في عام 300م

*

، فرغ الحكيم بيدبا، رأس البراهمة في الهند

[1]

، بعدما حبَسَ نفسه عامًا بصحبة تلميذه الأثير، من وَضْع كتابٍ أمَرَه بكتابته الملك دبشليم عقب تخلّيه عن ظلم الرعية بناءً على نصائح حكيمه، وأراد مؤلفًا «يكون ظاهرُه سياسة العامة وتأديبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية»، وخرَجَ من تحت يديه بشكل متفرد، فـ «جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير، ليكون ظاهره لهوًا للخواص والعوام، وباطنه رياضةً لعقول الخاصة».

بلغ من سعادة الحاكم بالكتاب أن كرّم الحكيم البراهمي في حفل ضخم حضره الناس من أقاصي الهند، وأمَر بعدها بأن يُحفظ في مكتبته الخاصة، وألا يخرج منها مهما حدث، وكان هذا هو الأصل الأول لأحد أعظم كتب الأدب العالمي سمّاه صاحبه الأصلي «پنچاتنترا» (كلمة سنسكريتية تعني الفصول الخمسة)، إلا أنه اشتهر في كافة أصقاع الأرض بلقب النسخة العربية منه «كليلة ودمنة»

[2]

.


إلى حضارة فارس

إذا كانت كل ترجمة تنطوي على خيانة؛ بمعنى خسارة أسلوبية ومعنوية، فإن الترجمة عن لغة وسيطة تنطوي بالضرورة على خيانة مضاعفة.





عبده عبود، أستاذ الأدب والترجمة السوري

على الرغم من حذر الحكيم بألا يبلغ أمر كتابه العُمدة أهل فارس، إلا أنه وصلهم، وما إن علم ملكهم كسرى أنوشروان (531-571م) بشأنه حتى بعث بـ «بروزيه»، رأس أطبائه، الرجل «كامل العقل والأدب، ذي الحسب والصناعة الشريفة»، إلى الهند حيث «تلطّف وأخرجه من البلاد، وأقره في خزائن فارس».

وعندما سلّم بروزيه الكتاب لملكه، سعِدَ به الملك وأمر أن تُفتح له «خزائن اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة» يأخذ منها ما يشاء، إلا أن بروزيه طمع فيما هو أكبر؛ أن يحوّل الوزير بزرجمهر الكتاب إلى اللسان الساساني، على أن يجعل على أوله بابًا يصف أمر الطبيب وحاله، وبذلك يضمن أن يبقى ذِكره للأبد؛ وهو ما استجاب له كِسرى ونفّذه له آمره. كتبه وأتمّه بلغته الفهلوية (إحدى لغات الفرس القديمة) وسط احتفاء ملكي به.

خرجت النسخة الفارسية التي أضاف لها المترجم 7 أبواب جديدة، تضمنت قصصًا هندية أخرى لها صلة بذات النسق الحكيم، فتعين تغيير العنوان لأن الكتاب زاد عن الأبواب الخمسة التي وضعها الحكيم الهندي في الأصل؛ فاختار الوزير بزرجمهر اسمًا جديدًا جاوَر فيه بين لقبي ابني آوَى: «كاريراك وداماناك»، وهما شخصيتا ابني آوى ورد ذِكرهما في النسخة الأصلية كبطلين للفصل المعنوْن «الأسد والثور»

[3]

، وهو الفصل الأكبر حجمًا بالكتاب.

وفي عام 570م، قام الراهب النسطوري بود بترجمة النسخة الفارسية إلى اللغة السيريانية القديمة، وكان عنوانها «كليلج ودمنج». لقد اختفت هذه الترجمة فلم يُعرف عنها خبر، وظلّت مجهولة حتى عثر الباحثون على نسخة منها كانت محفوظة بدير مدينة ماردين في الموصل، كتبها الشمّاس هرمز بن سمعان بالخط الإسطرنجيلي عام 1526م

[4]

.


«كليلة ودمنة» عربيًا

محمد رجب النجار، أستاذ الأدب العربي، عن المترجمين القدامى في الحضارة العربية

في عام 750م، وبينما كانت الخلافة العباسية في عصرها الأول تُغلظ قبضتها لتثبيت أركانها على تركة بني أمية، قامت السلطة باتخاذ إجراءات صارمة بحق كل مَن لا يثبت ولاءه للخلفاء الجُدد، وصلت إلى التصفية الجسدية بمجرد الشبهات الظنية، واندلع الصراع المرير على

الحُكم بين العلويين والعباسيين

وما نتج عنه من قتل وسفك دماء دون رحمة وشفقة.

