك السذاجة.

ميم مميز، أي نمط لطيف تم استخدامه مع كل خطأ لمحمود علاء بعد ذلك سواء كان مؤثرًا من عدمه، سواء كان بسبب محمود نفسه أو تعليمات تخص طريقة دفاع خط الوسط وتحرك الظهيرين. نمط ثابت كانت نتيجته أن فقد الرجل ثقته بنفسه تمامًا.

والحقيقة أن المبرر المنطقي هنا أنه لا يمكن أن نلتفت لجمهور السوشيال ميديا وأن هذا يحدث في العالم أجمع، لكن في المقابل ربما نسي المسئولون أن مصر تلعب كرة قدم بدون جماهير منذ سنوات وأن جمهور السوشيال ميديا ذلك أصبح الجمهور الحقيقي الآن في مصر.

لم يلتفت أحد لذلك إلا عندما ظهر الجمهور في المدرجات بعد غياب.

جمهور السوشيال في المدرجات

تحدث أشاوس المشجعين أنهم لم يتفهموا أبدًا لماذا تغني جماهير الأهلي بأهازيج حب التشجيع بينما تشير النتيجة إلى تعادل الفريق ضد المريخ في مباراة قد تطيح به من دور المجموعات وهو الفائز بآخر نسختين.

أما عن اللعب خارج الأرض فهناك معلومات أفصح عنها واحد من جهاز الزمالك المقال أن لاعبي الزمالك شعروا برهبة عظيمة بمجرد أن خطت أقدامهم أرض الملعب في مباراة الوداد التي أقيمت في المغرب. حتى أنهم شعروا أن هدف زيزو المبكر زاد من الضغط عليهم على عكس المفترض. والسبب أن تشجيع جماهير فريق الوداد كان جنونيًا وضاغطًا وموترًا بشكل كبير.

عادت جماهير كرة القدم بنسبة بسيطة خلال هذا الموسم بعد إقرار نظام تذكرتي بما يحتويه من قيود ومراقبة منطقية بعض الشيء، نظرًا للماضي الأليم المتعلق بتواجد الجماهير في مصر، لكن تفاجأ الجميع أن التشجيع اختلف كثيرًا.

هذا معناه ببساطة أن الجماهير المصرية فقدت ما تملكه الجماهير من مفاهيم تتعلق بالشراسة والدعم والتحفيز؛ لأن الميم أوقعها في فخ التنميط الثابت وغير المجدي.

محمود علاء في مواجهة الجماهير

لاعب كرة القدم في مصر لا ينفصل عن أفكار تشجيع السوشيال ميديا لكنه يملك الحل السحري في المقابل. ينشر اللاعب صورة له معنونة بتعليق أحد أصدقائه وهو يؤكد أن هذا اللاعب لاعب مجتهد ومحترم وكريم ومقدام إلى آخر الصفات الحميدة كلها.

حسنًا، هكذا ينتهي الأمر. هناك تعليقات سلبية وميم يؤكد أن اللاعب أخطأ وفي المقابل هناك تعليقات إيجابية ينشرها اللاعب عن نفسه وهكذا ينتهي الأمر. لكن ماذا لو أحضرنا واحدًا من أبطال الميم في مواجهة الجمهور وجهًا لوجه؟

هذا ما حدث حرفيًا عندما تواجدت الجماهير في مواجهة محمود علاء. خلال المباراة الأولى التي جمعت فريقي الأهلي والزمالك صرخت جماهير الأهلي بهتاف: «محمود علاء أهلاوي»، في استمرار لفكرة الميم الأساسية.

استمرت أخطاء محمود علاء فاقد الثقة في نفسه واستمرت الصور التي ينشرها على حسابه والتي تؤكد أنه لاعب مجتهد، لكن في المقابل كانت جماهير الزمالك نفسها فقدت الثقة في الرجل تمامًا.

ظهر غضب جماهير الزمالك بوضوح بعد خسارة الفريق من الوداد في أرض القاهرة، وقررت الجماهير أن تعبر عن غضبها عن طريق سب محمود علاء وهو التصرف المشين بالطبع، لكن في المقابل لم يجد محمود علاء الذي لم يعتد وجود جماهير غاضبة بشكل حقيقي ولم يصحح له أحد أخطاءه أي وسيلة للدفاع عن نفسه، فقرر خاطئًا أن يبادل الجماهير الغضب والخطأ.

لماذا لم يتفهم محمود علاء غضب جماهير الزمالك الذين لقبوه بـ راموس من قبل؟ لأن الميم وضعه في نمط الرجل الخاطئ على الدوام ففقد الثقة في نفسه لأنه لم يعتد مواجهة الجماهير الحقيقية متطرفة المشاعر؛ ولأنه قضى سنين مختبئًا وراء صور وتعليقات أصدقائه المحبة.