غارقاً في الليل الأصم وهرب السعادة، كانت تلك كمثل إحدى ليالي الجحيم مع جليد يصلح لخنق العالم ببالغ الحسم





آرثر رامبو-صحاري الحب


«بلا حب» هو الفيلم الخامس للمخرج الروسي أندريه زفياجنتسيف «واحد من أكثر المخرجين المعاصرين أصالة سواء على مستوى الأسلوب أو الرؤى التي يطرحها خلال أفلامه» والحائز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي 2017.

يفتتح «زفياجنتسيف» فيلمه بتتابع من اللقطات لأشجار جرداء، يابسة وبلا حياة، مع تساقط الثلج كأنه يضبط حالتك الشعورية، قبل أن يحملك هذا التتابع مباشرة إلى قلب عالمه حيث يقص علينا قصة زوجين الأب (بوريس) والأم (شانيا) قد أتى زواجهما المرير إلى نهايته، كل منهما قد بدأ في مواعدة شريك آخر بالفعل، يلتقيان في مسكن الزوجية حيث لا تزال شانيا وابنهما (اليوشا) 12 عاما يقيمان فيه من أجل مناقشة مصير الصبي بعد إتمام إجراءات الطلاق.

كل منهما يرفض رعاية الصبي، الأم تريد أن تودعه في مدرسة داخلية من أجل أن تواصل حياتها مع شريكها الجديد، والأب يريد من الأم أن تواصل رعايتها له، ليس من أجل مصلحة الابن بل خوفًا من أن يفقد عمله حين يكتشف رئيسه في العمل إيداع ابنه في مدرسة داخلية «رئيسه في العمل أرثوذكسي أصولي لا يسمح للعمل في شركته لغير المتزوجين أو غير المعمدين». الحوار بينهما عن الصبي يفيض بالبغض لا يحمل أدنى قدر من الحب أو العاطفة، «حتى الحب الغريزي الذي يكنه الآباء للأبناء، هذا الحد الأدنى من الحب الموجود عند الكائنات مفقود في فيلم زفياجنتسيف».

في ذروة هذه المعركة الدائرة بينهما تتحرك الكاميرا لتتبع الأم إلى الحمام لتكشف لنا عن الصبي خلف بابه مختبئا في الظلام كمثل حيوان مذعور متألمًا ومصدومًا محاولًا أن يخمد بيديه صوت بكائه، كيف لروح الصغير أن تحتمل مثل هذه القسوة العارية، في الصباح التالي يختفي الصبي اليوشا عن هذا العالم دون أثر يذكر. يتحدث زفياجنتسيف عن هذا المشهد «إنه المشهد الذي بدأ منه كل شيء كان في مخيلتي حتي قبل أن أشرع في كتابة نص الفيلم رفقة أوليج نيجن – شريكه في كتابة نص الفيلم – أردت لهذا المشهد أن يكون مثل ضربة موجعة في القلب ضربة لا يزول أثرها حتى النهاية».


بين «بلا حب» لزفياجنتسيف و«المغامرة» لأنطونيوني

اختفاء الصبي هكذا دون أثر يعيد إلى الأذهان فيلم المغامرة للمخرج الإيطالي الكبير «مايكل أنجلو أنطونيوني»، والذي يعتبر أيقونة من أيقونات الحداثة السينمائية، عن اختفاء شخصية تُدعى «آنا» على إحدى الجزر ورحلة البحث عنها والأثر الذي يتركه غيابها على الشخصيات المحيطة بها. اختفاء آنا يجنح أكثر نحو الغموض والتجريد ولا يزال أحد الألغاز السينمائية غير المحلولة حتى الآن، بينما يمنح زفياجنتسيف صبيه ما يكفي ليبرر رغبته في الاختفاء عن هذا العالم.

هناك تقارب بين الفيلم على صعيد الشكل والمحتوى، كلاهما يرصد الطبيعة الإنسانية في لحظة ما، أنطونيوني كان يستقصي الطبيعة الإنسانية في زمن الحداثة، اضطراب وفوضى العواطف والخواء الروحي والاغتراب بعد الازدهار الاقتصادي في الستينات. بينما زفياجنتسيف يرصدها في اللحظة الراهنة.