في ظل هذه الأجواء، قرّر الأديب الفارسي المزدكي روزبة بن داذويه، الذي تخلّى عن دينه وأسلم وحمل اسم عبد الله بن المقفع (106 – 143هـ)، والناقم على أوضاع عصره، الاحتجاج على كل ما لا يروق له بأحد أبرز أشكال المعارضة السياسية ابتكارًا. انتقى ابن المقفع من تراث قومه فلكلورًا شعبيًا يصلح لأن يدسّ به كافة آرائه السياسية والاجتماعية، ولو بشكل غير مباشر، بعدما نقله إلى العربية وبثَّ فيه روحًا إسلامية وعبّاسية، وأضاف له من قريحته فصولاً تزيد على نصف الكتاب ضمن بنية قصصية مغايرة تمامًا للأصل الهندي

[5]

، فظهرت النسخة التي جابت الدنيا بأسرها من كتاب «كليلة ودمنة»، وهي النسخة ذات الخمسة عشر بابًا، وصارت هي المصدر الأصلي للمؤلَّف بعدما فُقدت الأولى وظلت الثانية طي الكتمان لمئات السنين.

صحيح أن ابن المقفع شذّب العنوان القديم للنسخة الفارسية وجعله أقرب للّسان العربي، إلا أن المتمعن يكتشف أنه أبقى عليه بالأساس ليقدّم عبره معنى مستترًا ربما يُلخص سبب ترجمة هذا الكتاب بالأساس، وهو الصراع بين الخير والشر، لأن كليلة لعبت دور الخير في قصتها فيما مثلت دمنة جانب الشر، وهو ما نجد له مثيلاً في العناوين الفرعية، وهو أمر منبعه فلسفة ابن المقفع المبنية على الثنائية الضدّية للخير والشر

[6]

، وكأنه اعتبر كتابه هذا صيحة تحذير ورسالة خيرية أخيرة لمَن يهمّه الأمر كي لا يتفاقم الشر في نفوس المتصارعين ويستولي على كل شيء.

بنى ابن المقفع كتابه على ثنائية «خطاب القوة»، المتمثل في شخصية الملك الذي يسأل النصيحة دائمًا من الحكيم ويطلبها بشكلٍ آمر، و«قوة الخطاب»، المتمثلة في الجواب الشافي الحاضر دائمًا عند الفيلسوف. وبين القوتين يدور جدال الكلمات خلال السطور، لتطرح صراعًا أعلى خارجها عن مغبة وجود تنافر بين «السُلطة» و«الحكمة»، مُظهِرًا ثمار أن يتعاونا ويتكاملا، فإن اجتمع ملك ينصت وحكيم ينصح صارا مضربًا للأمثال بين الناس.

وعلى الرغم من أن بدء قصص «كليلة ودمنة» بكلمات مبنية للمجهول مثل «زعموا أن» و«قيل إن» يجعلها تندرج في فئة الخطاب الخرافي الذي من خلاله يشكك الكاتب بنفسه في صدق ما يحكيه، شأنه شأن حواديت الأطفال التي تبدأ بـ «كان يا ما كان» أو «في قديم الزمان كان كذا وكذا»، إلا أن الأكيد أن قصص كليلة ودمنة ليس غرضها محاورة سبع لثور ولا قرد لغيلم، بصفتها كحيوانات، بل يتضمّن كلّ باب من أبوابها مقصدًا معينًا، وجميع حوارات الأبطال تأوي أقوالاً مضمرة ورسائل خفية، قيل إنها موجّهة للخليفة العباسي رأسًا، وهو أبو جعفر المنصور الذي عُرف ببطشه الشديد بكل خصومه، ما يعيد للأذهان أن الكتاب وُضع بالأصل بعد صراع منتهٍ من حكيم مع ملكٍ ظالم أيضًا هو دبشليم، فهل حاول ابن المقفع أن يمنح لنفسه دور بيدبا؟

في جميع الأحوال، يبدو أن حيلة أديبنا بالضرب من وراء جُدر التورية لم تُفلح كثيرًا وأن رسالته المضمنة أخطأت هدفها، فرُوي أن عداءه للخليفة المنصور قد بلغه فأعوز لسفيان بن معاوية، عامله في البصرة، بقتل ابن المقفع، فأحضره سفيان وراح يقطّع أعضاءه الواحد تلو الآخر ويلقيها في فرن وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده

[7]

.


