يُقال إن«البعيد عن العين بعيد عن القلب»، لكنها مقولة رديئة يكتنفها الجهل والعي؛ جهل القلب البارد وعيّ الروح الخاملة. فكيف تصِحُّ ومِن الخلق من يُحب الله تعالى وهو غيب الغيوب الذي لا تُدركه الأبصار، ولا يزداد المؤمن مع كل هذا الغيب إلا حُبًا، ولا تزداد حُجب القلب مع هذا الحب إلا تكشفًا وانجلاءً رغم تكاثُف حُجب البصر. بل كيف تصِح ومن الخلق من يُحب بشرًا لم يره، كما يُحِبُّ المسلم نبيه صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحابته، وسائر الأنبياء وحوارييهم، وكثير من الأولياء والصالحين.يُحبهم ولم يرهم رأي العين ولا صافحت عينه بهاء طلعتهم ولا جرب مخالطة حُسن شمائلهم. إننا نُحب ولو غيبًا لأننا نحتاج لهذا الحب؛ نحتاجه أنطولوجيًا (تكوينيًا) وأخلاقيًا،


نحب لأننا لا نستطيع التألُّه،


نحب لنستشعِر إنسانيتنا وضعفنا وحاجتنا لمن نكتمل بحبه،


نحب لأننا ننشُد الكمال.

ونحن نُحب أعيان البشر رغم حواجز الزمان والمكان، والتي قد تحول بيننا وبينهم. نُحبهم لأن هذا الحب هو أول درجة من درجات الترقّي طلبًا للحُب الأكمل الذي نسعى إليه تلقائيًا من المهد إلى اللحد، وربما بغير وعي؛ لأنه فطرة مغروسة. نُحب أعيان البشر، ممن لم تُصافح عيوننا وجوههم أبدًا؛ إذا كانوا بسِيَرهم يُكملون نقصنا ويجبرون كسرنا. إذا تحلوا بما نطمع في التحلي به، أو تخلوا عما نطمع في التخلي عنه. وبعبارةٍ سينمائية هوليودية: نحن نُحب أبطالنا،


نحب من يُذكروننا بإنسانيتنا ونقصنا المجبول ومكابداتنا الأبدية لهذا النقص،


نحب من جسدوا طموحاتنا وأحلامنا التي أقعدنا الوهن عنها،


نُحب الدرجات الأعلى في سُلم العشق الذي نُكابد في ترقّيه.

لكننا أيضًا قد نُحب بعض المكابدين على الدرجات الأدنى في سلم العشق الذي تُكابد الإنسانية جمعاء في ترقيه، وقلما تنجح. نحب فيهم ضعفنا الذي مررنا به وما زال يُعاودنا كل حين، ونحب فيهم الرحمة الإلهية الأزلية التي تنتشلنا إلى درجةٍ أعلى بعد عناء كل مكابدة. ونحب لهم ما هُدينا إليه، وما نُكابِد أنفسنا لاستبقاء بعضه.

والحقيقة أن حب مساكين المكابدين ومنكوبيهم أسمى وأكثر إنسانية من حُب أولي العزم السابقين على درج الكمال؛


إذ من «الطبيعي»والمتوقع أن تُحِب من تطمع في التخلق بأخلاقه، وترنو إلى من سبقك في السلوك بإكبارٍ وتعظيم. وذروة هذا الحب ومُنتهاه هو حب الذات الإلهية وأخلاقها المثلى وصفاتها العُلى، سبحان الله وتعالى عما نتصور أو يخطر على قلوبنا.لكن قلة فقط هُم من بوسعهم حُب بعض المساكين أو أحد الضعفاء الذين تخلفوا على الدرب، سواء أقعدهم عجز أصيل أو خمول همةٍ أو غيرها من أسباب الضعف البشري،


