تنطلق الماركسية كفلسفة من مسألة الوجود الإنساني، لتناقش طبيعته وحدوده، والعوامل المُختلفة التي تصيغ هذا الوجود، في حين تسعى إلى كشف إمكانات تحسين شروط هذا الوجود التي تُمكِّن الإنسان من توظيف أكبر قدر من طاقاته الإبداعية.

يعتقد إريك فروم أن فلسفة ماركس هي «تركيب مُؤلّف من مذهب إنساني ومذهب طبيعي»[1]، فهي ليست مذهبًا طبيعيًا خالصًا، ومماثلًا للمادية «الميكانيكية» التي انتشرت في القرن الثامن عشر، وذلك لأن ماركس لم يسعَ لدراسة المجتمع بواسطة مجموعة من القوانين الثابتة التي تُماثل قوانين العلم الطبيعي (الفيزياء والكيمياء ..إلخ). في حين رأى ماركس أن الطريقة التي يُنتج بواسطتها الإنسان «وسائل بقائه» المادية التي تُمكّنه من الحفاظ على حياته، هي التي تُحدد شكل (إمكانيات) الأنشطة التي يُمارسها خلال حياته.

فالإنسان، كما يرى ماركس، سيبحث عن طريقة (نمط) يؤمّن بها طعامه وكساءه… إلخ من وسائل بقاء مادية، قبل أن يُفكر بممارسة نشاطات أخرى ككتابة الشعر وعزف الموسيقى، لذا فإن فعالية الإنسان في تأمين وسائل بقائه سابقة بالضرورة على فاعلياته (نشاطاته) الأخرى كالكتابة والعزف، وبالتالي فهي تُمثل قاعدة سابقة على نشاطاته الأخرى، وشرطًا يجب تأمينه أولًا إذا ما أُريد خروج هذه النشاطات إلى النور، إذ إنها (أي القاعدة) تضمن بالأساس استمرارية هذه الحياة، وما يتبعها من استمرارية هذه الأنشطة. وقد نبتت بذور هذه الفكرة في ما كان مونتسكيو قد اقترحه قبل ماركس، وهو أنه «من الواضح أن أفكاره [أي الإنسان] الأولى لا تكون نظرية، فهو يفكر في حفظ كيانه قبل أن يبحث عن أصل وجوده»[2].

وهكذا، فإن التطور الذي حققته طريقة (نمط) إنتاج الإنسان لوسائل بقائه، تُحدِّد لدى ماركس بدورها البنيةَ الأولية أو الاحتمالات المبدئية الُممكنة لأشكال تطور نشاطات الإنسان الأخرى، وما دامت هذه النشاطات هي ما يُعبر بها الإنسان عن حياته، وأن ما يُعبر به الإنسان عن حياته هو ما يكوِّنه: أي ما نسميه «كينونته» أو «طبيعته»، فإن تلك الكينونة أو الطبيعة ستعتمد على الطريقة التي يُنتِج بها وسائل بقائه.

فمنذ البداية، حين صادف البشر، مثل غيرهم من الحيوانات، «ظروفًا جاهزة تمامًا مثل الظروف الجيولوجية، والجغرافية، والمناخية»، فإن البشر تميزوا دون غيرهم بالقدرة على توظيف هذه الظروف لصالح وجودهم، فهم كما يعتقد ماركس «يبدؤون بتمييز أنفسهم عن الحيوانات، حالما يُباشرون إنتاج وسائل وجودهم»، وبالتالي تصبح الطريقة التي ينتجون بها تلك الوسائل سابقة على غيرها في تمييز الحياة الإنسانية عن غيرها، لأنها ما يُحدد وضعية الإنسان داخل العالم الطبيعي بصفته جسمًا يخلق أول ما يخلق: علاقات مادية مع الطبيعة عبر ما يبذله من عمل يُمثل رابطته الأساسية بها، أما يطرأ على الطبيعة من تعديل نتيجة هذا العمل، فهو ما يُسميه المجتمع، أو «التاريخ»[3].

