منذ الحرب العالمية الثانية، اتخذ اليسار الأوروبي، وتحديدًا في فرنسا وألمانيا، مسارين أساسيين، كان أحدهما في جوهره استسلامًا لموجة النيوكينزية العاتية التي تسلَّمت دفة القيادة الاقتصادية في الدول الغربية. فالنموذج السوفييتي، وأشباهه في الكتلة الشرقية، لم يكن في ترنُّحه الاقتصادي وسياسات الهندسة الاجتماعية التي انتهجها نموذجًا مُلهِمًا للشعوب الأوروبية ليتمسك به اليسار الأوروبي. واتجه كثير من اليساريين في أوروبا تبعًا لذلك إلى أحزاب ليس ممكنًا الإمساك بما هو ماركسي حقًا فيها، كالحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا؛ حيث بدا واضحًا أن إصلاحية إدوارد برنشتاين وليون بلوم قد انتصرت وأثبتت أن الماركسية لم يعد لها مكان في رأسمالية دولة الرفاه الاجتماعي التي نجحت في نظرهم في حل تناقضات الرأسمالية وعلى رأسها توفير حياة كريمة للطبقات الكادحة.

ما حدث لم تتوقف حدوده عند تحويل الماركسية إلى كينزية وديعة فحسب، فتلك الشريحة الراديكالية من اليسار، والتي لم تستسلم تمامًا إلى دولة الرفاه، لم تكن أقل بعدًا عن ماركس في توجهاتها الجديدة من نظيرتها السياسية. لقد رأى هربرت ماركوز أن طبقة العمال الكادحين لم تعُد تلك الطبقة الثورية الممكِنة التي حلُم بها ماركس. بل إن ماركوز خطا أبعد من ذلك، لينقل النضال التحرري من أرضية الاقتصاد والوضعية المادية والطبقات إلى أرضية الثقافة والوضعية المعنوية والفئات المهمَّشة. لم يكُن ماركوز وغيره من اليساريين الجدد الذين عرفتهم الستينات والسبعينات امتدادًا للاشتراكية الثورية التي مثَّلها روزا لوكسمبرج وجورج لوكاش؛ بل قطيعة مع الماركسية ربما تتجاوز في جذريتها تلك التي أنجزها اليساريون الكينزيون.



لم يسقط سور برلين وحده عام 1990م، بل انهارت معه سياسات اليسار الكينزي، وتحوَّل «الرِفاق» إلى رجال من ذوي البزَّات الأنيقة.

تعمَّقت أزمة الماركسية أكثر فأكثر بمرور الوقت، وذلك عندما قضى تاتشر وريجان على دولة الرفاه الاجتماعي، قبل عقد واحد من انهيار الاتحاد السوفييتي ومعه بقايا الأنظمة الشيوعية في مشهد دراماتيكي. لم يسقط سور برلين وحده عام 1990م، بل انهارت معه سياسات اليسار الكينزي، وتحوَّل «الرِفاق» في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا إلى رجال من ذوي البزَّات الأنيقة؛ أو أولئك الذين عرفوا بـ «يسار الكافيار». أما اليسار الجديد الراديكالي، فلم يكن بأحسن حالًا من نظيره. فالنسوية التي وصفها ماركوز عام 1975م بأنها أهم الحركات التحررية، سرعان ما تحوَّلت مع طلوع الثمانينات إلى حركات ممسوخة ومعزولة مع غرقها فيما عُرِف بـ «حروب النسوية الجنسية Feminist Sex Wars» التي احتلَّت فيها المثلية الجنسية والبورنوغرافيا، القلب من أيديولوجيا أهم الحركات الحررية، وذلك قبل أن تبدأ الموجة الثالثة من النسوية في التسعينات. كذلك بدا أن حركة الحقوق المدنية للسود هي من نوع الحركات الذي ينفي نفسه عبر تحقيق أهدافه.

