في كتابه «كيشلوفيسكي عن كيشلوفيسكي» حكى الرجل أنه خلال تجارب أداء فيلم «الحياة المزدوجة لفيرونيكا – The Double Life of Véronique» حكت ممثلة فرنسية أنها حين تشعر بالحزن تخرج إلى الشارع لتكون مع الناس، سألها لماذا تفعل ذلك وما الذي سيفعله الشارع لفتاة حزينة، أخبرته أنها منذ سنوات مرت بتجارب صعبة، وبينما كانت تسير في الشارع في أحد الأيام، رأت الممثل (مارسيل مارسو) وتبعته لتتأكد إن كان هو، التفت إلى الخلف ونظر إليها مبتسمًا وتابع سيره بعد ذلك، قالت الممثلة إنه أنقذ حياتها حينذاك.

فكر كيشلوفيسكي أن كل ما قام به (مارسيل) في حياته، كل عروضه وحركاته وكل ما قدمه هو لا شيء مقابل حقيقة إنقاذه حياة تلك الممثلة!

بين سقراط والسينما


كان أشهر السوفسطائيين (بروتاجوراس) يرى أن «الإنسان مقياس الأشياء» والعادات شيء نسبي يخضع لحكم الشخص وتقديره، ويختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان. العادات والأفكار التي يتمسك بها الشرقيون مثل عفة المرأة ليست كعادات الغربيين.

على الجانب الآخر قال سقراط في محاوراته إنه لا يعلم شيئًا، ولم تكن عادته أن يجيب عن الأسئلة التي يطرحها، وإنما كان يقضي وقته بين العامة و يسألهم إن كانوا يعرفون شيئًا مؤكدًا، كانت المحاورات تنتهي بلا حسم، لا يفرض سقراط رأيه على غريمه وإنما على الطرفين أن يبحثا عن الحقيقة.

يمكن اعتبار كيشلوفيسكي حلقة الوصل بين سقراط والسينما، في كل لحظة في أفلامه نحن لا نعرف شيئًا. الرجل الذي كان يؤمن أن علاقته مع الله علاقة شخصية، انطلق في كتابه (الوصايا العشر) مرتكزًا على وصايا النبي (موسى) رفقة (كريستوف بيسيفيتش) ومن إنتاج التلفزيون البولندي وتوزيع (وارنر براذرز)، رؤية كيشلوفيسكي في الوصايا هي نسبية الخطيئة، هناك ما يجعلها خطيئة ومن منظور آخر يمكن تبريرها وعدم اعتبارها خطيئة وتحتمل التأويل، كيشلوفيسكي في طرحه للوصايا لا يمنحها غطاء المثالية من أجل أن يثبت وجودها أو قيمتها، لكنه يخترق الخطايا، يريد تقديم وصية تندد بالقتل، يصنع فيلمًا عن قاتل، يريد تقديم وصية تدين السرقة، يصنع فيلمًا عن سرقة، كيشلوفيسكي يرى أن الحل الأمثل لتقدير قيمة الوصايا هو انتهاكها أولًا ثم إثباتها بعد ذلك. كل فرد أثناء بحثه في ذاته وهويته يتخذ قرارات خاطئة ويكسر القواعد نتيجة للتضارب العاطفي والصراع الدائم بين المبادئ والانتماءات وبين المآزق التي يتعرض لها.

في وصية القتل مثلا، يتعمد كيشلوفيسكي أن يمحو كل صور التعاطف مع القاتل، جريمته بلا مبرر ويدفع المشاهد دفعًا على كرهه، لكن حين يقترب تنفيذ الإعدام يرق قلب المشاهد، لأن القاتل تحول إلى إنسان، ومن الطبيعي أن نتعاطف معه لأن لم يعد الشخص البغيض وإنما تحول إلى روح ولا يجب أن تُزهق بأمر من الدولة أو القانون.


في كل حلقة من (الوصايا) نجد شخصًا يواجه المخطئ في لحظة الخطيئة وكأنه يثير قلق المخطئ، لا يعلم المُشاهد من يكون هذا الشخص، رأى (روجر إيبرت) فيه المسيح ورأى فيه آخرون كيشلوفيسكي نفسه، وحين سُئل كيشلوفيسكي عنه قال «لا أعلم، مجرد إنسان يراقبنا بعدم رضى».