«كليلة ودمنة» يلهم العالم

كان يتفهم الفكرة الأصلية للكتاب، ثم يختزنها في ذاكرته، ويهضمها عقليًا ونفسيًا وثقافيًا، ثم يعيد إنتاجها إبداعًا عربيًا صرفًا جديدًا، ملائًما للثقافة العربية وللذوق العربي.

ويل لمن ابتلي بصحبة الملوك الذين لا ذمة لهم ولا حرمة، ولا يحبون أحدًا ولا يكرمونه إلاّ إذا طمعوا فيما عنده.





ابن المقفع، كتاب «كليلة ودمنة»

كان ابن المقفع هو أول من أنطق الحيوان في الأدب العربي. أما عالميًا، فإن ابن المقبع إن سبقه إيسوب اليوناني وفيدر اللاتيني، إلا أنه يبقى صاحب الفصل الأخير في مسرحية إنسانية أدبية راقية من 3 فصول متتابعة الزمن، متباينة الجنس، انتهت بأن تقدّم لنا أحد أشهر الكتب في الوجدان البشري.

تقول نفّوسة زكريا في كتابها «

خرافات لافونتين في الأدب العربي

»، إن عمل ابن المقفع أحدث انتعاشًا في فن الحكاية المروية على ألسنة الحيوانات، وبفضله التفت الأدباء إلى هذا النوع من القصص، ومنهم من نظم الكتاب شعرًا، وقد بدأ ذلك الشاعر البصري أبان بن عبد الحميد بن لاحق الذي اتصل بالبرامكة ونظم لهم الكتاب في نحو أربعة عشر ألف بيت، ومن بعده تعددت المحاولات على أيدي علي بن داوود وبشر بن المعتمر وأبي المكارم أسعد بن خاطر، وقد ضاعت هذه المنظومات ولم يصلنا منها إلا القليل.

ويكفي ابن المقفع فخرًا أن أربعة من أشهر عمالقة الأدب العربي اعترفوا بأنهم تأثروا بشدة بأدب ابن المقفع، هم: الجاحظ، والمتنبي، والفارابي، وابن سينا

[8]

.

ظهر «كليلة ودمنة» إلى النور بأكثر من 70 لغة، أشهرها: الفارسية، والسريانية، والبيزنطية، واللاتينية، والعبرية، والإسبانية، والقشتالية، والإيطالية، والتركية، والأرمينية، وغيرها؛ فيما اعترف الأديب الفرنسي الشهير لافونتين بأنه اطّلع على النسخة المترجمة من الكتاب بلغته فهام بها، وكتب مجموعات شعرية كاملة على ألسنة الحيوان اقتبس فيها نحو 20 حكاية من «كليلة ودمنة»

[9]

.



*

تاريخ وضع الكتاب مختلف عليه حتى بين باحثي الآداب أنفسهم، قيل 300 ميلاديًا، وزعم آخرون أنه 400 م. تباينت الأقوال دون الوصول لرأي راجح، إلا أن الكتاب وُضع بلا شك بين عامي 200-500 ميلاديًا.


المراجع



  1. عبدالله بن المقفع: «كليلة ودمنة» (المطبعة الأميرية ببولاق – القاهرة، 1937).

  2. كاظم سعد الدين: حكايات جاتاكا والأصول الهندية لكليلة ودمنة.

  3. حبّي حكيمة: السياق التداولي في كليلة ودمنة لابن المقفع، رسالة ماجستير مقدمة لجامعة «مولود معمري» بالجزائر.

  4. صلاح كزّازة: «كليلة ودمنة في الترجمتين السريانية القديمة والعربية»

  5. محمد رجب النجار: «النثر العربي القديم من الشفاهية إلى الكتابية».
  6. حبّي حكيمة: مصدر سابق (3)
  7. عمر فرّوخ، «ابن المقفّع وكتاب كليلة ودمنة» (مكتبة منيمنة – بيروت، الطبعة الثانية 1368هـ – 1949م).
  8. المصدالسابق

  9. بلعلة أمينة: «القصة على لسان الحيوان بين الأدب العربي والغربي: لافونتين نموذجًا»، رسالة ماجستير مقدمة لجامعة عبدالحميد بن باديس بالجزائر.