لذا يكون الإنسان صانع تاريخه، وليس كما اعتقد الماديون الميكانيكيون بأنه مُجرد مُنتج أو دمية لقوانين حتمية كقوانين الطبيعة، لكنه إذ يصنع تاريخه، فإنه يصنعه داخل الإطار الذي خلقه بعمله، أي أن ذلك الإطار هو التاريخ ذاته. فيمكننا أن نقول إن التاريخ سرعان ما يتمرد ضد خالقه الإنسان، مُقيدًا إياه في حجرة مُعينة داخل أحد المباني، كلاهما (أي الحجرة والمبنى) ذو مساحة وتفاصيل ويحوي أدوات مُعينة، تفرض على الإنسان أن يعي العالم من نافذة حجرته، ذلك المبنى هو المجتمع (الموجود في لحظة تاريخية مُعينة)، أما الغرفة، فهي الطبقة (الحالة الاجتماعية) التي ينتمي لها المرء تبعًا لنوع الشغل الذي يبذله. وهكذا يتحكم المجتمع عبر مؤسساته في تكوين الإنسان وهذه فكرة لم يكن ماركس أول من اقترحها وإنما مونتسكيو أيضًا.

فهل يعني ذلك القضاء على فاعلية الإنسان التاريخية بشكل نهائي؟

بالنسبة لماركس، الإجابة هي لا، لأنه يظل بإمكان البشر أن يغيروا أو يطوروا هذه المؤسسات (فهم من خلقوها بالأساس) وطريقة تنظيم المجتمع، لكن ضمن «شروط مُعطاة» لم تفرضها الطبيعة وحدها، ولم يفرضها إله أو قدر ما، وإنما فرضها عمل الإنسان ذاته لإنتاج وسائل بقائه، وبالتالي، يُصبح الإنسان فاعلًا في الحالتين، فهو يصنع عبر شغله في الطبيعة أولًا: القاعدة المادية لوجوده، والتي ترسم شكل وإمكانيات تطور هذا الوجود، ومن ثم يُمكنه تبديل شكل ذلك الوجود، لكن في مواجهة أوضاع فرضها عليه الماضي (تاريخ وتراكمات عمل أسلافه في الطبيعة)، وهو مضطر إلى استخدام الأدوات التي أفرزها التطور الذي حققه أسلافه حتى تلك اللحظة، ضمن الإطار الاجتماعي الموضوع مُسبقًا، والذي تَشكّل نتيجة تراكمات أعمال أسلافه.

لقد انطلق ماركس إذًا في دراسة الإنسان من «الإنسان الواقعي والشروط الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش في ظلها»، وتوصل إلى استنتاجات متعلقة بالدوافع البشرية، مُعتبرًا أن بعضها كالجوع والجنس ثابتة بالطبع، بينما تنشأ بعض الدوافع الأخرى أو تزداد أهميتها فوق العادة في ظل شروط اجتماعية مُعينة «بنى اجتماعية مُحددة، وأوضاع إنتاج مُعينة، وشروط للإنتاج والتواصل الاجتماعي»، مما يعني أنها قد لا تظهر في شروط أخرى، أو أنها على الأقل لن تحظى بنفس الأهمية في شروط أخرى، ومن هنا؛ اعتبر ماركس أن مرتبة دافع مثل تحصيل الربح الاقتصادي ليست أبدية، وأن كونه المُحرك الرئيسي للإنسان؛ حادث فقط ضمن شروط الرأسمالية. وبالتالي، من الممكن تغييره إذا تبدلت تلك الشروط.

