من المتعارف عليه عند أهل الاختصاص بالتاريخ أن الأعمال الفنية والأدبية التاريخية لا يُؤخذ منها تاريخ. فعند مشاهدتنا لمسلسل تاريخي أو قراءتنا لرواية تتناول حدثًا تاريخيًا، لا يصح لنا الاعتماد على ما ورد فيه أو الاعتقاد بكونه تمثيلًا للحقيقة، حتى وإن أعجبتنا القصة أو التفاصيل المستمدة من وقائع تاريخية حقيقية؛ ذلك لأن العمل الفني الأدبي يخضع أولًا وأخيرًا لخيال الكاتب لا لحقائق التاريخ، فلا يصح لنا أن نبني تصوراتنا التاريخية وفق خيال المؤلف.

يغفل المشاهد تلك الحقيقة أو يتغافل عنها، مكتفيًا بالمتعة على حساب التاريخ، إذ إن الصورة ألصق بالذهن من الكلمة، ورب صورة أفصح وأبلغ وأكثر قدرة على إثارة المشاعر من آلاف الكلمات الموضوعة داخل الكتب، لكن النتيجة تكون هي أن يتشوه التاريخ وتضيع الحقيقة لتصبح لعبة بيد الكاتب.

إذن، من الأفضل عندما نشرع في تجسيد ما هو مسطور في الكتب، ولكي نقترب من الحقيقة قدر الإمكان، أن نقوم ببحث تاريخي متقن أولًا، ثم نقوم بسد فراغات الماضي التي صمتت عنها الكتب والوثائق بما ينتجه خيال الكاتب، فيَظهر لنا عمل تاريخي أدبي أو فني متقن، يتحقق فيه الإمتاع مع الاقتراب من الماضي كما سُطر، وقد رأينا هذا مثلًا في مسلسل «عُمر».

لكن ما حدث في مسلسل «ممالك النار» عكس هذا مع الأسف، فيبدو أن كاتب السيناريو «محمد سليمان عبد المالك»،


لديه مشكلة مع العُثمانيين ودولتهم، ورغم تصريحه بأن العمل اعتمد على مراجع تاريخية كثيرة جدًا، وبشكل تصل نسبة دقته إلى 100% (وهو أمر لا يقوله المؤرخون عن كتاباتهم!) إلا أنه بني على خيالات كثيرة لا علاقة لها بالتاريخ، وإنما كانت أقرب ما يكون لشكل التاريخ الذي يريده.

ركز المسلسل بشكل أساسي على تصوير السلاطين العثمانيين كقتلة، سفاحين، مخمورين، منذ أول عبارة في أول حلقة من المسلسل، بحيث يظهر الجانب العثماني هو الجانب الشرير المصاحب ظهوره دائمًا بمؤثرات الصوت والملامح الشريرة، والجانب المملوكي بالجانب الطيب المصاحب لظهوره تأثيرات لطيفة تعطي انطباعات إيجابية للمشاهد.

سأقوم هنا بمناقشة الادعاءات التاريخية التي أثيرت حول شخصيات المسلسل العثمانية، كما سأقوم بمناقشة بعض القضايا التاريخية التي عُرضت من وجهة نظر وحيدة، و سنثبت في نهاية المناقشة أن تصورات عبد المالك في كثير من أحداث المسلسل بُنيت على خلاف الحقيقة التاريخية، فخرج المسلسل عن كونه عرضًا لما حَدث في الماضي بشكل متوازنٍ، ومال إلى كونه عملًا يهدف للكيد السياسي عبر تشويه التاريخ.

محمد الفاتح: صاحب قانون قتل الإخوة

افتُتح المسلسل بظهور السلطان محمد الفاتح، معرّفين به بأنه صاحب قانون قتل الإخوة الذي قتل فور وصوله للعرش ثلاثة من إخوانه، كما قام بقتل أخيه الرضيع أحمد ذي الستة أشهر. وقبل الحديث عن مدى صحة نسبة هذا القانون للفاتح وصحة قتله لإخوانه الثلاثة بالإضافة للطفل الرضيع، لابد من البسط في شرح الطريقة المتبعة لوراثة العرش في الذرية العثمانية، فهي مفتاح وأساس فهم هذا الموضوع.

