تعتبر اللغة العبرية واحدة من فروع اللغات «السامية»، التي تنتمي إليها أيضًا اللغة العربية، وقد نشأت في أرض كنعان في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، قبل أن تختفي تمامًا كلغة منطوقة، لتصبح لغة دينية بالأساس، يقتصر استخدامها على الصلوات اليهودية والكتابات الدينية، لتُسمى بـ «اللغة المقدسة». وقد أفردنا

الجزء الأول

من هذا التقرير لبيان تاريخ وتطور اللغة العبرية وكيف وصلت إلى فلسطين.مع بداية التفكير في إنشاء وطن قومي لليهود يجمع شتاتهم، ظهرت الحاجة إلى ضرورة استدعاء اللغة العبرية، حتى تصبح اللغة الرسمية لهذا الوطن الجديد، وذلك اتساقًا مع الشعار الذي رفعته الحركة الصهيونية «أرضنا ولغتنا». ولكن كيف تم استدعاء العبرية – بعد سُبات دام أكثر من 1800 عام – لتصبح لغة «إسرائيل»؟.


إحياء أم إنشاء؟

كان أوائل الطليعيين اليهود في الهجرة الثانية إلى فلسطين (1904 – 1914) مُلتزِمين بتحويل اللغة العبرية، التي كانت أساسًا مكتوبة وغير منطوقة، وتخصّ فقط مواضيع الدين والتفسير، إلى لغة للاستخدام الشعبي، بحيث تصبح قادرة على خدمة جميع اليهود في كل المجالات: السياسة، والعلم، والطبيعة، والأدب، والتعبير، والتواصل على مستوى الأفراد، وغير ذلك. وقد أطلقوا على هذه المهمة الفردية والجماعية، اسم «كيبوش هلشون» أو احتلال اللغة. ولكن، هل قام هؤلاء الطليعيون بإحياء العبرية، أم بإنشاء عبرية جديدة؟.



يُقرّ العلماء بأنه لا يوجد ما يُسمى بـ «إحياء اللغة»، فاللغات الميتة التي لا ناطقون لها منذ مولدهم، لا يمكن إحياؤها.

يُقرّ العلماء بأنه لا يوجد ما يُسمى بـ «إحياء اللغة»، فاللغات الميتة التي لا ناطقون لها منذ مولدهم، لا يمكن إحياؤها. ولكن بالإمكان إيجاد لغة حديثة تكون مرتكزة بدرجة ما على مواد اللغة الميتة. وتجدر الإشارة إلى أن اللغة الأم للمتحدث الذي يعتقد أنه يُحيي اللغة القديمة الميتة، تؤثر بدرجة عميقة على هذه اللغة الجديدة.وتُشكّل أسطورة إحياء العبرية جزءًا من نفس الأساس الأيديولوجي الذي تطورت حوله الأساطير الصهيونية التي سيطرت على الواقع السياسي الإسرائيلي لعقودٍ من الزمن.وستكون البداية مع الأبحاث التي أعدّها اللغوي اليهودي «حاييم روزن» في خمسينات القرن الماضي، والتي أوجدت لأول مرة مفهوم «العبرية الإسرائيلية»، وقد أثارت أبحاثه عاصفة من الغضب في الأوساط اليهودية؛ ليس لأنه تجرأ على القول بأن هذه لغة حديثة، بل وأيضًا لأنه عرض حججًا تقول بأن للغات الأوروبية دورًا كبيرًا في جذور العبرية الإسرائيلية. وما يعطي مصداقية أكبر لمحتوى أبحاث «روزن» اللغوية، أنه كان عضوًا في حزب «مباي»


[1]


، ومؤمنًا بمبادئه، وبالتأكيد لم يكن مناهضًا للصهيونية، ومع ذلك فقد قاده ضميره اللغوي إلى الاعتراف بوجود لغة جديدة.وقد أثبتت أبحاث «روزن» أنه توجد في العبرية الإسرائيلية تطورات حديثة كثيرة لا يمكن نسبها للغة القديمة. كانت هذه التطورات ناجمة أحيانًا عن لغة الطفولة لجيل الآباء، اليديش، وكانت أحيانًا مسارات لغوية طبيعية تحدث في كل لغة عادية، وبدأت تحدث في العبرية أيضًا.