الروح في عالم بلا روح

يُواجه إريك فروم الاعتقاد السائد بأن ماركس الفيلسوف «لم يُقدِّر أو يفهم الحاجات الروحية للإنسان»[4] لأنه كان مهتمًا فقط بحشوه بالطعام، في مقابل إنكار ذلك الجانب الغامض (الروحاني أو الميتافيزيقي) الذي يُميز الإنسان عن غيره من الحيوانات. فالنقاد كما يرى فروم، اعتبروا أن نقد ماركس للدين كان نقدًا شاملًا لما نُسميه بالـ «روح» الإنسانية. ولفرديته، وبالتالي فهو لم يتجاوز كونه مُجرد شمولي آخر لا يهتم بفردية الكائن الإنساني، ولا بتحوله إلى آلة بيروقراطية «جيدة التغذية».

في المقابل، فإن عمل ماركس الفلسفي (برمته تقريبًا) قد انطلق من نقد «الاغتراب» الذي شوّه فردية الإنسان، فلقد كان هذا المُفكر الإنساني مُنزعجًا جراء النقص والتشوه الذي شاب صيرورة تحرر الفرد الليبرالي، والذي جرّته عجلة الإنتاج مجددًا نحو اغترابه عن أن يصبح فردًا مُتحررًا بالكامل: يبذل قوة عمله وفق إرادته المُبدعة، لا لأنه مُجبر على بيع قوة عمله تلك حتى لا يموت من الجوع.

لقد أدرك ماركس أن دعوة الإنسانيين الليبراليين أسلافَه لانعتاق الإنسان الفرد من قيوده التي تعوقه عن تحقيق سعادته، كان ينقصها النظر إلى القيود الاقتصادية التي تتحكم في صياغة شكل حياته، النظر في أنها قد لا تتيح له الوقت الكافي كي يفعل ما يُسعده حقًا، وأنها تُجبره على نمط مُعين من الروتين اليومي/الاجتماعي الذي يجعله بالنهاية غريبًا عن ذاته وفعاليتها الممثلة في «العمل».

ذلك لأن ماركس نظر إلى العمل على أنه «التعبير الذاتي للإنسان عن قواه الذهنية والجسدية»، وللاغتراب بصفته: عُزلة العامل عن الغاية من عمله الذي يبذل فيه قواه الذهنية والجسدية، مُجبرًا على إبداء الانتباه لأدائه، حيث لا يُوجد سوى القليل الذي يجعله يستمتع بعمله، مُنتجًا لسلع يجدها تقف ضده كأشياء تتحكم في مصيره رغم كونها «مواضيع لخلقه»، وألا يفعل المرء ما يرغب/يستمتع بفعله حقًا، وإنما ما يخدم الربح الذي «يُحوّل كل بقية من جمال في عمله إلى كدح مكروه»[5].

يمتد نقد الاغتراب كما يرى فروم بعيدًا في الماضي وصولًا لنقد الوثنية، فقد توجّه النقد التوحيدي للوثنية إلى أن الإنسان يعبد أشياء خلقها بذاته، وأنه بذلك يحوّل نفسه إلى «شيء» ويسلب خصائصه بنفسه وينسبها للوثن. «عبادة الإنسان للشيء الذي يعطيه الإنسان قواه المُبدعِة، بدلًا من ممارسة ذاته في فعل مُبدِع»[6] وبذلك يُختزَل في تواصل مع ذاته عبر وسيط غريب هو الوثن، بدلًا من أن يمارِس فعالية ذاته كفرد خالق، فإنه يصبح مخلوقًا بيد مخلوقه، وخاضعًا له.

تُبدّل الأوثان أشكالها من الآلهة إلى الملكية إلى الدولة، لكن يظل فعل الاغتراب واحدً، بالغًا ذروته ضمن المجتمع الرأسمالي، فتلبية حاجات المخلوق (السلعة) يصير بديلًا عن إشباع التجربة الحية لخالقه الإنسان. وتصبح للسلعة حياة خاصة بها تُجبر العامل/المُوظَف على ألا يختار/ يُبدِع ما يرغب به حقًا، وإنما ما تفرضه سلطة الإنتاج، والسلطة التسويقية، أو طلب الجمهور، الذي هو طلب السلعة (الوثن) بالنهاية، لأن الجمهور لا يطلب أكثر مما يُفرَض عليه من قبل السلع عبر الدعاية، فليس الجمهور كذلك حرًا (مهما توهّم ذلك)، فالوثن يفرض ألوهيته على جمهوره مثلما يفرضها على صانعه.