يتحدث زفياجنتسيف في أحد حواراته: «إن الفيلم يرصد أثر المال علي الطبيعة الإنسانية، لم يكن هذا واردًا إبان الفترة الشيوعية، كيف تغيرنا هنا في روسيا! بعد سقوط الشيوعية بسنوات وجدنا أنفسنا وقد قُذف بنا وسط عالم الرأسمالية والاستهلاك دون استعداد لذلك هذا غيرنا بطريقة يتعذر تفسيرها». هنا يتحدث زفياجنتسيف عن التشوه الذي حدث للعواطف الإنسانية، عن العلاقات المحطمة وانعدام التواصل وتضخم الذات.

في «المغامرة» يرصد أنطونيوني في رحلة البحث عن «آنا» تيه شخصياته على الجزيرة راصدًا إياهم في مواجهة الطبيعة، يستخدم أنطونيوني كادرات تخلو من البشر، لقطات لصخور الجزيرة، لقطة لإعصار، لأمواج مضطربة، هذه اللقطات الفارغة لا غنى عنها فهي ذات أهمية كبيرة في بناء فكرة الفيلم والحالة الذهنية لشخصياته. يرصد زفياجنتسيف أيضًا حالة الضياع واليأس والاضطراب لشخصياته أثناء البحث عن الصبي في الغابة المترامية وأمام خلفيات المباني العالية، كما يستخدم باستمرار كادرات لأماكن تخلو من البشر مثل لقطات للغابة والبيت المتهدم والخراب، لقطات لفناء المدرسة خاليًا في الليل وتحت الثلج المتساقط في رحلة البحث عن «اليوشا». تتجاوز هذه الأماكن هنا الدور الذي تمثله في السرد التقليدي – حيث لقطات الأماكن يجب أن تكون مبررة بوظيفتها في الحبكة أو بوجود شخصية في هذه الاماكن – إلى تعبيرها عن الحالة الداخلية للأشخاص ولبناء فكرة الفيلم.


العالم السينمائي لأندريه زفياجنتسيف

يصور لنا زفياجنتسيف في فيلمه الخامس عالمًا مظلمًا وباردًا، عالمًا يخلو تماما من الحب يقول زفياحنتسيف إنه «متشائم ولكنه يتطلع إلى المستقبل في أمل»، لكنك حين تتأمل عالمه هنا لن تعثر على أي أمل أو عزاء، إنه أكثر رؤاه قتامة وقسوة حتى الآن.

كل العلاقات بالفيلم تعكس غياب الحب وفقدان التواصل «سواء العلاقات العاطفية أو العلاقات داخل العائلة»، علاقات مشوهة ومنذورة للفشل «شانيا تخبر أنطوان – رفيقها الجديد أنها تحبه لكنه لا يجيب، فتاة في مطعم تعطي رقمها لشخص غريب ثم تعود لتجلس مع الشخص الذي تواعده ولينا رفيقة بوريس حين تبكي في قلق من أن يتركها مثل زوجته الأولى لا يخبرها أنه يحبها بل يخبرها أنه لا أحد جعله سعيدًا مثلها».

هناك تيار داخلي من اليأس يسري في كل أفلامه، عالم على حافة القيامة، الأصوات الصادرة من الراديو أو التلفاز تتحدث دائمًا عن الفساد، الحرب ونهاية العالم. وكما يقول زفياجنتسيف «حين يأتي الأمر إلى الإنسانية، إلى جوهر الكائن الإنساني، هناك دائمًا نغمة أبو كاليبسية».

مما يعزز أيضًا من قتامة عالمة استخدامه في المشاهد الداخلية إضاءة خافتة تقترب من الظلام التام، عالمه الفيلمي يبدو مثل دائرة مغلقة، فالعلاقات الجديدة تؤول إلى ذات مصير العلاقة الأولى فطفل بوريس الجديد يعاني من نفس الإهمال واللامبالاة من قبل والديه مثلما اليوشا «طفله القديم الضائع»، وعلاقة شانيا بأنطون أيضًا حيث نجدهما يجلسان معًا وكل منهما يبدو بعيدًا كما لو في عالم آخر، يختتم الفيلم بذات الشجرة التي توقف عندها اليوشا في بداية الفيلم ولا تزال على حالها جرداء وبلا حياة، وهناك هذا الشريط البلاستيكي العالق بها ربما كذكرى أخيرة. «نرى في المشهد الذي يسبقه تدمير غرفته القديمة بعد أن آلت إلى سكان جدد» . هذا الشكل الدائري المغلق يطبع الفيلم بطابع كابوسي، لا شيء ينتهي فكل شيء يبدأ من جديد.