وفيما يلي بعض النماذج:

تعتبر شبكة النطق القائمة في العبرية الإسرائيلية مماثلة بصورة شبه تامة لليديش، وتختلف بصورة كبيرة عن التركيبة الكلاسيكية لعبرية التوراة. وفي الصرف، تطور الحرف (و) عما كان عليه في العبرية القديمة، فأصبح يُصرف وحيدًا ويُنطق (Ve) وتبقى الكلمة التي تليه كما هي عليه. وهكذا الأمر بخصوص باقي التصريفات المقروءة «الأحرف الشمسية»: Lebanim و Levanim، حيث وُجد لأول مرة تمييز في العبرية الإسرائيلية بين B وبين V، وهو تمييز لم يكن بداعي سبر أغوار التوراة، فكان من المفترض أن يكون نطقها كما كان في العبرية الكلاسيكية، ولكن هذا لم يحدث.وكذلك تطورت تركيبة الفعل بالعبرية لثلاثة أزمنة: (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، وذلك على العكس من العبرية التوراتية. كما ارتكزت العبرية الإسرائيلية في طريقة صياغة الجملة الفعلية العادية على ترتيب: (فاعل – فعل)، وذلك على العكس من العبرية التوراتية التي تبدأ الجملة فيها بالفعل.كما أن صيغة أمر المخاطبات المنتهية بالنون أو بالنون والهاء في العبرية القديمة، تحولت إلى صيغة أمر المخاطبين في العبرية الإسرائيلية، والتي لا تُفرّق بين صيغة الأمر للمخاطبين وللمخاطبات. إلى جانب أن هناك بعض الكلمات الواردة في العهد القديم تارة مُذكّرة وطورًا مُؤنثة، ولكنها في العبرية الإسرائيلية مؤنثة في الغالب الأعمّ.وبذلك أصبح اليهودي المعاصر، حتى المثقّف، يواجه صعوبات واضحة في فهم كامل ودقيق لعبرية العهد القديم، وأساليبها التعبيرية المختلفة لا سيّما في النصوص الشعرية مثل نبوءة «إشعياء»، وسفر «المزامير»، ونشيد «الأنشاد».

وخلاصة الأمر،

أن أجزاءً كثيرة من قواعد وتعبيرات وكلمات اللغة العبرية الإسرائيلية، لا تعود فقط إلى العبرية القديمة، وإنما تشكلت من لغات أخرى، كان من بينها اللغة العربية، وكذلك لغة «اللادينو»، وهي اللغة الإسبانية العامية التي كان يتحدث بها يهود إسبانيا السفارديم، وهم اليهود العرب الإسبان، ثم تطورت لغة اللادينو خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر لتشمل اللغات العربية والتركية واليونانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية. أما اللغة الثالثة والأساسية التي تداخلت وانتشرت في نسيج اللغة العبرية الجديدة هي لغة «اليديش»، المُستمَدّة من اللهجة الألمانية العليا، وكلمة يديش نفسها هي تحريف لكلمة «يهودي» بالألمانية، ولغة اليديش كانت أهم لسان بين ألسنة اليهود التي لا حصر لها مع اللغات الأخرى ليهود الشتات.


تمكين العبرية في «إسرائيل»

منذ عام 1917، عمل الاحتلال البريطاني في فلسطين على تعزيز مكانة اللغة العبرية، التي ترسخت آنذاك كلغة للمجتمع اليهودي وأصبحت رسمية إلى جانب العربية. وكان إنشاء العبرية الإسرائيلية عنصرًا رئيسيًا في التغيير اللغوي الاجتماعي في فلسطين. وبفضل تأثير الأيديولوجية الصهيونية، أصبحت اللغة العبرية الرمز الرئيسي والناقل لهوية قومية جديدة بينما تم تهميش الهويات القديمة التي أحضرها المهاجرون اليهود إلى فلسطين من الشتات، وكذلك تم تهميش اللغات الأم أو تركها كليًّا.



ربطت الحركة الصهيونية بين اللغة العبرية والهوية؛ مما شكّل ضغطًا على المهاجرين اليهود إلى فلسطين بأن يتناسوا لغاتهم الأصلية.

