في 13 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1988، حصل الأديب المصري «نجيب محفوظ» على جائزة نوبل في الأدب. وفي 13 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 تدور جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية التونسية. حصل محفوظ على أهم تكريمٍ في حياته، وقيس سعيد يكاد يحصل على أهم منصب في حياته. يجمع بين الاثنين حب اللغة العربية والطموح، ويفرّقهما مجال العمل. يقول محفوظ في رواية الحرافيش «لا تجزع، فقد ينفتح الباب ذات يوم تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة».

هكذا توشك أبواب الرئاسة التونسية أن تنفتح لمترشح بلا خبرة في المجال السياسي وبلا أموال انتخابية ولا فريقٍ محترف لحملته الانتخابية، فأما عن خبرة السياسة فـ

قيس سعيد

، المولود في فبراير/ شباط عام 1958، عمل طوال حياته أستاذًا للقانون الدستوري، وعُرف في المقام الأول بمشاركته في الفصل في الإشكاليات القانونية أثناء كتابة الدستور التونسي بعد الثورة.

أما الأموال الانتخابية فقد

رفض المنحة

التي تمنحها الدولة للمترشحين لأنها أموال الشعب، قرر أن يخوض حملته بتمويلٍ شخصي يمكن وصفه بالبسيط، ولأن التمويل ذاتي فلا يمكن الاستعانة بفريق محترف لإدارة الحملة. اعتمد سعيد على مجموعة من الشباب المتطوعين، معظمهم طلّابه في الجامعة، ورفض الحصول على أي تمويل من أي جهة رسمية أو غير رسمية، السبب رغبته في الاستقلالية وأن لا يكون رهين أي جهة ماليًا أو سياسيًا، لنفس السبب أيضًا أعلن أنه لن يتحالف مع أي حزب سياسي.

يجب أن يستبطن الفرد احترام القانون، لا أن يكون مُجبَرًا على طاعته.





قيس سعيد

أنهى دراسته للقانون الدولي في كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس عام 1985، بعدها بعامٍ واحد حصل على دبلوم الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري. عُين على إثرهم مدرسًا للقانون بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية بجامعة سوسة، ثم تولى رئاسة القسم حتى عام 1999. شغل كذلك عدة مناصب في المنظمات العربية على رأسهم جامعة الدول العربية، فكان خبيرًا قانونيًا في جامعة الدول العربية والمعهد العربي لحقوق الإنسان. اشتغل في الفريق المُكلّف بإعادة كتابة ميثاق جامعة الدول العربية عام 1990، ثم دُعي عام 2014 ضمن لجنة الخبراء لإبداء تعليقاتهم على مشروع الدستور التونسي الجديد عام 2014.

اقرأ أيضًا: ربيع تونس:

دليلك لفهم الانتخابات التونسية

ثم إنجازه الأكبر في 15 سبتمبر/ أيلول 2019 بالحصول على

المركز الأول

في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية، وانتقاله لجولة الإعادة مع نبيل القروي، مرشح حزب قلب تونس. تلك المفاجأة غير المتوقعة سلطت الضوء على ما قام به في الخفاء، مثل الاستدانة من ذويه ليُكمل وديعة قدرها 100 ألف دينار من أجل التسجيل في القائمة النهائية للمرشحين، كما سلطت الضوء على نزاهة زوجته كذلك، السيدة إشراف شبيل، القاضية والمستشارة بمحكمة الاستئناف، ووكيل رئيس المحكمة الابتدائية في تونس، وأم ابنتيّ قيس سعيد وولده.

الشعب يريد


حديث قيس سعيد عن حملته الانتخابية

تحت شعارٍ شديد الثورية قرر سعيد أن يخوض مغامرته الانتخابية، الشعب يريد، كان من الممكن أن يكون الشعار سببًا للسخرية من المُترشح لو كان ممن ثار عليهم الشعب سابقًا، لكن الشعب التونسي استقبل الشعار وصاحبه بترحاب شديد ومنحوه لقب رجل «الصرامة والنظافة». هو

ابن الطبقة المتوسطة

مثلهم، أب موظف وأم ربة منزل، يخبرهم أنه خاض الانتخابات مُكرهًا، وأنّه غير مدعوم من أي حزب لأن زمن الأحزاب أفلس وولى.

يبهرهم بإتقانه للغة العربية وما يتبعها من مواقف محافظة من الأحداث المحلية والدولية. ظهور زوجته برفقته في الأيام الأخيرة مرتديةً ملابس عصرية وبشعرٍ قصيرٍ أضاع على منافسيه فرصة اتهامه بالتطرف الفكري أو التشدد الإسلامي، يلقبه أنصاره بالأستاذ احترامًا له، غير أنّه لم يحصل على الدكتوراه، ويروي طلبته عنه أنّه يخلص للصورة التقليدية للأستاذ الجامعي، صارم ومستقيم ونادرًا ما يبتسم.