انهار سور برلين، لكن راية اليسار لم تسقط إذ تلقفها اليسار اللاتيني. فعشية سقوط سور برلين، دعا حزب العمال البرازيلي الحركات والأحزاب اليسارية إلى لقاء لمناقشة المشهد العالمي الجديد والموجة النيوليبرالية. انعقد بالفعل المؤتمر في تموز/يوليو 1990م في ساو باولو البرازيلية بحضور 48 حزبًا وحركةً يسارية، وقد استمر لاحقًا انعقاد مؤتمر سنوي لتلك المجموعة في بلدان مختلفة حيث أُطلِق عليها «منتدى ساو باولو». يمكن تلخيص التوجهات والمبادئ العامة لذلك المنتدى في مبدأين أساسيين يعبِّران عن إستراتيجية اليسار الجديدة لمواجهة التغيرات في المشهد العالمي:

المبدأ الأوَّل: هو أن التغيير الجذري ليس مشروطًا بأن يتم عبر العمل العسكري العنيف، وإنما يمكن أن يتحقق عبر الكفاح الديمقراطي؛ بل إن الديمقراطية، وفي صيغتها التمثيلية التي تتضمن حكم القانون والحريات المدنية والتعددية، يجب أن تتحوَّل إلى مبدأ بنيوي للحركات اليسارية.

المبدأ الثاني: هو أن طبقة العمال والفلاحين ليست وحدها وقود التغيير الاجتماعي، بل يجب التعاون مع الحركات النسوية والبيئية والدينية والمجموعات المهمشة كالسكان الأصليين لتحقيق هذا التغيير المنشود.

لاحقًا ومع مطلع الألفية، نجح اليسار في الوصول إلى سُدَّة السلطة في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، والأهم من ذلك أن اليسار كان قد نجح بالفعل في معالجة الأدواء المعضلة والمزمنة للاقتصادات اللاتينية، لتشهد البرازيل طفرة على مدى العقد الأول من الألفية مع زعيمها التاريخي لولا دا سيلفا، وتخرج الأرجنتين بقيادة آل كيرشنير من أزمتها الطاحنة (حاليًا تقود أحزاب تنتمي إلى منتدى ساو باولو 12 دولة لاتنينية؛ أي أن الأرجنتين ربما هي الدولة الكبرى الوحيدة التي خرجت عن سيطرتهم، وذلك في نوفمبر الماضي حين اعتلى الليبرالي ماوريسيو ماكري سدة الحكم مُقصِيًا مرشح اليسار).

إن هذا السرد التاريخي ربما يكون مهمًا قبل أن نتحدث عما يحصل اليوم. ينفرط عقد أمريكا اللاتينية في يد اليسار دولة بعد أخرى. بدأ الأمر في الأرجنتين، ولم تكن الصدمة كبيرة جدًا، لكن الأمور كانت تشي بأن البرازيل في الطريق. الصدمة الحقيقية كانت فنزويلا، تلك الجمهورية البوليفارية التي جعل منها زعيمها الراحل شافيز آخر معاقل الماركسية في العالم. لقد اكتسح اليمين البرلمان في فنزويلا، واليوم كبرى الاقتصاديات اللاتينية، البرازيل، على أعتاب أن يستلمه اليمين إذا نجح في الإطاحة بالرئيسة ديلما روسيف.

ما الذي حدث؟

لم ينجح اليسار، ربما منذ رحيل ماركس وليس اليوم فحسب، في تطوير سياسات اقتصادية ماركسية بإمكانها أن تلعب الدور التاريخي المنوط بالماركسية؛ ألا وهو:

1- تفكيك منظومة الاقتصاد الرأسمالي القائمة والقوية.

2- إحلال منظومة اقتصادية جديدة غير رأسمالية، تضمن من جهة قدرًا أكبر من العدالة، ولكن تضمن من جهة أخرى قدرًا مساويًا على الأقل من الحريات وإمكانات تحقيق النجاح الفردي والاستمتاع بالرفاه والنهضة التكنولوجية؛ أي تلك الميزات التي يحظى بها مواطنو الأنظمة الديمقراطية الليبرالية في الغرب.

لقد كانت المحاولة الأهم، وربما الوحيدة، هي محاولة مجموعة الاقتصاديين الذين ارتبطوا بمجلة «العرض الشهري Monthly Reveiw»، وحاولوا صياغة المفاهيم الماركسية حسب النماذج الرياضية الحديثة، والاستعانة بالمنجز الكينزي؛ لكن تلك المحاولة لم تحظ بتجربة ثرية يمكن أن تطورها، أو أن تكشف عن كونها مجرَّد كينزية معدَّلة كما اتهمها البعض.