يعتمد زفياجنتسيف على نص محكم أبدعه رفقة «أوليج نيجن» الذي شاركه أيضًا في كتابة فيلميه السابقين «ايلينا» عام 2011 و«ليفياثان» عام 2014.

السياسة التي اتبعها النص لتعبير الشخصيتين الرئيسيتين عن دواخلهما تستحق التأمل فنرى «شانيا» تتعرى جسداً وروحًا مشهدًا بعد مشهد، معبرة عن كراهيتها لزوجها وعن عجزها عن الحب وعن علاقتها المشوهة بابنها وبأمها، الأم التي نلتقي بها في رحلة البحث عن اليوشا تبدو مثل مسخ بشري مجرد من المشاعر وغير قادر على إبداء أي نوع من التعاطف مع الابنة حتى في أحلك الظروف، الأمر أشبه بلعنة تنتقل من جيل إلى جيل دون خلاص، في فيلمه إيلينا تقول الابنة للأب مبررة قرارها بعدم الإنجاب «جيل مريض لن ينتج سوى شيء مماثل». على الجانب الآخر يظل «بوريس» متكتمًا طيلة الفيلم، بإمكاننا أن نشعر بغضب مكتوم داخله لا يجد سبيله للخارج إلا في نوبات غضب مقتضبة، في أكثر من مشهد تقترب الكاميرا منه بينما هو يدير ظهره للكاميرا تتوقف كأنما هي أمام شيء يتعذر سبره أو ربما لا يوجد بداخله ما يستحق أن تقترب أكثر من ذلك الأمر أشبه بالتحديق في الظلام .


زفياجنتسيف الروسي الغاضب

يري البعض في فيلمه هذا مع فيلميه السابقين نظرة فاحصة على روسيا المعاصرة، تعليقًا سياسيًا واجتماعيًا على الحالة الروسية، تستطيع أن ترى في كل حوارات زفياجنتسيف غضبه وتشاؤمه حين يتحدث عن روسيا، «الحياة في روسيا تشبه وجودك في حقل ألغام، من العسير جدًا أن تبني أي تطلعات أو آمال».

في فيلمه السابق «ليفاثان» فيلمه الأعلى في نبرته السياسية «الفيلم الذي اعتبره وزير الثقافة الروسي معاديًا لروسيا»، حيث ينتقد فساد السلطة ويشن هجومًا حادًا على الكنيسة الذي اعتبرها أداة في يد السلطة ورجال الدين الذي يرى أنهم قد عادوا إلى زمن المفتش العظيم، هناك تتراجع السياسة إلى خلفية عالمه، صوت قادم من راديو السيارة أو عبر شاشة التلفاز. وفي «إيلينا» أيضًا نستطيع أن نرى اتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية. لكن هذا التعليق السياسي والاجتماعي على الحياة المعاصرة في روسيا ليس أكثر من القشرة الخارجية لعالمه، «أنا أصنع أفلامًا شديدة الحميمية بالنسبة لي أفلامًا عن العلاقات بين البشر محاولا استقصاء الحالة الإنسانية دون حدود».


تحية عابرة لنيقولاي جوجول

في المشهد قرب النهاية نجد شانيا وقد آلت علاقتها التانية إلى ما آلت إليه الأولى ترتدي زيًا رياضيًا مكتوبًا على الصدر روسيا وتمارس الجري وتنظر إلينا عبر عين الكاميرا، وقد عاد إليها يأسها القديم بعد أن تبددت أوهام الحب، لا تعرف إلى أين تذهب. المشهد تحية عابرة للأديب الروسي «نيقولاي جوجول» وروايته الأنفس الميته كما يقول زفياجنتسيف حيث يختتم روايته بمشهد مماثل حيث الشخصية الرئيسية تغادر مدينتها بعربة تجرها الخيول، يكتب جوجول «آه ياروسيا .. إلى أين تذهبين؟ ثم يقول لا إجابة لذلك ولا يزال السؤال دون إجابة حتى الآن».

قالت لجنة تحكيم مهرجان لندن عن الفيلم والذي اختارته كأفضل فيلم لهذا العام «شعرنا أن (بلا حب) فيلم شاعري جدًا وجميل. إنه فيلم حزين ومروي بعاطفة جياشة وعلى الرغم من تركيزه على قصة حميمة لإحدى العوائل الروسية، إلا أنها تبدو كمأساة كونية، يمكن أن نصفها بأنها واحدة من أعظم قصص الحزن في العالم».