صرامته الشديدة جعلت منه رجلًا غامضًا لا تتوفر حوله الكثير من المعلومات، ولا تظهر له الكثير من المواقف السياسية. إلا أن شعاره يتسق مع العديد من مقاطع الفيديو التي غزت وسائل التواصل الاجتماعي منذ أعلن ترشحه، في تلك المقاطع يدافع الرجل بشراسة عن ضرورة أن يكون القرار لا مركزيّ، وأن تتوزع السلطة على الجهات المختلفة، فهو يدعو بتعين مجالس جهوية، ثم تختار تلك المجالس ممثلين لها، ليتواصل الممثلون مع السلطة الحاكمة لضمان وصول صوت المواطن العادي لأعلى منصب سياديّ في البلاد.

أنا لا أبيع الوهم للشعب التونسي، برنامجي الذي أعلنته واضحًا، الشعب هو مصدر السلطات، والدستور يجب أن يكون قاعديًا ولا توجد ما تسمى دولة مدنية ولا دينية.





قيس سعيد

المُتدوال عنه أنه مُحافظ، غير أنّه لم يصنف نفسه ولم يستطع أحد أنه يحصره في خانة المُحافظ الإسلامي أو اليساري، فهو لا ينطلق في آرائه المتحفظة من مرجعيات دينية أو عقائدية. كما

قال عنه أستاذه

، عياض بن عاشور، أنّه محافظ جدًا لكن ليس إسلاميًا. كما أنّه لا يقدم آراءه الشخصية في قضايا تتعلق بسياسات الدولة، وهو ما أكدّه سعيد بعد نتائج الجولة الأولى بأنه لا رجوع عن المكتسبات في مجال الحريات والحقوق، لكن المخاوف الليبرالية واليسارية تصاعدت بعد تغريدة له يعد الشعب بالعمل على شاكلة الفاروق عُمر بن الخطاب.


سعيد

يعارض المثلية

الجنسية، أيضًا أكد رفضه لمقترح المساواة في الميراث بين الإناث والذكور، فتلك القضية بالذات أعلن سعيد أنه لا مجال فيها للتأويل أو الاجتهاد، فالنص القرآني واضح، يمكن أن نُفسر ذلك الموقف بصورة سياسيةٍ أكثر. في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2018، اجتمع سعيد مع رضا بلحاج، ممثل حزب التحرير، التحرير معروف بأنه كيان سلفي متشدد.

الصورة أثارت مخاوف من أن يكون سعيد قد أقنع الحزب بالاصطفاف خلفه في الانتخابات مقابل مكاسب ما يحصلون عليها حال فوزه، وحين انتُقد على هذا اللقاء ردّ بصرامة قائلًا «من المفروض أن أطلب الترخيص قبل مقابلة أي شخص؟ في النهاية، لم ألتقِ شخصًا خارجًا على القانون».

لم يكن معارضًا


برنامج اسأل الرئيس مع قيس سعيد

المناصب التي حصل عليها قيس سعيد، والتي تعتبر ذخيرته وتملأ

سيرته الذاتية

، حصل عليها في عهد الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين، ما يثير التساؤل حول علاقته بدائرة صنع القرار والسلطة الحاكمة وقتها. كان سعيد صريحًا في الحديث حول تلك النقطة، إذ ذكر أنه لم يكن معارضًا لابن علي بالشكل المُتعارف عليه للثورة أو المعارضة، لكنّه أكد رفضه للعديد من المناصب العليا في عهده مثل مستشار للرئيس ورئيس ديوان رئيس الجمهورية. يضيف قائلًا بأنه قال لا، قال لا يوم كان العديد من الذين يدّعون الثورية اليوم يتمنون الاقتراب من دائرة القرار.

الحياد، تبدو هي الكلمة الأقرب لوصف قيس سعيد حتى الآن، الحياد مع الجميع ومع كل شيء، حتى مع خضمه نبيل القروي حين طالب سعيد بإخراجه من السجن لتصبح المعركة أخلاقية. كما يمارس سعيد حياده مع رجال النظام السابق، فقد عرض التصالح مع أكثر من 460 رجل أعمال متهمين بالفساد، على أن يتم استغلال هذا التصالح لتطوير المناطق الأشد فقرًا في تونس. لمحة كهذه هي التي تخبرنا بكيف سيحكم سعيد وينفذ رؤيته، لكن بخلاف تلك المواقف المتفرقة فلم يخبر سعيد الشعب التونسي بتفاصيل برنامجه الانتخابي. معظم ما قاله في لقاءاته يدور في فلك ضرورة إصدار تشريعات جديدة.


