يمكن القول إن الفترة التي يمكن الحديث عن وجود «جيش تحرير فلسطيني» خلالها هي الفترة بين تأسيس هذا الجيش مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وهزيمة 1967، فمن بعد الهزيمة وإعادة تأسيس منظمة التحرير هيمنت التنظيمات الفدائية الفلسطينية – وعلى رأسها فتح – على منظمة التحرير، وتولت أذرعها العسكرية المسئولية الأكبر في العمل الفدائي المسلح حتى توقيع اتفاق أوسلو في 1993.

تُرجع بعض المصادر بداية تأسيس أول تشكيل عسكري نظامي فلسطيني إلى قرار الرئيس العراقي «عبد الكريم قاسم» تشكيل «فوج التحرير الفلسطيني» عام 1960، لكن هناك ملاحظتين يجدر ذكرهما في هذا الصدد، الأولى هي أن خطوة الرئيس العراقي تلك كانت في إطار صراعه مع «جمال عبد الناصر» حول الزعامة العربية، وهو نمط متكرر من الصراعات العربية استُخدمت فيه الورقة الفلسطينية مرارًا للمزايدة والإحراج.

النقطة الثانية هي أن أول تشكيل نظامي فلسطيني فعلي كان كتيبة شرطة حدود شكلتها حكومة الثورة في مصر عام 1952 لمنع تسلل المهجرين الفلسطينيين في غزة إلى إسرائيل منعًا لاستفزازها وحفاظًا على الهدنة، وهي الكتيبة التي تحولت في 1954 إلى لواء حرس الحدود الفلسطيني، الذي شاركت وحداته في بعض العمليات الفدائية التي دعمتها مصر في تلك الآونة، قبل أن يتم سحبه وتجميعه في سيناء بعيدًا عن الحدود الإسرائيلية بعد نهاية العدوان الثلاثي في 1956.

[1]


التأسيس ومشاكله

كانت الرغبة الفلسطينية في وجود جيش فلسطيني مستقل يتبع منظمة التحرير، تصادف رغبة نظامية عربية تلتقي معها فيما يخص تشكيل الجيش، وتختلف معها تمامًا فيما يخص استقلاليته، ثم تفرع هذا الخلاف الرئيسي إلى خلافات فرعية حول حجم جيش التحرير، وتسليحه، والسيطرة على تشكيلاته الميدانية وهيكل قيادته.

تجلى ذلك في محطات ومواقف عدة، أولها الخطة الطموحة التي قدمها رئيس منظمة التحرير أحمد الشقيري إلى اجتماع وزراء خارجية الدول العربية التحضيري، قبل اجتماع الرؤساء والملوك العرب في القمة العربية الثانية في سبتمبر/أيلول 1964، وقدم فيها تصوره عن جيش التحرير، بحيث يتشكل من خمسة ألوية مشاة وست كتائب قوات خاصة (صاعقة)، ليكون مجموع أفراده الكلي 16 ألف و100 فرد، يتم تدريبهم في 35 معسكرًا مخصصين لجيش التحرير في عدة دول عربية، يتم فيهم تدريب 56 ألف فلسطيني سنويًا.

لكن هذه الخطة الطموحة قوبلت بخطة بديلة، قدمها رئيس أركان القيادة العربية الموحدة الفريق «عبد المنعم رياض»، تقوم على تشكيل كتائب مستقلة لا تنتظم في جيش موحد، ورفضت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير هذه الخطة تمامًا وهددت بالاستقالة إن لم يتم الاتفاق على تشكيل جيش التحرير.

عادت القيادة العربية الموحدة – المصرية في جوهرها – واقترحت تشكيل جيش مكون من عشر كتائب صاعقة مجموع أفرادها 5000 فرد، على أن يتم تدريب 32 ألف فلسطيني سنويًا في الدول العربية، وبعد مداولات وافق زعماء الدول العربية على تشكيل جيش التحرير الفلسطيني، لكن التباسًا وقع حينما افترضوا أن تشكيل الجيش سيتم وفقًا للاقتراح الأصلي الذي تقدم به الشقيري.

[2]


القيادة والتشكيلات الميدانية

عمليًا، تشكلت اللجنة العسكرية لمنظمة التحرير بعد انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الأول في مايو/آيار 1964، لتكون برئاسة الشقيري وتضم في عضويتها عضو المجلس الوطني الفلسطيني بهجت أبو غربية، وقاضيًا فلسطينيًا درس بكلية ضباط الاحتياط المصرية يُدعى قصي العبادلة، ووجيه المدني، وهو ضابط فلسطيني خدم في الجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية، والتحق بجيش الإنقاذ الفلسطيني قبل النكبة، ثم ارتحل إلى الكويت ليصبح مرافقًا لرئيس الأركان الكويتي برتبة مقدم.