ينتهي الفرد ذاته بالانحطاط إلى مستوى تسويق نفسه كسلعة: بيع ابتسامته، وشخصيته، وآراءه، وليس فقط قوة عمله، وإنما مُجمَل شخصيته.

ربما نجد أقرب صور ذلك الاغتراب بداهة لنا في الإنتاج الفني (بما أنه أكثر النشاطات ارتباطًا باصطلاح الإبداع)، حين يعجز الفنان عن إبداع فكرته الخاصة، ويخضع مثلًا لحاجة سوق السينما الربحية، فتصير رغبة السلعة المخلوقة (الفيلم) بديلًا عن التجربة الإبداعية الحية (رغبة) لخالقها الإنسان، وتقف ضده كقوة مستقلة عنه، ليجد نفسه غريبًا عنها رغم أنها من عمل يده، يُنجزها مُجبرًا في معاناة دون أن يشعر بأنها تخصه، وكأنه يبذل «قوة في شكل عجز، وخلق في صورة خصي»[7].

من هنا، كان اهتمام ماركس الأساسي كما يرى فروم «ليس التساوي في الدخل، وإنما بتحرير الإنسان من ذلك النوع من العمل الذي يُدمر فرديته، والذي يُحوّله إلى شيء، ويجعله عبدًا للأشياء… وظروف صنعها»[8].

فكل إنتاج في الرأسمالية كما يرى ماركس ليس إبداعًا إنسانيًا وإنما «غواية يقوم بواسطته الفرد بجذب جوهر الشخص الآخر [الذي تُقرِه الرأسمالية]، أي نقوده» إنه لا يرى فيه غير محفظته، فلا إنسانية له إلا بقدر ما يَعدُ بالنقود، فالبشر هم سلع يُسوّقها المعلنون، ونسب مُشاهدة واستهلاك في نظر وسائل الإعلام والمديرين. وأشولة ضرائب في نظر الدولة. وهكذا يهمس الجار في أذن جاره «صديقي العزيز، سأعطيك ما تحتاجه، لكنك تعرف لون الحبر الذي ينبغي استعماله في توقيعك لي»[9] فهو مُجرد سلعة في نظر جاره.



هذا الإنسان السلعة، بعد أن سُلِبت كافة قواه الإبداعية، ووقته، وإرادته، وتجربته الحرة مع العالم والطبيعة، «لا يعرف سوى طريق واحد، لتواصل ذاته مع العالم الخارجي، بواسطة امتلاكه واستهلاكه».

هذا الإنسان السلعة، بعد أن سُلِبت كافة قواه الإبداعية، ووقته، وإرادته، وتجربته الحرة مع العالم والطبيعة، «لا يعرف سوى طريق واحد، لتواصل ذاته مع العالم الخارجي، بواسطة امتلاكه واستهلاكه: فكلما يكون الإنسان أكثر اغترابًا، تُساهم حاسة الملكية والاستعمال، أكثر، في تشكيل علاقاته بالعالم» و«كلما تكون أنت أقل، وكلما تُعبر عن حياتك أقل تملك أكثر»[10].