وما ذلك إلا لأن هذا الحب يلزمه قدرٌ هائل من التصالُح مع النفس، ومن الإيمان بالتاريخ، ومن التواضُع لله. فأنت لن تُحِب من هو دونك من المتعثرين إلا إن كنت مُتصالحًا مع تاريخك ومع مسار معاناتك الذي تجاوزت به غيرك؛ مُدركًا أنك لولا لطف الله ومعونته على الضعف المجبول لما تنعمت ببعض القوة في المكابدة، ثم رُزِقت التوفيق فيما أعانك عليه. إن حُب المساكين ممن تخلفوا على الدرب يحتاج لطاقة هائلة من حُب النفس. ليس حُب النفس بالمعنى الساذِج للتمركُز حول الذات وشهواتها الدُنيا، وإنما حُبها بمعنى التصالُح مع ضعفها والتواضُع بها لله، بمعنى الوقوف المتأدب عند حدها البشري، والرضا بحدود طاقتها التاريخية.إنه حبٌ يُراعي قيود التاريخ وإن لم يكن أسيرًا لها. يعرف أن النهر لا يجري من تحته وأن عليه السباحة فيه ليبلُغَ مأمنه، فينزله مُستعينًا بالله عليه. إنه ينظر إلى نهر التاريخ نظرة المشفِق على نفسه وعلى إخوانه في الإنسانية، سواء من هُدي منهم أو من ضل. إنه يعرف لتاريخه حقّه، بكل هنّاته؛ فلا يُقدِّسه ولا يزدريه، ولا يذوب فيه أو ينسلخ منه،بل ينظر إليه على أنه مجال المكابدة، طريق العروج والسقوط، وموضع تنزُّل الرحمات والألطاف الإلهية على العبد المكابِد.

والحب بين المخلوقات، وخصوصًا ما يكون بين الرجل والمرأة، لا يخرُج عن اللونين السابقين. لكن قد يُضاف لهما حُب الأقران المتناظرين، وهي أحوال جد نادرة، آخذين بيد بعضهم بعضًا في رحلة العروج. فالحب بين الرجل والمرأة إما حُب من يرنو إلى من سبقه ويطمع في أن يأخذ محبوبه بيده، أو حب من يحنو على محبوبٍ تخلف على الدرب ويرجو الأخذ بيده، أو حُب متناظريْن يُحلقان سويًا في رحلة العروج، خطوة بخطوة، وهو لعمري أندر من الزئبق الأحمر.

وحُب الرجل لامرأة بعينها يعكِس رؤيته للكون. فهو إما مُستلَبٌ في حُب امرأةٍ يستشرِفُ فيها مُستقبل أيامه مُترقيًا ليلحق بها، وإما غارِقٌ في حب امرأة يتصالَح بها مع نفسه وماضيه وتاريخه، أو مشغول بصُحبة امرأة يكتشِفُ معها الوجود لحظة بلحظة، ليندمج تاريخهما ويتحد مُستقبلهما مع كل خطوة يخطوانها سويًا على الطريق. وقد يجمع الرجل في حُبه بين لونين، وهو أمرٌ قليل نادر. وقد تجمع رابطة روحين الألوان جميعها، وهي الاستثناءات شديدة النُدرة التي أفصحت عنها ملاحم العشق المشتهِرة في تاريخ الإنسانية، وارتبط فيها العشق بالموت، وظلت حية في وجدان الإنسانية تتزود منها كل حين؛ أمثال: ليلى والمجنون، وشيرين وفرهاد، وروميو وجولييت.