[3]

وفي أوائل عام 1965 صدر قرار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بترقية المقدم وجيه المدني إلى رتبة لواء وإسناد قيادة جيش التحرير الفلسطيني إليه، وفي منتصف العام ذاته عُين العقيد الفلسطيني المتقاعد بالجيش السوري صبحي الجابي رئيسًا لأركان جيش التحرير، وكان ما ساعد القيادة المصرية على قبول وجيه المدني قائدًا لجيش التحرير كونه يفتقر إلى الخبرة العملياتية وابتعاده عن الانتماءات السياسية.

و

تشكل

جيش التحرير ميدانيًا من ثلاث قيادات مناطقية موزعة في ثلاث دول عربية: قوات (عين جالوت) في غزة وسيناء بقيادة الرائد منصور الشريف، وتتألف من لوائي مشاة وكتيبة صاعقة، وقوات «حطين» في سوريا بقيادة المقدم عثمان حداد، وتتألف من ثلاث كتائب صاعقة، وقوات (القادسية) في العراق بقيادة المقدم أيوب عمار، وتتألف من كتيبة صاعقة، وكان الأردن منذ البداية مغلقًا في وجه جيش التحرير، بل وفي وجه منظمة التحرير نفسها، ولم يتقبل وجودها سوى على مضض.

كانت منظمة التحرير تريد من البداية أن يكون لها السيطرة الكاملة على جيش التحرير، من حيث تمويله وتجهيزه وتسليحه وتعيين ضباطه وتسريحهم، على أن تكون قيادات جيوش الدول العربية المضيفة أو القيادة العربية الموحدة مسئولة عن إدارة العمليات على الأرض والإمداد والتموين أثناء الحرب.

وبالرغم من أن منظمة التحرير لم تشر صراحة إلى تشكيل وحدات الأسلحة الثقيلة من المدفعية والمدرعات، فإن هذا ما كانت تعنيه عندما استخدمت مصطلح (مجموعات ألوية) في خطتها الأصلية لتشكيل جيش التحرير في سبتمبر/أيلول 1964، ولم تعترض القيادة العربية الموحدة رسميًا عندما حددت المنظمة أنواع الأسلحة الثقيلة في خطتها النهائية التي قدمتها في نوفمبر/تشرين الثاني 1965.

وسعت المنظمة لتشكيل كتيبتي دبابات من طراز تي 54 السوفييتية وكتيبتي مدفيعة هاوتزر عيار 122 مم وكتيبتي مدفعية مضادة للطائرات وسريتي مدفعية مضادة للدبابات عيار 85 مم وسريتي مدفعية هاون عيار 120 مم، كما أرادت اللجنة العسكرية للمنظمة أن تشكل وحدات سلاح جو وسلاح بحرية.

لكن المنظمة اكتشفت أن رؤية القيادة العسكرية المصرية مغايرة تمامًا لطموحها، فقد تساءل رئيس الأركان المصري الفريق محمد فوزي عن الحكمة في امتلاك جيش التحرير دبابات ومدفعية، وكان يخشى أن يؤثر ذلك على استقرار الهدنة مع إسرائيل، وحاول جاهدًا أن يخفف أنواع الأسلحة في خطة تأسيس جيش التحرير التي اقترحتها القيادة المصرية في فبراير/شباط 1965.

وأصيبت قيادة جيش التحرير بخيبة أمل قاسية عندما تسلمت وحداتها في أوائل عام 1967 الأسلحة الثقيلة التي طال انتظارها، فبدلًا من تسلم الطرازات السوفييتية المتفق عليها مع القيادة المصرية، والتي لم تكن ترقى أصلًا للطرازات التي طمحت إليها المنظمة في الأصل، تسلمت وحدات جيش التحرير مدافع بريطانية متهالكة قصيرة المدى من مخلفات الجيش المصري، ودبابات شيرمان أمريكية الصنع قديمة ذات مدافع معطلة.

[4]


الهزيمة وإعادة التنظيم



كانت منظمة التحرير تريد من البداية أن يكون لها السيطرة الكاملة على جيش التحرير، من حيث تمويله وتجهيزه وتسليحه وتعيين ضباطه وتسريحهم.

لا شك أن كل هذه العوامل من التشتت الجغرافي وعدم كفاءة التسليح والنزاع على قيادة التشكيلات الميدانية لجيش التحرير مع قيادات الدول العربية المضيفة أثرت كثيرًا على أداء جيش التحرير في الحروب النظامية التي شارك فيها، فهو وإن لم يفتقر أفراده إلى البسالة والاستعداد للتضحية، كان يفتقر عمليًا إلى العدد الكبير من كادر الضباط وإلى الأسلحة الحديثة والمتقدمة، خاصة الثقيلة منها كالمدفعية والدبابات.