ليست الأولوية إذًا لدى ماركس هي توزيع ثمار الإنتاج، بقدر ما هي تغيير أسلوب الإنتاج جذريًا بشكل يتيح للإنسان الحرية في توظيف طاقاته الإنتاجية وإبداعه كما يُريد دون تقيّد بالشروط الربحية للرأسمالية، وبطريقة تُوجّه الثروة المادية «لتلبية حاجات التطور لدى العامل» بصفته إنسانًا يُمارس فعاليته الذاتية الممثلة في العمل على أكمل وجه وفق إرادته. فإنسانية الإنسان (ممثلة في فعالية عمله) لدى ماركس لا يجب حتى أن تُصبح مُجرد «وسيلة لوجوده الفردي»، وإنما الإنسان لديه (كما عند كانط) غاية في ذاته، فإن لم يكن يجوز أن يتحول إلى وسيلة حتى لوجوده الفردي فكيف يمكن – يتساءل فروم – أن يتحول إلى وسيلة للدولة، أو الطبقة، أو الأمة؟ كما يرى من ينتبسون بأفكارهم إلى ماركس.

لقد كتب ماركس في نص عن «الشيوعية الفظة» واصفًا إياها: «بالنسبة لها، فإن دور العامل لا يُلغَى، يُوسَع ليشمل كل البشر، كما أن علاقات الملكية الخاصة تظل كما هي، علاقات الجماعة مع عالم الأشياء»[11] ليست تلك الشيوعية الفظة إذًا، والتي نجدها في النماذج السوفييتية، والصينية وغيرهما. أكثر من نسخة مُعممة للرأسمالية، تحافظ على «اغتراب العامل» وخاصية العمل الرأسمالية بوصفه سلعة، وليس بوصفه «فعالية ذاتية » كما كان يصفه ماركس دائمًا مُتبعًا في ذلك هيجل.

إن نقد ماركس المركزي للرأسمالية في رأي فروم ليس انعدام العدالة في توزيع الثروة، وإنما حرفها العمل إلى شكل لا هادف، مغرَّب، وقسري، يُجبَر الإنسان على الذهاب إليه كل صباح وكأنه ذاهب إلى سجن، وبالتالي تحويلها الإنسان إلى شيء شاذ ومشلول. [12] وقد وصف الاشتراكية التي تُطالب بمساواة وزيادة مفروضة للأجور بأنها ليست أكثر من «تعويض أفضل للأرقّاء»، وبأنها «رأسمالية مُجردة»، مثّلتها بالفعل (ليس حتى على أكمل وجه) الدولة المطلقة في روسيا، والصين. وأنها «لن تُعيد لا للعامل ولا العمل معناهما وقيمتهما الإنسانيتين»[13].

بهذه الطريقة نَقدَ ماركس الاغتراب ليس لأنه أراد آلة «حسنة التغذية» كما يرى بعض نُقاده، وإنما لأنه أراد العكس تمامًا: أي روحًا حرة من الضغوطات الاقتصادية، ما يعني تأمين الحاجات المادية (الغذاء، الكساء، وسائل الراحة… إلخ) بسهولة، حتى يتسنى لتلك الروح تحرير طاقاتها الإبداعية في إنتاج/خلق ما تُريده، وذلك لأنها صارت مالكة وقتها، الذي تحياه وفق إرادتها، ولا تبيعه مُضطرة تحت ضغط الحاجات المادية التي باتت تؤمّنها بسهولة.

اعتقد كثير من أتباع ماركس، أن هدفه كان توسيع نطاق الاستهلاكية الرأسمالية وتحقيق استهلاك (سِلعي) غير محدود للجميع بدلًا من الأقلية الغنية. لكن بخلاف ذلك، فقد وافق ماركس أبيقور في أن اللذة هي اللذة الحسية الهادئة الناتجة عن الإشباع الفطري للرغبات وفق الحاجة، فهي تنتج عن محو شعور الألم نتيجة الحاجة الفسيولوجية إلى شيء ما: كالطعام، النوم، الجنس… إلخ، فقد كان ماركس مثل أبيقور ضد «النهم» الطامع في الأشياء في غير حينها، وإنما هما مع الحاجة عند أوانها، أي حين الشعور بالألم/العجز نتيجة عدم تلبيتها.