تلك المعضلة، أن ينقذ اليسار البلاد من أزماتها الاقتصادية، ثم يأتي اليمين ليحصد منجزَه جاهزًا، هو ما صنع «المسألة اللاتنية».

نجح اليسار مع ذلك في تحقيق تنمية اقتصادية سريعة في البلدان التي قادوها في أمريكا اللاتينية؛ لكنهم لم ينجحوا في الوصول إلى معدَّلات النمو التي تحلم بها البرجوازية المحلية، بل ولا حتى الطبقة الوسطى المتطلِّعة إلى نظيراتها في الدول الغربية. وفي أوّل انتخابات صار هؤلاء على أتم الاستعداد للتخلِّي عمن أنقذوا البلاد من ورطتها، ليُسلم اليسار منجزه التنموي على طبق من فضة لليمين كرجال للمرحلة. بل إن الماركسية الفنزويلية فشلت في عزلتها عن الاقتصاد العالمي في تطوير اقتصاد صناعي قوي، لتتحوَّل إلى دولة ريعية تعصف بها أزمة نفطية متوقَّع حصولها في أية لحظة. لا ينبغي أن ننسى كذلك أن اليسار في تلك الدول لم يكسب تمامًا تعاطف الطبقات الكادحة، ولجأ أحيانًا إلى التعامل بقسوة كما حدث في الإعداد لاستضافة كأس العالم في البرازيل. تلك المعضلة، أن ينقذ اليسار البلاد من أزماتها الاقتصادية ويحقق تنمية معقولة، ثم يأتي اليمين ليحصد منجزَه جاهزًا، هو ما صنع ما أسميه «المسألة اللاتنية».

النقطة الثانية، هي أنالأيديولوجيات الصغيرة التي تحالف معها اليسار، لم تكن صغيرة فحسب على صعيد القواعد، بل كانت أيضًا، أحيانًا أو غالبًا، طفولية وأنانية. فالنقد الذي وجهته النسوية لأبوية دولة الرفاه، وتأكيدها على الفردانية الجنسية، حوَّل النسوية إلى «خادم للرأسمالية» على حد تعبير النسوية اليسارية نانسي فريزر. بل إن المرأة نفسها قد تم تسليعها كيد عاملة رخيصة تحت غطاء تحريرها من الأسرة التي يعولها الذكر وحده، ومن ثمَّ يتحكَّم فيها. أما الحركات البيئية، وعلى الرغم من عدائها المفترض للرأسمالية الصناعية، فلم تقدِّم عمليًّا إضافة تصرّفت الأيديولوجيات الصغيرة دون اعتبار لعلاقات الهيمنة وتوازنات القوى بدعوى الاستقلال السياسي والأيديولوجي، ولم تفكِّر سوى في أهدافها الخاصة المباشرة. كل ذلك أعاد وجاهة تلك الرؤى الاشتراكية الكلاسيكية التي نظرت إلى النسوية أو غيرها باعتبارها نزعات هامشية قاصرة النظر، كما رأتها روزا لوكسمبرج؛ وهي رؤى تشكل تحديًا حاسمًا لتلك الحركات والأيديولوجيات الصغيرة، كما كان استيعاب تلك القيم تحديًا أيضًا لليسار الكلاسيكي.

هاتان هما المهمتان اللتان ينبغي غالبًا على اليسار اليوم، بحسب ما كشفت عنه المسألة اللاتينية، أن يتوقف عندهما: إعادة صياغة برامجه الاقتصادية بما يضمن توازن العدالة والتنمية والرفاه، وإعادة استيعاب علاقات القوى ضمن خطابات الأيديولوجيات الصغيرة المنضوية تحت مظلة اليسار الجديد.

هذا ليس مطلوبًا لإنقاذ اليسار الجديد نفسه، بل بالأساس لإنجاح تجارب التحرر الديمقراطي والاقتصادي في الدول النامية، وهو الأمر الذي يدفع كاتبًا غير يساري إلى الحرص على طرح تلك المعالجة.