في (الوصايا) هناك الكثير من الحزن والكثير من الأخطاء، والكثير أيضًا من التسامح، التسامح المرتكز على القدر، القدر الذي يثبت أن لكل شيء معنى ولكل شيء نهاية ولكل روح خلاص.

لن تستطيع تقدير (الوصايا) إلا حين تشعر أنها نفذت داخل قلبك وأثرت فيه.





المخرج الأمريكي – ستانلي كوبريك


أين البداية؟

ولد (كشيشتوف كيشلوفيسكي) في وارسو عاصمة بولندا عام 1941، تنقلت عائلته بين عدة مدن بحثًا عن علاج لوالده المصاب بالربو، بحلول السادسة عشرة من عمره ترك مدرسة الإطفاء والتحق بدراسة المسرح وسرعان ما قرر أن يترك المسرح ويتوجه إلى صناعة الأفلام الوثائقية بعد تخرجه من مدرسة (لودج) في أواخر الستينيات.

كأغلبية صناع السينما البولنديين، بدأت مسيرة كيشلوفيسكي بصناعة الأفلام الوثائقية، وبينما سعت الحركة السينمائية في بولندا في السبعينيات إلى تنمية الوعي الاجتماعي عن طريق كشف الفساد داخل المنظومة الشيوعية، ركز كيشلوفيسكي على حالة الإنسان وعواطفه واحتياجاته واضطراباته الأخلاقية، اهتم بتوثيق حياة الناس والأفعال اليومية في حياة العمال والجنود وارتباطهم بمدينتهم.

هذا المنهج ابتعد به عن الصراع مع السلطة، كانت هذه الخطوة هي البداية التي اعتمد عليها الرجل حتى يجمع المال اللازم وحتى يعرفه النقاد المحليون، في أفلامه الأولى تعامل كيشلوفيسكي مع حالات فردية يمكن أن تتسع لمفاهيم أكبر، أراد كيشلوفيسكي أن يركز على تفاصيل صغيرة لأنه لم يكن قادرًا على انتقاد النظام الشيوعي حينذاك، وفي هذه الأفلام اتضحت المميزات التي سادت في أفلامه بعد ذلك، الاهتمام الدقيق بالتفاصيل، سيطرة الوجه البشري داخل الكادر وتصوير المواقف اليومية العادية والغموض والنهايات المفتوحة ودور الصدفة في تغيير حياة البشر.

شاعر الخطيئة

الشاعرية التي ينتهجها كيشلوفيسكي في أفلامه لا تخاطب عين المشاهد بجماليتها، لكنها تلامس المشاعر لتجعل المشاهد يتأثر عاطفيا ويندمج مع الشخصيات. هذه الشاعرية تساهم في البناء النفسي للشخصية، لأن كيشلوفيسكي يعتمد في معظم أعماله على الذاتية وانعكاس الأحداث على المتلقي نفسه، يضرب على وتر الأخلاق والصراع الداخلي الذي يشتعل في داخل شخصياته وينعكس علينا كأننا نحن من نعيش في أفلامه. رأى كيشلوفيسكي في الفن شكلًا من أشكال المشاركة في الهم مع المهتمين بالتساؤلات، في أفلامه يطرح الرجل الكثير من الأسئلة، ولا يبدو في أي مرة أنه يبحث عن إجابات قاضية،  وإنما يجعل المشاهد يبحث بنفسه عن الإجابات بالشكل الذي يتقاطع مع الذات.

بغض النظر عن موضوع أفلامي، دائمًا ما تطلعت لتوحيد مشاعري أنا وجمهوري، أحب أن يشعر المشاهد بالأسف والعجز الذي أشعر به عندما أرى شخصًا يبكي في محطة الأتوبيس وعندما أشاهد الناس تحاول عبثًا في التقرب لآخرين، وعندما أرى أشخاصًا يأكلون بقايا الطعام في المطاعم الرخيصة و عندما أرى المرارة على وجه امرأة تملك بقعًا على يديها، وأرى الذعر على وجه البشر بسبب العدالة التي لا تتحقق، أريد أن يصل هذا الألم إلى المشاهد وهذا ما أظنني قد نجحت في جعله يتسرب إلى المتلقين.