اللذة في نظر ماركس هي كما عند أبيقور «غياب ألم الجسد واضطراب النفس»، وليس النهم العشوائي اللاهث هنا وهناك خلف حاجات مُبالغ في تقديرها (قيمتها ومدى حاجتنا إليها) بغرض تسويقها لا أكثر. وإنما السعادة هي السعادة الأبيقورية المتمثلة في «القدرة على الإشباع دون طلب المزيد والمزيد» وفي «العقل اليقظ الباحث عن أسباب اختيار شيء أو تجنبه»، والذي لا يسعى خلف أشياء لم يتأكد بدقة من صدق ومدى حاجته لها، بل «يعرف الحدود التي ينبغي أن يتوقف عندها»[14] حرصًا منه على عدم استنزاف فكره وطاقاته في سعي زائف يصيب نفسه بالاضطراب وجسده بالعلل.

يرى فروم أن من يتهمون ماركس بـ «المادية» (بمعناها الأخلاقي وليس الفلسفي، هم أنفسهم من يدافعون عن واقع اجتماعي يكون فيه الدافع الأساسي للإنسان هو «ميله للربح المادي»[15]، حيث البشر محكومون «بالرغبة في الكسب المادي» أكثر من أي شيء آخر.

الرأسمالية في رأي فروم قد «امتصت» فردية الإنسان، وذلك بأن أقحمته في عملية «امتثال» دائمة للضرورة المادية (تأمين حاجاته الأساسية) التي تُسيطر على تفكيره، وتقلبات السوق التي تجعله في حالة قلق دائم على بقاء وظيفته، والإعلانات التي تُلزِمه بالاستهلاك المُفرط، حيث تُوهِمه بأنه في حاجة إلى هذا المُنتّج أو ذاك، وأن حاجته تلك ماسة، رغم أنه قد يكون في غنى عنه، ومن هنا يتضاعف قلقه إذا ما عجز عن شراء هذا المُنتَج أو ذاك، في حين يصيبه السخط عند شرائه، وذلك لأن الرغبة التي تُشعِل الإعلانات جذوتها بلا نهاية لا تشبع، وتُوهمه بأن ما يمتلكه صار باليًا، وأن الجديد وحده ما سوف يُرضيه، مما يجعل الإنسان يلهث وراء الجديد الذي يخترعه المُعلنون بلا نهاية، خاسرًا سلامه النفسي، واستقلاليته التي يُهدرها تحكم المُعلنين برغباته، وتوجيهه إلى نمط الحياة الذي يريدون، والذي قد يكون محض وهم مُخادع تنقله الصور، لكنه يخدم مصالحهم الإنتاجية.

الرغبة

تأثر ماركس بالحيوية الخلاقة للرغبة في فكر سبينوزا، ومنها نظر إلى علاقات الإنسان الاجتماعية في معزل عن التسليع الذي تفرضه عليه علاقات الإنتاج الرأسمالية، فقد اعتبر أن العلاقات تصبح «إنسانية حين يمكن تبادل الحب بالحب، والثقة بالثقة»، تلك العواطف التي يعدها ماركس «قوة الإنسان الجوهرية»، والتي من شأنها، بعيدًا عن اللهث وراء السلع الاستهلاكية، إشباع رغبة الإنسان وإثراء حياته بأن تمنحها الدفء، ذلك الدفء الذي يشعر به الإنسان حين يمس الحب قلبه، أو يشعر بثقة صديقه.



من هنا تأتي أهمية إقامة علاقات إنسانية مع الآخر، لأنه كلما فعل الإنسان ذلك، فإنه يكتسب المصداقية لوجوده والقيمة لذاته، ومن ثم يُحققها.