ربطت الحركة الصهيونية بين اللغة العبرية والهوية؛ مما شكّل ضغطًا على المهاجرين اليهود إلى فلسطين بأن يتناسوا لغاتهم الأصلية، ويتعلموا اللغة العبرية كلغة رئيسية، بحيث تم اعتبار أي محاولة للحفاظ على اللغات نوعًا من الكراهية ومقاومة الهوية القومية الجديدة، وتم النظر إلى اللغات الأخرى كعوائق أمام نجاح الأيديولوجية الصهيونية.وعلى ذلك، فإن لغة اليديش، التي اعتبرها كثيرون أداة نجاة اليهود في الدياسبورا، اعتبرتها الحركة الصهيونية رمزًا للكراهية والتغريب، وزعموا أنها تجسّد السمات الضعيفة لعقلية الدياسبورا، فبالنسبة لهم كانت اليديش «كتلة ميتة ولغة الاضطهاد والخوف»، مما زاد على تصميمهم لتركها في الخلف، بجانب سائر اللغات الأخرى التي تحدثها اليهود في الشتات.وقد نجحت عملية «عبرنة» اليهود المهاجرين إلى فلسطين، من خلال دعم الحكومة المركزية للغة العبرية بكل الوسائل. وعبر السنين أصبحت اللغة العبرية هي اللغة الرئيسية في كل من المجالات الخاصة والعامة، وصارت كذلك لغة الاتصال الرئيسية، بعدما تبنّتها أجيال جديدة من اليهود المهاجرين بسرعة.وفيما يلي أبرز الآليات التي أدت إلى تمكين اللغة العبرية الإسرائيلية:


  1. التعليم:

    تم إنشاء شبكة من المدارس التي يدرس فيها التلاميذ بالعبرية، وذلك في كل مكان يوجد به عدد كاف من المستوطنين اليهود، حتى يتمكن الجيل الجديد من التحدث بها، وألا يستمروا في التحدث بلغة الآباء. وقد انتشر تعليم العبرية في المدارس بدءًا من رياض الأطفال حتى الجامعة العبرية.

  2. التخاطب بالعبرية:

    رأى يهودا بن إليعازر أن «إحياء» العبرية على الألسنة هو أساس الإحياء القومي، وعلى ذلك، فقد جعل بيته أول بيت يتحدث أفراده بالعبرية في فلسطين، كما دعا إلى تعليم الفتيات (أمهات المستقبل) العبرية، وأسّس مدارس متخصصة لهذا الشأن، بالإضافة إلى إنشائه لعدد من الجمعيات للتخاطب العبري.

  3. الأدب العبري:

    ساهم الأدب العبري في تنمية اللغة وتطويعها لتصير صالحة للتعبير عن الأفكار والمعاني الحديثة. فالأديب الذي لم يجد في التراث اليهودي القديم ما يسد حاجته من الكلمات والمصطلحات كان يضطر إلى استعمال كلمات دخيلة من لغات أخرى، أو يستحدث كلمات عبرية جديدة. وفي الحالة الثانية، أسهم الأدب في تنمية العبرية الإسرائيلية وتزويدها بالمفردات والأساليب.

  4. الترجمة:

    اتجه الكتاب اليهود إلى ترجمة الأعمال الأدبية العالمية الجيدة إلى العبرية، وقد ساعدت هذه الآلية على نمو اللغة، وزيادة ألفاظها، وتنوع أساليبها، لأن المترجم كان يُعمِل فكره من أجل العثور على الألفاظ العبرية اللازمة، ومن أجل ابتكار أساليب حديثة متطورة.

أزمة العبرية

هناك شبه اتفاق داخل «إسرائيل» أن اللغة العبرية تعاني حاليًا من أزمة حادة، وهي الأزمة النابعة من تغير أيديولوجية «أحادية اللغة» في «إسرائيل»، فقد بدأت تظهر إشارات لتسامح أكبر حيال اللغات المتعددة. وفي السنوات القليلة الماضية، أصبح هناك اعتراف وشرعية متنامية بحقيقة تعدد اللغات في «إسرائيل»، وهو الأمر الذي جاء بطبيعة الحال على حساب مساحة اللغة العبرية هناك.



أدى تغير أيديولوجية «أحادية اللغة» في «إسرائيل» إلى دخول اللغة العبرية في أزمة حادة لصالح اللغة العربية والإنجليزية وكذلك الروسية.