كيشلوفيسكي


القدر والهوية

يستكشف كيشلوفيسكي المفارقات مستخدمًا تيمات الاحتمالات والقدر والهوية والتواصل الغامض بين قرائن لكل منهما عالم خاص لكنها يشتركان في روح واحدة واحساس واحد. هناك محرك غامض يدفع الأحداث للأمام، لا تفهمه الشخوص وتشعر بالحيرة أمامه وتستسلم له، على الجانب الآخر فإن مشاعر المشاهد تبني بعضها فوق بعض ولا تتكشف بصورة مفاجئة أو لحظية، وكأن كيشلوفيسكي يحترف لعبة الغموض ويقول أن الحقيقة لا يمكن أن تكون كاملة، وكل شيء يحدث وراءه حكمة علينا القبول بها. نرى أهمية الصدفة في تغيير مسار الأحداث، مثل حادثة جولي في بداية فيلم (أزرق)، أو حادثة فالانتين مع كلبة القاضي في (أحمر)، أو لقاء الصديق الذي يُساعد كارل في الهرب في (أبيض).

شخصيات كيشلوفيسكي ابنة الصدفة التي تحرك الحدث وتخلق الدافع فيما تعرضه كاميراه، تعيش حياة خانقة وتأمل أن تطفو إلى السطح وتشعر بالراحة والطمأنينة، بشر جردتهم الدنيا من كل شيء، حتى لم يعد لديهم رغبة في أي شيء، لكنهم بمرور الوقت يصلون إلى المُراد الذي يطمح إليه كيشلوفيسكي، التسامح والمحبة، وكأنه مسيح جديد عصري ينشر رسالته بكاميرا على كتفيه.

ما يجمع الناس هو المشاعر، كلمة (الحب) لها نفس المعنى عند الجميع، كلنا نخاف بنفس الطريقة، ولهذا أحكي عن هذه الأشياء





كيشلوفيسكي


من الإنسان إلى الإنسان


كيشلوفيسكي في دراسته للمعاني التي تضمنتها ألوان العلم الفرنسي (الحرية والمساواة والإخاء) يبدو مذهلا في بحثه عن أسئلة الانسان حول نفسه والآخرين وعلاقتهم بالكون والخالق، كيشلوفيسكي اهتم بالنظرة، نظرة الإنسان لما حوله، وهذا ما يفسر الاهتمام البصري الفائق الذي صنع به أفلامه. لا يحاول كيشلوفيسكي أن يحلل المفاهيم على المستوى السياسي، وإنما يعرضها في قالب فرداني، الأفلام الثلاثة لا تتطرق للنظام الحاكم أو شعاراته، إنما عن الفراغات داخله، تلك التي يتسللّها كيشلوفيسكي ويلتقط معانيها.

الحرية في Blue ليست حرية التعبير او حرية الرأي، بل حرية الشخص في الانعتاق من المحيط والماضي والذكرى وكأنها حريّة تُمارَس للمرة الأولى، المساواة في White بدأت بالظلم الذي تعرّض له (كارل) من القاضي ومن قبله زوجته، وتكتمل المساواة من وجهة نظره حين ينتقم منها، هكذا يرى المساواة.

في أفلامه هُناك حزن غامض يصيبنا بلا تفسير، نشعر كما لو أصابنا مكروه ما، أفلامه تبدأ عند انتهائها وتحريكها للأشياء حولنا. منصّته الأهم بعد لوحاته هي موسيقاه التي تبعث فينا الحنين لشيء غامض ولمعنى ما لم يتم ذكره، لو قُدِّر لي ان اختار مُخرجاً واحداً يُثبت ان السينما من الانسان للانسان، بلا شك سأختار كشيشتوف كيشلوفيسكي.

في مايو 1994، عُرض آخر أفلامه (أحمر) في مهرجان كان، وصفّق له الحاضرون لخمس دقائق كاملة، وأخبرهم الرجل بعدها انه قال كل ما يريده، سيعتزل السينما ويمكث في ريف بولندا، يقرأ الكتاب المُقدَّس ويُدخّن السجائر في هدوء، وبعدها بعامين رحل كيشلوفيسكي بمرض في القلب، كيشلوفسكي الذي اتسع قلبه العالم كله، ضاق قلبه به ورحل في هدوء تاركًا إرثًا سينمائيًا نادر التكرار.