كيف تبدو الأفكار الذكية التي تأتي لشخص استيقظ ليجد نفسه وحيدًا على جزيرة، مثلما حدث لتوم هانكس في فيلمه Cast Away؟ أو كيف يمكننا أن نتوقع من شخص مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية أن يُدرك ما يُصوت له في الصناديق دون فهم عميق للاقتصاد؟ وكيف يمكنه تمييز المُدعين الذين لا يهمهم سوى إدارة نزاعاتهم الحزبية ويستغلون الأحداث التاريخية كترسانة للأسلحة دون معرفة مستقلة بعلم الاقتصاد؟

للأسف لا يمكننا، فالعالم يتصارع كل يوم للسيطرة صراعًا حربيًّا أو صراعًا اجتماعيًّا ناجمًا عن الندرة والآثار المنطقية لأفعالنا، ولذلك فإن الاقتصاد هو العلم الذي نعتقد أنه ضروري لكل منا أن يعرفه ويفهمه؛ لأنه يؤثر مباشرة على حياتنا، ولكن كيف نفهمه وسط كل تعقيداته؟

هنا يمكننا الحديث عن المدرسة النمساوية في الفكر الاقتصادي، والتي تُعد الأقدم والأدق والأسرع في النمو الاقتصادي، وعلى عكس البقية، تستند المدرسة النمساوية في دراستها للظواهر الاقتصادية على تجنب النماذج الرياضية المعقدة، ليصبح من السهل شرح ما يجري بالضبط، ويسهل على العامة فهم ما يحدث، وهي المدرسة التي يمكن تطبيق نظرياتها على معظم جوانب حياتنا، وهي مدرسة عالم الاقتصاد النمساوي دكتور «روبرت بي. مورفي»، مؤلف كتاب «

دروس مبسطة في الاقتصاد

».


مقدمة للاقتصاد البسيط

لا جريمة في أن تكون جاهلًا في الاقتصاد، الذي هو في النهاية تخصص، ويعتبره معظم الناس علمًا كئيبًا، ولكن من غير المسئول تمامًا أن يكون لك رأي صاخب حول الموضوعات الاقتصادية وأنت جاهل.

إن منهج المؤلف لا يعتمد على أي شيء سوى إحساسه الخاص بالطريقة المثلى لتبسيط علم الاقتصاد، ببعض القصص اللطيفة والساخرة؛ رغم أن الكتاب يرصد التاريخ الكامل لتطور علم الاقتصاد.

يبدأ الكتاب بتفسير شامل للعلم وقوانينه الأساسية وتطبيقاته في المجتمعات البشرية والمنطق الذي يفسر العمل البشري والطبيعة الاقتصادية والاجتماعية للفرد وسط مجتمعه، ويؤكد حقيقة أن الأفراد وحدهم هم الذين يتصرفون ويحركون الاقتصاد، نعم، أنت أحدهم، وبشكل مباشر.

يشرح مورفي كيفية توحيد الأفراد في مجتمع لصنع سوق، وهنا يتطرق للرأسمالية وخصائصها، وأمور مثل ظهور المال وتقسيم العمل والمنافسة والعرض والطلب والفائدة، ويخصص جزءًا حول الاشتراكية المتطرفة؛ والطبيعة الطوباوية لها، وفشلها من الناحية العملية لا النظرية.

ويطبق مورفي المفاهيم الأساسية للاقتصاد على تجربة يومنا الحاضر، وفهم «اقتصاد السوق المختلط»، والذي يقوم على فرضية عامة، وهي الاستفادة من مميزات الرأسمالية مع تقليص عيوبها من خلال تنظيم الدولة، ثم يفسح مساحة للمشاكل التي نراها كل يوم حول ضوابط الأسعار والإنفاق الحكومي والضرائب والتضخم والديون الحكومية.


كيف يقوم الاقتصاد على فرد واحد؟

تهكم الكثير على ما يُعرف باسم اقتصاد «روبنسون كروزو»، نسبة إلى البحار الذي تحطمت سفينته في رواية «دانييل ديفو»، وأصبحت بعض الحقائق الاقتصادية الأساسية تقوم على هذا الفرد الواحد الذي يعيش على جزيرة نائية. ببعض التفكير سنعرف أن شخصًا منعزلًا لا يمكنه وصف الاقتصاد المعاصر، ولكن المقصود هو أنه قبل تحليل اقتصاد قوامه مليارات من البشر يتفاعل بعضهم مع بعض، علينا البدء بشخص واحد فقط.

فعندما وجد كروزو نفسه وحيدًا على جزيرته الاستوائية تسلق قمة أحد التلال وألقى نظرة على ما لديه في الجزيرة، وبالمفاهيم الاقتصادية فإنه أجرى جردًا للسلع المتوفرة لديه، بمعنى أنه قيَّم مخزون العناصر المادية المتاحة أمامه والتي يظهر فيها أثر الندرة، والتي على خلافها يكون الهواء والغلاف الجوي والجاذبية الأرضية، فهذه أشياء لا يحتاج للاقتصاد في استهلاكها، بينما يحتاج للاقتصاد عندما يستهلك السمك وجوز الهند والأخشاب، لأن هذه العناصر نادرة، ولأنه سيندم لاحقًا على التأثير عليها، لذا يمكن إدراجها كسلع.