في هذه الصور الملحمية النادرة يكون العشق تحررًا حقيقيًا من كل أوهاق الأرض، وسجنًا كاملًا في روح المعشوق: في شقّه الإلهي الشفيف. يكون موتًا كاملًا للذات الإنسانية العاشقة وفناءً لإرادتها. ولأنه ما مِن وَصلٍ في الدنيا إلا ويجب أن يسبقه فصل، فإن انفصال العاشِق عن الكون وأثقاله كما يُحرره حتى من ذاته، ويحرر إرادته من سجن المصلحة المادية والشهوة اﻵنية، فإنه يُسلِم هذه الإرادة إلى المعشوق حين تتحِد روحاهما. هذا الاتحاد/الوصال نادرًا ما يكتمِلُ في الدنيا، خصوصًا في هذه الحال الملحمية؛ ذلك أن الطاقة التي يولدها اتحاد روح العاشق بالمعشوق طاقة لا يُمكن أن يحتمِلها الوجود المادي، بل هي في الغالب قد تجلِب للطرفين الشقاء الدنيوي إن اكتمل اتحادهما إبّان هذا الوجود الأرضي الهزيل، وهو شقاءٌ يفوق بكثير ذلك البؤس الذبيح الذي تفيض به ملاحم العشق الشهيرة وغيرها من الملاحم المخفية، التي لم تتكشَّف لبني الإنسان. لذا، ارتبطت هذه المرتبة من العشق بالموت. موت أحد الطرفين أو كليهما؛ موتًا ماديًا أو معنويًا. موتًا يحفظ على العالم الأرضي الفقير الضعيف الهزيل توازُنه بوصفه دار ابتلاء سمتها النقص والحرمان والكبد. إنه إن كان الاكتمال الأمثل لهذه المرتبة الفردوسية من العشق مُستحيل التحقُّق بين البشر في الدنيا، لأنه خلاصٌ حقيقي من آثام العالم وكدوراته، فإنه لا يحرم العاشق فردوس قلبه، وإن حرمه فردوسًا ماديًا برانيًا ينصاع فيه العالم الأرضي لقلبه وتتشكل معالمه بخلجات روحه. هذا القصور في التحقق الكامل بعشقٍ بشري هو نفسه باب كمال التحقق بالعشق الإلهي، اطرادًا مع التكليف ومع طبيعة دار الابتلاء. إنه نفيٌ للخلاص بحب ما دون الله، وإثبات لإمكان الخلاص بالعشق الإلهي مُجردًا. لذا، كانت هذه الدرجة العُليا من العشق البشري بالأصل سُلمًا وطريقًا وبابًا رحبًا لتحقيق الخلاص الإنساني من خلال الحب الأمثل والأكمل: العشق الإلهي.

إن البؤس العذب الشجي الذي ينزف من جنبات هذه الملاحم وأمثالها له سبب موضوعي كذلك، وإن لم يكن سببًا عقلانيًا منطقيًا بالضرورة. إذ يدرك كلا الطرفين -بصورةٍ ما- أنه ميت بالضرورة بغير صاحبه، كما يُدرك أنه سيموت به ومعه. يُدرك كلا العاشقين أنهما نصفا كرةٍ لا يُمكن أن ينسجم دورانهما مع أنصافٍ أخرى مهما حاولا، كما يُدرِكان أن التئام نصفيهما يعني انفجار الكتلة الحرِجة التي سيُجسِّدها البهاء الإلهي لاكتمال الكرة على صورتها الفردوسية. إن هذا النوع من العشق جحيم مقيم بقدر ما هو فردوس علوي، والحياة معه مأساة دائمة؛ فالإقدام والإحجام فيه يطويان ذات الألم وذات المعاناة وذات البؤس الرهيف. لكن قد يختلف العشاق في درجة اعترافهم بهذه الحقيقة لأنفسهم وللناس، ومن ثم قدرتهم على مواجهتها،


فقلة منهم فحسب تستطيع مواجهة هذه الحقيقة والتسليم لها والتصالح معها لجوءًا إلى الله. أما الغالبية فتحاول التمرُّد عليها؛ إما بإنكار التاريخ/العشق برُمته وهو ما قد يؤدي حرفيًا للتمرد على الألوهية، بل ومحاولة التأله الذاتي رغبة بالتخلص من كل «وهنٍ»يضرب أساسات هذا التأله أنطولوجيًا وأخلاقيًا، أو وهو الأسوأ على الإطلاق: الانتحار. ففي كل الأحوال يظل الموت قرينًا للعشق في هذا الفردوس المنكود،


وكم من موتى يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.





مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.