يرى ماركس بأن «كل واحدة من علاقاتك كإنسان مع الآخرين، ينبغي أن تكون تعبيرًا خاصًا متوافقًا مع موضوع إرادتك» فإذا كان موضوع إرادتك هو أن تنال حب شخص ما، فإنه ينبغي على ذاتك أن تتوافق مع ذلك الموضوع أولًا بأن «تعبر عن نفسك كشخص مُحِب» ذلك التعبير الذي يطابق حيوية الرغبة السبينوزية، وفيه نجد توافقًا بين المنفعة الشخصية، ومنفعة الآخر، لأن منفعتك: «رغبتك في أن تصير محبوبًا» يلازمها «بذل مشاعرك في سبيل الآخر» التي ينال بها أيضًا منفعته ضمن علاقة إنسانية قائمة على تبادلية لا تستنزف حيويتنا الخلاقة (عواطفنا) بقدر ما تغذيها، كما تنفي الجهل المُشاع بشأن نظرة ماركس للحب باعتباره علاقة متكافئة حسابيًا، يُمسك كل طرف فيها بآلة حاسبة يعد فيها مشاعر الآخر أولًا حتى يقرر كم سيمنحه من مشاعره، فقد رأى ماركس العكس كما سبق القول، وهو أن تعبيرك عن نفسك كشخص مُحِب (منح مشاعرك) يسبق اكتسابك لحب الآخر لك.

لقد رأى أن الحب عمومًا هو «الذي يجعل الإنسان يؤمن في حقيقة العالم الموضوعي خارج ذاته» ممثلًا في وجود من يُحب، أي أنه أكثر ما يمنح العالم الخارجي «الموضوعي» مصداقية وجودية بالنسبة للذات الإنسانية، مصداقية تجعلها تشعر بقوة ورسوخ وجودها (أي الذات) فيه، مما يمنحها القيمة والمعنى. وبالتالي، تعجز الذات عن نيل تلك المصداقية والقيمة عند دخولها في علاقات غير إنسانية (سِلعية وزبونية) مع العالم الخارجي ممثلًا في الآخر.

من هنا تأتي أهمية إقامة علاقات إنسانية مع الآخر، لأنه كلما فعل الإنسان ذلك، فإنه يكتسب المصداقية لوجوده والقيمة لذاته، ومن ثم يُحققها. في حين أن نمط الإنتاج الحالي يعوق ذلك التحقق، وذلك لأنه يُجبر المرء على خوض علاقات لا-إنسانية، يرى الآخرون خلالها كسلع، واغتراب يسلبه القدرة على الوصول إلى فعل ما يُحبه حقًا، ذلك الشيء الذي يراه ضروريًا لإشباع روحه، وليس ما تفرضه الحاجة المادية. فقد عارض ماركس الاغتراب (كما شرحنا أعلاه) على أساس أنه يمنع الفرد من تحقيق رغباته الحقيقية، والتي يراها الفرد ضرورية لإشباع روحه، ومطبقًا ذلك على نفسه يقول ماركس: «إن وجود ما أحبه حقًا، يتم شعوره من قبلي، كضرورة، كحاجة، دونها لا يمكن لجوهري أن يتحقق، ويُشبَع ويكتمل».

ولسخرية القدر، فقد قصد ماركس بحاجته الجوهرية تلك تحديدًا: حرية الصحافة التي كان مُدافعًا صلبًا عنها، والتي قُمعت كثيرًا باسمه.


المراجع



  1. مفهوم الإنسان عند ماركس، إريك فروم. ترجمة: محمد سيد رصاص، ص28.
  2. روح الشرائع، مونتسكيو، ترجمة: عادل زعيتر، الفصل الثاني، ص52.
  3. الأيديولوجيا الألمانية، كارل ماركس وفريدريك إنجلز. دار التنوير، ص25.
  4. فروم، ص18.
  5. رأس المال، المُجلَد الأول، ص708.
  6. فروم، ص64.
  7. مخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية، كارل ماركس. ص99.
  8. فروم، ص67.
  9. المخطوطات الاقتصادية والفلسفية، ص140.
  10. Ibid, 144.
  11. فروم، ص54.
  12. فروم، ص57.
  13. المخطوطات الاقتصادية والفلسفية، ص107.
  14. الفلسفة اليونانية بعد أفلاطون، د.مصطفى النشار. دار الثقافة العربية.