فبعد معاهدات السلام مع بعض الدول العربية والفلسطينيين، بدأت تُسمع أصوات في الدوائر المختلفة تدعو إلى ضرورة تعزيز وضع اللغة العربية في «إسرائيل». وأصبح يتم تعليمها في المدارس اليهودية بشكل أكثر تكثيفًا إلى جانب الضغط القادم من المجتمع العربي الفلسطيني في «إسرائيل»، فهم يريدون أن يتم الاعتراف بالمكانة الرسمية للغة العربية كأمر واقع في المجالات العامة وليس فقط بشكل قانوني على المستوى المُعلَن.كما ازدادت سطوة اللغة الإنجليزية في المجال العام، نتيجة زيادة الاتصال الدولي، ووجود علاقات متميزة بين «إسرائيل» والدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة.وفيما يتعلق بالروسية، فقد ادّعى عدد من الباحثين أن الهجرة الروسية إلى «إسرائيل» في التسعينيات كانت بشكل رئيسي براغماتية وليست أيديولوجية. لذا، يشعر هؤلاء المهاجرون بثقة أكبر في لغتهم الأم، ويستعملونها لأغراض متنوعة؛ ليس فقط في البيت، وإنما أيضًا في المجالات العامة، عندما يكون ذلك ممكنًا، حيث يستعملها بعضهم في كتابة اللافتات على حوانيتهم.وقد امتدت أزمة العبرية إلى الساحة الأكاديمية، أو يمكن القول أنها ترعرعت هناك. فالعديد من الأكاديميين في «إسرائيل» يعتبرون أن كتابة الأبحاث العلمية باللغة العبرية محض إضاعة للوقت، لأن تلك الأبحاث غالبًا لا تُساهم في تقدم أصحابها، وهو الأمر الذي لا ينسحب فقط على الأبحاث في العلوم الإنسانية بل أيضًا العلوم اليهودية.فإذا كان التفكير السائد قبل فترة أن الأبحاث المكتوبة باللغة العبرية حول تاريخ «شعب إسرائيل» قد تمنح الباحثين التقدير المطلوب، فإن وزن هذه الأبحاث في الفترة الحالية أصبح هامشيًّا؛ وذلك بسبب تهميش اللغة العبرية بدرجة كبيرة، لأنها غير منتشرة في الأوساط العالمية. وبذلك بدأت اللغة الإنجليزية تحل محل العبرية في الوسط الأكاديمي الإسرائيلي، حتى فيما يتعلق بالأبحاث التي تتعلق بالعلوم اليهودية.


الهوامش:


[1]



حزب «مباي»:

هو اختصار بالعبرية للاسم الكامل لحزب عمّال أرض إسرائيل، وهو حزب سياسي تأسس عام 1930 وامتزج بحزب العمل عام 1968، ثم أخذ يفقد هويته شيئًا فشيئًا إلى أن انتهى، وقد أصبح الحزب الحاكم في إسرائيل بعد قيامها عام 1948. وتولى زعماؤه رئاسة عدة حكومات ابتداءً من ديفيد بن جوريون مرورًا بموشي شاريت (1954 – 1955) وحتى ليفي أشكول (1963 – 1969)، كما تقلدوا وزارات مهمة مثل وزارتي الدفاع والخارجية. وتمكّن الحزب من السيطرة على عدد كبير من البلديات والسلطات المحلية.


المراجع




  1. رون كوزري، “كيف نشأت اللغة العبرية الإسرائيلية؟”، مجلة قضايا إسرائيلية، مركز مدار، العدد 23، سبتمبر 2006.

  2. دفنا إيردناست، “اللغة والهوية والمنفى”، مجلة قضايا إسرائيلية، مركز مدار، العدد 26، يوليو 2007.

  3. إيال خوبرز، “الجامعة العبرية: اللغة والعنف في الصهيونية المُبكِّرة”، مجلة قضايا إسرائيلية، مركز مدار، العدد 53، إبريل 2014.

  4. “من هو حزب مباي؟”، موقع الجزيرة نت، 20 إبريل 2007.

  5. حسيب شحادة، “تناخ رام’ للعوامّ بالعبرية الحديثة للمدارس اليهودية”، موقع الحوار المتمدن، 3 ديسمبر 2008.

  6. محمد أحمد صالح حسين، “اللغة العبرية والجهود الصهيونية لإحيائها”، (الرياض: مجلة جامعة الملك سعود، 2005)، ص ص 9: 13.

  7. دمتري شومسكي، “موت اللغة العبرية في عالم الأكاديميا”، موقع صحيفة الأيام الفلسطينية، 15 ديسمبر 2015.

  8. “اللغة والهوية في إسرائيل”، موقع مركز مدار، 1 مايو 2003.