هو يرى أن الاقتصاد لن يتحسن، والبطالة لن تُحل، إلا إذا أصدرت الدولة مبادرات تشريعية جديدة. كما أنّه على تونس أن تسترجع مكانتها الاقتصادية وفاعليتها الاجتماعية، دون أن يوضح التشريعات التي تحتاجها تونس في الفترة الراهنة، ولا إستراتيجيته لتستعيد تونس مكانتها الاقتصادية والاجتماعية. فقط المعروف عنه بشكل مؤكد أنّه يفضل التواصل المباشر مع الناخبين، عبر العديد من الزيارات المباشرة التي أجراها للأسواق والأحياء الشعبية ليناقش مع التونسيين مشاكلهم وجهًا لوجه.

أيضًا يعد بالتقشف حال الفوز، يبدأ بنفسه ثم النواب، فأعلن أنّه سينقل عمله إلى بيته كأي موظف عمومي، ويتخلى كذلك عن مظاهر الترف والرفاهيات المحيطة بالرئيس.

لا حياد في الخارج


الحياد الذي يتبناه سعيد في الداخل ليس هو ذاته في الخارج، الرجل أعلن

انحيازه الصريح

للربيع العربي، وشددّ على أهمية وحدة المغرب العربي، فأول زيارة خارجية له ستكون إلى الجزائر؛ أما جامعة الدول العربية التي عمل بها طويلًا، فقد وصفها بلغته المُنمقة بأنها كيان يمتلك حصانة ضد الموت، لكنّه أيضًا يمتلك مناعة ضد التقدم.

نظرته للاتحاد الأوروبي لا تختلف كثيرًا،

فهو يراه

كيانًا لا يمتلك أفضليةً على تونس، إنما يحتاج الاتحاد لتونس كما تحتاج تونس إليه، مصالح مشتركة واحتياج متبادل، ويرفض أن يكون التدخل الأجنبي سواءً ماديًا أو سياسيًا عامل ضغط لتوجيه الشعب التونسي.

أما فلسطين فموقفه فيها لا يمكن إخطاؤه أو تفسيره بأي صورة غير الدعم الكامل للقضية الفلسطينية، فهو يهاجم الاحتلال الإسرائيلي صراحةً، ويعتبر التعامل معه خيانة عظمى. وفي مناظرته مع منافسه القروي، أعلن أنه لا يقبل كلمة تطبيع شكلًا أو موضوعًا؛ لأن الكلمة في رأيه خاطئة، إذ إن الطبيعي أن تكون إسرائيل عدوًا والتعامل معها خيانة وليس عودةً للطبيعي.

على الرغم من أنه يعتبر فلسطين قضيةً محورية لتونس وللمنطقة العربية بأسرها، فإنه يرفض التدخل في أي صراع آخر يدور في المنطقة مثل اليمن، ليبيا، وسوريا.

تعددت التحليلات وراء بزوغ نجم قيس سعيد، لكن التصريحات المختلفة للمواطن التونسي العادي اتفقت أن السبب هو الكُفر بالنخب القائمة حاليًا، وأن سعيد يعد محاولةً مختلفةً يريد الشعب التونسي خوضها، علّها تنجح فيما فشل فيه السابقون، لكنّ الواقع لا يكون دائمًا بالرومانسية التي صورّها نجيب محفوظ، فالباب قد لا ينفتح أبدًا، وإذا انفتح فيُمكن أن ينغلق بقوة في وجه صاحبه.

اقرأ أيضًا:

ربيع تونس: كيف نفهم نتائج الانتخابات التونسية الأخيرة؟

وهو ما يمكن أن يحدث في حالة رئيس يعد بديموقراطية، لكنه لا يمتلك ظهيرًا حزبيًا قويًا، ويعتمد على براءته وطموحه فحسب، خاصةً والدستور التونسي يُحد من صلاحيات رئيس الجمهورية ويمنح سلطات أوسع لرئيس الوزراء الذي يختاره البرلمان المنتخب. وفي غياب التحالفات الكافية بين الرئيس والبرلمان لتمرير ما يراه الرئيس، فقد يكون البرلمان عائقًا شديد الخطورة أمام كل طموحات وخطط الرئيس، لتبقى الأيام القادمة هي الكاشفة عما سيصبح عليه الرجل الصارم صاحب اللهجة القاطعة، وكيف يستطيع احتواء الاختلاف الذي يملأ الشارع التونسي؟ وكيف سيسبح الرجل الأخلاقي في محيط السياسة العالمية شديدة التعقيد واللا أخلاقية؟