بالنظر إلى تاريخ علم الفلك، يصعب للوهلة الأولى التصديق بأن هناك المزيد مما لا نعرفه عن الأرض ومدارها. على مدار السنين تمت دراسة حركات الأرض وتاريخها الفيزيائي وحتى مجالها المغناطيسي المتقلب، وبدا لنا أن المدار الأرضي الدائري قد أصبح معرفة عامة بكل تفاصيله وحيوده.

لكن في

دراسة

نشرها علماء من جامعة روتجرز-نيوبرونزويك بولاية نيوجيرسي الأمريكية في دورية «the Proceedings of the National Academy of Sciences»، تمكن الباحثون من إيجاد تغير في مدار الأرض يتكرر كل ما يقرب من نصف مليون عام بدقة شديدة ومنذ مئات الملايين من السنين. هل يمكن أن يفسر هذا التغير أحداثًا من تاريخ الأرض العميق كما حاول ميلانكوفيتش بواسطة حلقاته؟



شد وجذب

تصنع الأرض يقترب من كونه دائرة تكاد تكون مستديرة إلى حد كبير في دورانها حول الشمس. وما وجده العلماء في روتجرز مبكرا هذا الشهر هو أن مدار الأرض يتحول من دائري إلى بيضاوي بنسبة 5% كل 405000 عام، النمط الذي يتكرر بدقة مدهشة تجعل منه علامة هامة عند قياس التغييرات التي تنتاب مناخ الكوكب في وقت حدوثها.

يعود السبب في هذا الحيود عن المدار إلى التأثير المزدوج لكوكبي الزهرة والمشتري، حيث تؤثر جاذبية الكوكبين على الأرض بشكل متراكب مؤدية إلى مط مدار الأرض قليلا. تتكرر هذه الدورة بأسلوب مستقر وثابت من قبل عصر ظهور الديناصورات وحتى الآن. كانت الأرقام بالطبع تشير لمثل هذه التكرارية إلا أن علماء روتجرز قد تمكنوا من إيجاد أول دليل مادي عليها في صحراء أريزونا.

يتميز البحث الجديد بقدرته على توفير مواقيت دقيقة لأحداث الحقبة الترياسية، والتي شهدت تكسير قارة بانجيا العظمى وبداية ابتعاد القارات الناشئة عن بعضها مكونة المحيط الأطلنطي. لم تتوافر أي طبقات بركانية لتساعد على تحديد عمر الصخور إلا أن تقنية تحديد الزمن من انعكاسات الأقطاب (علامات في الصخور تبين كيف انعكس المجال المغناطيسي للأرض) قد أمدتهم بكل المعلومات المطلوبة.


نشوء وانقراض

في الدورية ذاتها وبعد عدة أيام، نشرت

دراسة

جديدة بالتعاون بين علماء من الولايات المتحدة ونيوزيلاندا لتسلط المزيد من الضوء على العلاقة بين مدار الأرض وتقلباته، وبين تطور الحياة. بعد دراسة 1,794 حفرية من «العوالق – Zooplanktons» استطاع الباحثون إيجاد تناسق كبير بين الأحداث الفلكية التي عاشتها الأرض، وتأثر بها المدار ومعدل ظهور وانقراض مختلف السلالات من صور الحياة البدائية في الماء على الأرض كالعوالق.


بالطبع من المنتظر إيجاد المزيد من نقاط التماس بين تاريخ تطور كائنات أخرى أكثر تعقدًا والتغييرات التي عاشها الكوكب الأزرق أثناء دورانه في فلكه، إلا أن العلاقة بين ما يحدث في الفضاء وما يحدث على الأرض باتت حقيقية بالنسبة لتطور الأحياء أكثر من أي وقت مضى. يضعنا هذا على أعتاب سؤال هام. كيف للمدار أن يؤثر على الحياة على الأرض أو على المناخ؟ وما هي العوامل التي تتغير بتغير وضع الأرض بالنسبة للشمس؟


اقتراب وابتعاد

يأتي تباين «النشاط الشمسي – Solar variability» على قمة

التغيرات التي تملك تأثيرا مباشرا على مناخ كوكبنا

. تؤدي تغيرات بلازما الشمس وتذبذب مجالها المغناطيسي إلى تغير في الطاقة المنبعثة منها، وبالتالي في كمية الطاقة التي تصلنا منها على الأرض.

على الجانب الاّخر فإن اقتراب الأرض وابتعادها عن الشمس يؤدي لتأثير مماثل من ناحية التأثر بالنشاط الشمسي. ومن هنا يتأتى لنا فهم كيف لاستطالة المدار الناتج عن كوكبي الزهرة والمشتري أن يؤثر على مناخ الأرض.


ليس هذا فقط، إن أكثر التغيرات خفة في نسب الغازات المكونة للغلاف الجوي الأرضي لديها قدرات مهولة على إحداث اّثار بالغة الخطورة. في أكثر الأمثلة وضوحًا على قدرة غازات الغلاف الجوي – التي تتأثر بموضع الأرض من الشمس من حيث سرعة الهروب – على التحكم في الكوكب، نجد أنه مع لمعان الشمس المتزايد، بدا أن الأرض تصبح أقل حرارة.

كيف يمكن لهذا أن يحدث؟

تكمن الإجابة في مستويات غازات الصوبة في الغلاف الجوي، تلك التي كانت قادرة على صنع جحيم حراري من الطاقة المتوفرة من الشمس. ما أن انخفضت مستويات هذه الغازات (بالمقارنة بالأرض حديثة السن) حتى انخفضت الحرارة واستقرت على الرغم من ازدياد الطاقة التي تصل إلينا من الشمس. لقد انقلب المشهد تمامًا.

تعطينا هذه الأبحاث الجديدة فكرة عما سوف يتجه إليه مصير الأرض في المستقبل. لقد مر مائتا ألف عام على نهاية اّخر دورة، فما الذي سوف تشهده نهاية الدورة القادمة بعد مائتي ألف سنة أخرى؟ هل سنكون قد قضينا على الأرض حراريًا بأنفسنا من جراء استهتارنا بأبحاث المناخ؟