بعد «معركة أنقرة» عام 1402م بين السلطان «بايزيد الأول» وتيمورلنك التي أُسر فيها السلطان، عمل تيمورلنك على تفكيك الدولة العثمانية إلى أجزاء وفَصل أراضيها في الروملي (البلقان) عن أراضي الأناضول، ودخل أبناء بايزيد الأربعة في صراع على خلافة العرش العثماني الفارغ (باستثناء واحد أخذه تيمورلنك معه)، فامتدت فترة الصراع تلك إلى أحد عشر عامًا عُرفت في التاريخ العثماني باسم «عَهد الفترة»


كان كل أمير فيها يشكل قوة ويتحارب مع الآخر، والسبب في هذه الحروب وما أحدثته من قتل ودمار هو عدم وجود آلية لانتقال الحكم عند العثمانيين عند وفاة السلطان، فالأمراء لهم حق متساوٍ في وراثة العرش بعد أبيهم، باستثناء حالة أن يقوم الأب بتعيين أحدهم خليفة له، فبناءً على ذلك كان موت السلطان يعني بدء كل فريق وحاشيته بالدخول في صراع من أجل العرش.

اقرأ أيضًا:

حملة السنوات السبعة: تيمورلنك والعثمانيون

وقد حقق جدّ الفاتح، السلطان محمد الأول، الانتصار على إخوته وأعاد توحيد أراضي الدولة بشكل ما. وإذا تركنا هذه الحادثة ونظرنا إلى أثر الحرب والاقتتال بين الأمراء، سنجد أن تأثير هذه الحروب الطاحنة لم يقتصر على الخسائر المادية فحسب، بل تسبّب في أخطار كانت تهدد بقاء الدولة نفسها، فهناك من الأمراء من كان يضع يديه في يد البيزنطيين على أمل أن يساعدوه في الوصول للعرش، فيستغلها الأعداء لإثارة مسألة أحقية وراثة العرش، للحصول على مكاسب سياسية وإحداث هرج ومرج واقتتال في الدولة.

قبل ولادة الفاتح بسنوات، أطلقت بيزنطة «مصطفى چلبي» عم السلطان مراد الثاني (والد الفاتح) الذي كان قد التجأ لهم من قبل لمساعدته على استرداد عرش أبيه بايزيد، وأمدته بما يلزم، وقام هو بدوره باستمالة كل أمراء الروملي، والسيطرة على مدينة غاليبولي، ودخل مدينة إدرنة وأعلن نفسه حاكمًا على الروملي، واستعد للزحف على الأناضول [1]، إلا أن السلطان مراد تمكن في النهاية من هزيمته وقتله. نجد أمثلة على هذا الأمر من قَبل فترة حُكم السلطان مراد، بل وخارج النطاق التاريخي للدولة العثمانية لتمتد حتى تصل للدولة السلجوقية، فنجد القتل بداخل العائلة المالكة حاضرًا لنفس الأسباب.

فكرّ الفاتح بناءً على ما هو مستقر في وجدانه، وما حدث في القرن ونصف الماضي منذ تأسيس الإمارة العثمانية، في وضع قانون يحد من عملية الاقتتال على السلطة، وفي نفس الوقت يحافظ على الدولة ويقطع الطريق على أي شخص يفكر في أن ينازع السلطان الذي استقر على العرش حديثًا، بحيث يصبح الخارج على السلطان الجديد خارجًا على الدولة ويحق للدولة أن تقتله حفاظًا على سلامتها ونظامها الذي عُرف حينها باسم «نظام العالم»، وتجنبًا لتكرار المآسي التي وقعت سابقًا

،

إلا أن هناك فارقًا كبيرًا مع مرور الوقت في التطبيق بين الأساس الذي وضعه الفاتح وما نُفذ فعليًا، فقد توسع بعض السلاطين في القتل ليشمل قتل بشر لا ذنب لهم بحجة حفظ نظام العالم، واستمر الوضع بهذا الشكل حتى سُن قانون آخر لوراثة العرش في عهد السلطان «أحمد الأول» في القرن السابع عشر؛ للحد من عملية القتل هذه إلا أنها استمرت.

فأول ما أثبته في هذا الموضوع هو وجود مثل هذا القانون فعلًا، وأن الفاتح سنّه ضمن مجموعة قوانينه التي وضعها لإدارة شئون الدولة [2]، وليس لأنه رجل دموي سن قانونًا ليستخدمه في قتل إخوته تحت غطاء شرعي كما ألمح مسلسلنا الرائد.