شاركت وحدات جيش التحرير بفروعه الثلاثة، عين جالوت وحطين والقادسية، بكثافة متفاوتة في الدفاع عن الجبهات العربية في حرب يونيو/حزيران 1967، وأبدى ضباطه وجنوده شجاعة كبيرة في العمليات، غير أن افتقار الجيش لقيادة موحدة صلبة وسلاح كفؤ واضطرار وحداته للعمل تحت هيمنة الجيوش العربية النظامية غير الكفؤة بدورها غطى كثيرًا على الدور الذي لعبه في الميدان.



وحاليًا يشارك جيش التحرير الفلسطيني – الذي تحول عمليًا إلى جيش سوري – في عمليات الجيش النظامي السوري ضد فصائل المعارضة السورية.

وبعد الهزيمة، أصدرت القيادة العامة للجيش المصري قرارًا بإنهاء ارتباط قوات عين جالوت بجيش التحرير الفلسطيني، وأعيد تنظيمها في أربع كتائب تحت اسم (وحدات الصاعقة الفلسطينية)، وتم إلحاقها بقيادة الجيش الثالث الميداني وتكليفها بالدفاع عن منطقة البحيرات المرة غرب قناة السويس.

وبالنسبة لتشكيلات جيش التحرير التي تشتت في غزة، فقد أعيد تجميعها وتنظيمها بجهود ذاتية من بعض الضباط الفلسطينيين من قادة وحدات عين جالوت، ومن خلال الاتصال مع منظمة التحرير جرى تشكيل القيادة العامة لقوات التحرير الشعبية برئاسة رئيس منظمة التحرير، وبحيث تصبح

قوات التحرير الشعبية

هي فرع جيش التحرير داخل فلسطين.

وفي يوليو/تموز 1968، تقرر تعيين اللواء وجيه المدني رئيسًا للدائرة العسكرية بمنظمة التحرير، وإلغاء منصب القائد العام لجيش التحرير وإسناد مهامه إلى رئيس الأركان، وأُعفي العميد صبحي الجابي من منصب رئيس أركان جيش التحرير وتم تعيين العميد عبد الرزاق اليحيى خلفًا له.

لكن تعيين اليحيى لم يرُق للسوريين، الذين حرضوا على التمرد في قوات حطين، فتم تعيين العميد مصباح البديري رئيسًا لأركان جيش التحرير، وفي يونيو 1969 أُعيد منصب القائد العام لجيش التحرير وأُسند إلى العميد اليحيى، وتم تعيين قائد قوات حطين العقيد عثمان حداد رئيسًا للأركان لاسترضاء السوريين.

[5]

شاركت وحدات جيش التحرير في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973

مشاركة فعالة

، حيث انتقلت قوات القادسية من العراق للتمركز على الجبهة السورية، وقامت بجانب قوات حطين بالإغارة على مواقع إسرائيلية في تل الفرس وتل أبو الدهب بالجولان السوري، وعلى الجبهة المصرية لعبت وحدات الصاعقة الفلسطينية دورًا كبيرًا في التصدي لقوة الاختراق الإسرائيلية غرب البحيرات المرة في معارك ثغرة الدفرسوار.

بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول، بقي عدد رمزي من قوات جيش التحرير في مصر، وتشكلت قوة صغيرة تابعة له في الأردن عام 1993 باسم «

قوات بدر»

، تمهيدًا لانتقالها إلى داخل فلسطين بعد توقيع اتفاق أوسلو، وهي التي أصبحت نواة قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية اليوم، لكن القوام الرئيسي لقوات جيش التحرير أصبح يتمركز بشكل أساسي في سوريا.

وحاليًا

يشارك

جيش التحرير الفلسطيني – الذي تحول عمليًا إلى جيش سوري – بقيادة رئيس أركانه اللواء «محمد طارق الخضراء» في عمليات الجيش النظامي السوري ضد فصائل المعارضة السورية، وهو أمر يثير

استياء

الكثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني داخل سوريا وخارجها، وخاصة من أهالي المجندين الفلسطينيين الإلزاميين في جيش التحرير.


المراجع



  1. يزيد صايغ، جيش التحرير الفلسطيني: تحديات مرحلة التكوين: 1964 – 1967، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 35، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، صيف 1998.
  2. يزيد صايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949 – 1993، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2002.
  3. عبد الله محمود عياش، جيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية ودورهما في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي 1964 – 1973، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير بكلية الآداب في الجامعة الإسلامية، غزة، 2010.
  4. عبد الله محمود عياش، مرجع سابق.
  5. عبد الرزاق اليحيى، بين العسكرية والسياسة: دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمان، 2007.