هناك أشياء من حولنا لا تكتسب قيمتها من ذاتها، ولكن من تحقيقها أهدافنا، فإذا فكرنا في عصا طويلة، فهي لن تفيد بشكل مباشر، ولكن هذه العصا تفيد كروزو في النيل من ثمار الجوز على الأشجار العالية، وحينها ستعد العصا سلعة، ولكنها «سلعة إنتاجية» أو «عوامل إنتاج» أو «وسائل إنتاج». ونفسها العصا الطويلة يمكنها التحول لسلعة «رأسمالية» إذا أضفى كروزو عليها من جهده وصنع منها أدوات صيد أو مأوى من الأغصان والطين وأوراق الشجر.


لماذا الفرد وليس الجماعة؟

والآن أصبح كروزو متمكنًا من عالمه، وتقسيم موارده، وإدراك أن أفعاله قد تؤثر على سعادته في المستقبل، لذا عليه حساب نفسه كفرد. وعليه، فإن أول حقيقة يمكن اكتشافها عن الأفعال البشرية أنها لا يقوم بها سوى فاعلين أفراد، وذلك لأن المجتمعات أو الجماعات لا تمتلك كيانًا مستقلًّا بمعزل عن تصرفات أفرادها، فإن قولنا بأن الحكومات تفعل كذا وكذا، فلا يعدو كونه مجازًا، والحقيقة هو أن أفرادًا بعينهم يتواصلون مع أفراد آخرين ويتصرفون على نحو يصفونه هم والآخرون بأنه حكومي.

من هنا نفهم أنه لا يوجد كيان اسمه الحكومة، ولكنها أفراد من ساسة وقضاة وموظفين لديهم أسباب منطقية للغاية وراء أفعالهم، وكثيرًا ما تظهر على أنها غير منطقية إذا ما قورنت بالتبريرات الرسمية وراء هذه الأفعال، لكن تفسير ذلك البسيط هو أن مسئولي الحكومة معتادون على الكذب، والكذب في حد ذاته فعل متعمد.

تعد هذه الفكرة مهمة لأن الاقتصادي قد لا يستطيع تفسير سعر التبغ من دون الإقرار بأن هناك أشخاصًا يفضلون إنفاق نقودهم على شراء السجائر بدلًا من منتجات أخرى، فيتبع الاقتصاديون أيضًا فرضية أن الأفراد لديهم ترتيب لأهدافهم وغاياتهم، وأن الأشخاص يقومون بالأفعال التي تشبع أهم تفضيلاتهم وتحقق أهم أهدافهم.

ولدى كل الأفراد «دالة منفعة» يسعون إلى الوصول للحد الأقصى منها، ولا يمكن الجمع بين دالتي شخصين أو تفضيلاتهما، وعليه فإن محاولة زيادة «المنفعة الاجتماعية» من خلال استقطاع المال من رجل غني ومنحها آخر فقيرًا هي محض هراء. فلا يمكن الجمع بين تفضيلات عدة أشخاص بحيث تتحول لتفضيلات «اجتماعية»، مثل الكثير الذين يحاولون تبرير «ضريبة الدخل التصاعدية» من خلال استقطاع المال من رجل غني ومنحها آخر فقيرًا، باعتقادهم أن الدولار يعني للفقير أكثر مما يعني للغني، فإن المفهوم الاقتصادي للتفضيلات أو المنفعة لا يصلح كتبرير لذلك.


أرجوك أعطني كوبًا من الماس

لا يتعلق الاقتصاد بالسلع والخدمات، ولكنه يتعلق بخيارات الإنسان وأفعاله.

يُقيِّم الأفراد السلع بشكل منفرد حسب منفعتهم الخاصة، ولا يقيمونها كفئات، ويمكن توضيح ذلك باستخدام مفارقة «الماء والماس»، فللوهلة الأولى يبدو غريبًا أن يكون سعر الماء منخفضًا، ويكون الماء متاحًا – تقريبًا بشكل مجاني – بينما سعر الماس باهظ للغاية، فإذا فكرت في سعيك لتحقيق أهدافك الشخصية، فكيف يكون الماس أعلى قيمة إذا كنت لتموت وأنت ظمآن؟

صحيح أنه لكي نوضح قيمة شيء ما علينا فهم أهدافه، ففي الواقع نحن لا يمكننا مقارنة قيمة «الماء كله» و«الماس كله»، فلو كانت هذه هي المقارنة لاخترنا الماء، ولكن المقارنة هنا بين الماء المتوفر في كل مكان، والماس غير المتوفر ليكون في يد كل فرد، فالماس أشد ندرة من الماء. ولتوضيح قيمة الرؤية الفردية لقيمة السلع يمكننا تخيل كروزو في إحدى الليالي وقد هبت رياح تحمل معها شرارة نار إلى كوخه البسيط المصنوع من الخشب وأوراق الشجر، وأمامه ثوانٍ لإنقاذ شيء واحد من كوخه قبل أن ينهار عليه، فهل سينقذ ثمرة جوز طازجة، أم الساعة التي كان يرتديها لحظة تحطم سفينته؟

في هذا الوقت لن تنفع الجوزة لأنها متوفرة في الجزيرة ويمكن لكروز التقاط الكثير في اليوم التالي، وبالتأكيد لن تنقذ الساعة حياته في هذه اللحظة، والمبدأ العام أنه سيفكر في مدى تأثر أهدافه بكل من هذين الشيئين، كل واحدة كهدف وليست كقيمة، وبما أن فقدان ثمرة جوز ليس أمرًا مهلكًا على الإطلاق، فسيكون من الحكمة أن يلتقط كروزو الساعة التي يقدرها لأسباب عاطفية.