نأتي للقضية الثانية وهي قضية قتل الفاتح لإخوانه الثلاثة، بالإضافة للرضيع فور صعوده على العرش كما ذُكر في المسلسل، وهو كلام غير صحيح بحسب المراجع التاريخية وبحسب تحليل بسيط في النقاط الآتية:

  1. لا نجد في المصادر ذكرًا للأولاد الذكور للسلطان مراد الثاني عندما تقلد الفاتح الحكم، بل إن الفاتح تقلد عرش السلطنة مرتين وليس مرة واحدة، مرة في حياة أبيه بعد أن تنازل له عن العرش وانزوى (وكان عمره تقريبًا أربعة عشر عامًا) قبل أن يقرر العودة مرة أخرى للحُكم، وهذا يشير إلى أنه لا يوجد من يكبر الفاتح من أبناء السلطان الذكور في ذلك الوقت، ومرة عندما توفي السلطان وصعد الفاتح للعرش (وكان عمره تسعة عشر عامًا)، ولم يُذكر في أي مصدر أن هناك أخًا وقف أمام الفاتح من أبناء السلطان رغبة في العرش. [3]
  2. أبقى رجال الدولة خبر وفاة السلطان مراد سرًا حتى استدعوا الفاتح من مغنسيا كي يأتي ويتقلد السلطنة مكان والده، وهي فترة امتدت قرب أسبوعين [4]، ولو أن إخوة آخرين كانوا للفاتح، لعرفنا حربًا ومقتلة جديدة على عرش السلطان مراد، ولكننا لا نجد أي أثر في كتب التاريخ لشيء كهذا، بل كان الفاتح هو الوحيد الكبير المتبقي من أبناء السلطان مراد.
  3. أما بخصوص قتل الطفل الرضيع، فهناك تضارب فيما يخص القضية بين المؤرخين، وليست قضية محسومة يُحكم فيها هكذا بجملة واحدة، فهناك من المؤرخين من يسكت عن ذكر هذا الموضوع تمامًا، وهناك من يقول منهم بوقوعه بشكل عارض وسريع دون شرح كبير.
  4. بالنسبة لمن يسكتون عن ذكر الحادثة، فلن يفيدنا صمتهم في شيء، أما من يذكرون وقوعها فيذكرون بأن الفاتح أمر شخصًا اسمه «أفرانوس زاده علي بك» بأن يأخذ طفلاً رضيعًا هو أخ له من زوجة لأبيه ويُغرِقه في مسبح قصر إدرنة، إلا أننا لا نعرف شيئًا عن وقت ولادة هذا الطفل وكم كان عمره بالضبط عندما قام هذا البك بتنفيذ هذا الأمر، فقط ذُكر أنه كان رضيعًا.
  5. يذكر آخرون أن الفاتح عندما أمر بهذا ومات الطفل، وقعت ردة فعل كبيرة في إدرنة، فأمر الفاتح بأن يُقتل أفرانوس زاده جزاءً له على قتله الرضيع تسكينًا للوضع.
  6. لماذا إذن يُقدِم الفاتح على قتل طفل صغير لا حول له ولا قوة ولا يشكل خطرًا على الدولة؟ أخوفًا على العرش؟ لا وجود للخوف هنا من طفل رضيع فهو لا يقدر على مجابهة الفاتح، أم لأجل الخوف من اختطاف بيزنطة له واستعماله ضد الدولة؟ أيضًا الموضوع مستبعد، فمَن يقدر على تسريب أمير رضيع من القصر العثماني؟

يبقى الجواب على هذا السؤال إذن محل نقاش دون وجود إجابة حاسمة حوله، فلو فعلها الفاتح سنقول بكل وضوح بأنه شريك في دم طفل رضيع، ولكننا فعليًا نمتلك أسئلة كثيرة حول هذا الموضوع ولا نمتلك إجابات كافية حولها.

بايزيد الثاني:

«

الولي

»

أما السلطان بايزيد ابن الفاتح فقد طلع علينا في المسلسل بشخصية السلطان الضعيف السكير الذي لا يفارق كأس الخمر يديه، ولا يفيق من سكرته صباحًا ومساءً، ويبصق على قبر أبيه الفاتح وهو مخمور.

أفرزت قريحة عبد المالك بعد شطحات طويلة هذه الشخصية المتخيلة، أما ما هو مُجمِع عليه من أخلاقيات السلطان بكتابات المؤرخين المعاصرين له أو الذين أتوا بعده، فهو على النقيض تمامًا من هذا التخيل، فهو رجل متدين، صوفي، يحافظ على صلواته، يحسن للفقراء ويُقرِّب إليه العلماء حتى لقّبه بعضهم بالولي، ولا يوجد ما يمنع من إيراد نصين أو ثلاثة لمؤرخين معاصرين للسلطان أو قاموا بالنقل عن معاصرين له يتحدثون فيها عن شخصيته.

يقول المؤرخ المصري ابن إياس في «بدائع الزهور في وقائع الدهور» [5]:

وولي على مُلك الروم وجلس على سرير المُلك يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول ستة وثمانون وثمان مائة، وأقام فيه إلى سنة ثمانية عشر وتسع مائة، فقدمت الأخبار بوفاته يوم الجمعة ثاني جمادي الأولى في هذه السنة. انتشر ذكره بالعدل في سائر الآفاق، وكان من خير ملوك بني عثمان قاطبة.

ويقول عنه الأمير والمؤرخ الكردي شرف خان البدليسي في كتابه «شرف نامه» [6]:

سنة 918 هـ / 1512-1513… وكان قد ولي السلطنة في الثلاثين من عمره وحكم اثنتين وثلاثين سنة، وكان رحمه الله صوفي المشرب زاهدًا تقيًا متدينًا، أخذ الطريقة عن الشيخ محي الدين، الذي هو والد مفتي الزمان أبي السعود أفندي، فكان يعتكف معه في الخلوة.

ومعنى الخلوة الاختلاء عن الخلق في مكان طاهر، وهي من ضروريات بعض الطرق الصوفية، ويُفضَّل أن تكون في مسجد مع نية الاعتكاف والصوم.

أما المؤرخ التونسي حسين خوجة فيقول في «بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان»، تحت عنوان «في ذكر جلوس السلطان بايزيد الولي» [7]:

وكان رحمه الله من أهل الخير، محبًا للعلماء والفقراء، وكان يصرف كثير أوقاته في الانقطاع وتلاوة القرءان والعبادة والدرس، ويصلي بالجماعة الصلوات الخمس، وكان كريم النفس طيب اﻷخلاق متواضعًا، وكانت أنوار العبادة تتلألأ في وجهه المبارك، وقد دخل الخلوة وجلس فيها أربعين يومًا، وكان رفيقه فيها مولانا محي الدين والد المولى أبي السعود المفسر.

ونجد في كلام مؤرخين آخرين مثل ابن زنبل الرمال المصري [8]، ومصطفى الجنابي [9]، نفس الصفات بكلام مشابه عن السلطان، فأين أعلى درجات الدقة التاريخية التي يدعيها الكاتب من هذا الإجماع؟

أما السلطان سليم، وهو محور من محاور المسلسل، فالحديث عنه يطول، لذا فمن المُفضَّل أن نُفرِد له مقالاً خاصًا به، لعرض صورة مُتزنة له بعيدًا عن الشخصية الدموية الشريرة المصابة بمرض حب سفك الدماء كما صوّره عبد المالك في المسلسل، ولعله يكون مقالًا قريبًا بإذن الله.


المراجع



  1. تاريخ الدولة العثمانية: النشأة – الازدهار وفق المصادر العثمانية المعاصرة والدراسات التركية الحديثة، سيد محمد السيد، مكتبة الآداب، القاهرة، 2007، ص 149.
  2. بإمكانك في هذا مراجعة الدراسة المهمة التي وضعها الدكتور عبد القادر اوزجان حول مسألة قوانين الفاتح وقانون قتل الأخوة وهو بعنوان :Abdülkadir Özcan. “Fatih’in Teşkilât Kanunnâmesi ve Nizâm-ı Âlem İçin Kardeş Katli Meselesi”, İ.Ü. Ed. Fak. Tarih Dergisi (1981-1982), İstanbul 1982, sayı 33.
  3. انظر في هذا مثلا: المختصر من تاريخ الجنابي، اختصار: أحمد بن محمد ابن الملا، دراسة وتحقيق رابعة مزهر شاكر، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الدراسات العليا بالجامعة الأردنية، عمان، 2010، ص 90-97.
  4. Mehmet Akman. Osmanlı Devletinde Kardeş Katli, Eren, Istanbul, 1997, Sayfa 64
  5. بدائع الزهور في وقائع الدهور، محمد بن أحمد بن إياس الحنفي، بعناية باول كاله ومحمد مصطفى ومورتس سوبرنهايم، مطبعة الدولة، إستانبول، 1931، الجزء الرابع، ص 270
  6. شرف نامه: في تاريخ سلاطين آل عثمان ومعاصريهم من حكام إيران وتوران، شرف خان البدليسي، ترجمة محمد علي عوني، دار الزمان، 2006، الجزء الثاني، ص 115
  7. بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان، حسين خوجة ابن علي بن سليمان، تحقيق محمد أسامة زايد، دار ابن رجب ودار الفؤاد، 2014، الجزء اﻷول، ص 595
  8. آخرة المماليك أو واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني، ابن زنبل الرمال، تحقيق عبد المنعم عامر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص 86
  9. المختصر من تاريخ الجنابي، اختصار: أحمد بن محمد ابن الملا، دراسة وتحقيق رابعة مزهر شاكر، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الدراسات العليا بالجامعة الأردنية، عمان، 2010


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.