تخيل أنك تمشي في أحد ممرات المعارض العلمية ليستوقفك باب مهيب كتب فوقه بخط عريض «صالة الخلود»، افتح الباب لتجد أمامك حوضًا صغيرًا بإضاءة خافتة يسبح بداخله حيوان صغير أبيض اللون لا يتعدى طوله 30 سم. راقب حركته البطيئة وجسده النحيل ورأسه الممدود بلا عينين كبيرتين كعينيك الفضولية، وسرعان ما ستحكم بأنه حيوان بدائي لا يستحق الاهتمام. إلا أن ذلك السمندل الأعمى يخفي سرًا عظيمًا، لقد تجاوز عمره قرنًا من الزمن وما زال بصحة جيدة، وهو

عمر طويل جدًا

لحيوان صغير مثله.

وإذا نظرت خلفك قد تلحظ السلحفاة الصندوقية الشرقية وهي تحدق إليك بعينيها الحمراوين المخيفة، تلك السلحفاة قد تعيش لتحدق إلى أحفادك بنفس النظرة، فقد يصل مدى عمرها إلى 150 سنة.

تقدم قليلاً بين الممرات المهيبة لصالة الخلود وهناك إلى جانبك الأيمن دقق النظر، سيبدو الحوض خاليا إلا من صدفة محار سوداء في إحدى الزوايا، يسكنها جسد رخوي يقوى على مجابهة صعوبات الحياة لما يزيد على 500 سنة!

بينما تهم بالرحيل وأنت تضع يديك على رأسك بعد أن صعقك الذهول مما رأيت، تريث قليلاً فهناك المزيد. اتجه نحو تلك الأضواء الزرقاء في زاوية المعرض، لترى رخويًا آخر صغير الحجم بمجسات عديدة يسبح متألقًا بانسيابية فائقة، وقد كتب أسفله «نظريًا قنديل البحر هذا يستطيع

أن يعيش إلى الأبد»

!

للمفارقة قد تتركك رحلتك إلى صالة الخلود بتذكرة حزينة، وهي أنك فانٍ عاجلاً أم آجلاً، التذكرة المؤلمة ذاتها التي دفعت

جلجامش

في الأسطورة السامرية الشهيرة إلى بدأ رحلته بحثا عن الخلود، ليكلل جهده بعد رحلة طويلة بالعثور على نبتة الخلود في أعماق المحيط. إلا أنه يهوي من التعب فور وصوله إلى السطح، ليشهد بعد قيامه من غفوته، أفعى تنسل من جلدها بعد أن أكلت نبتة الخلود، لتحصل على قدرة التجدد التي تمناها.

إلا أن

علماء الشيخوخة

يرصدون لنا الآن أمثلة أكثر إذهالاً من الأفاعي التي لا يتجاوز متوسط أعمارها عقودًا قليلة. وبالنسبة لعلماء الأحياء فإن مفهوم «الخلود» لا يعنى حياة بلا موت، بل موتًا بلا شيخوخة، ومن خلال دراسة الحيوانات التي تشيخ ببطء أو لا تشيخ مطلقًا، يحاول العلماء الوصول إلى علاج يحول دون تدهور صحتنا السريع في الفصل الأخير من عمرنا أو مرحلة الشيخوخة.

اقرأ أيضا:

سؤال «الشيخوخة» القديم الحديث ومحاولات جوجل للإجابة عنه


انقسام لا مقيد


http://gty.im/905453

يختلف مفهوم الخلود حسب تعريفنا له، كما أنه لا توجد آلية واحدة تستخدمها الكائنات المعمرة في مواجهة الشيخوخة، ولنبدأ بأبسط الأمثلة ولنقل أصغرها على الإطلاق، فهي أصغر بكثير من النقطة في آخر هذا السطر.

لابد أنك خمنت أننا نتحدث عن البكتيريا، حيث ينظر البعض إليها على أنها خالدة، فتحت الظروف المناسبة يمكن لخلية بكتيرية واحدة أن تنقسم كل 20 دقيقة بشكل غير مقيد، دون أن تظهر عليها علامات شيخوخة واضحة، فما هو السر خلف حيوية البكتيريا الدائمة؟

السبب الأول يتعلق بشكل وطبيعة كروموسوم خلايا البكتيريا، ولتوضيح تفرد كروموسوم الخلايا البكتيرية يجدر بنا مقارنتها مع الكروموسات التي توجد بداخل نواة كل خلايا الإنسان تقريبًا.

تمتلك البكتيريا كروموسومًا وحيدًا دائريًا مغلقًا، بينما تحتوي كل خلية في أجسادنا على 46 كروموسومًا خطيًا غير دائري. ويغطي طرف كل كروموسوم في الخلايا البشرية تركيب متميز يعرف بالتيلومير Telomere، ورغم خلوه من أي جينات فعالة إلا أنه يلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على مادتنا الوراثية.

خلال كل انقسام خلوي يقصر طول التيلومير حاميًا بذلك بقية المادة الوراثية التي تحوي المعلومات المهمة. بعد عدة انقسامات يصل التيلومير إلى طول حرج لتفقد الخلية قدرتها على الانقسام وتدخل فما يعرف بالشيخوخة الخلوية، يحدث ذلك عادة بعد قرابة 50 انقسامًا خلويًا، أما بالنسبة للبكتيريا فإن تركيب كروموسومها الدائري يحميها من فشل الآلية الخلوية في نسخ الأطراف أو النهايات، ليمنحها القدرة على انقسام لا نهائي.

إلا أن القدرة على الانقسام المستمر دون تآكل المادة الوراثية لا يكف لمجابهة الشيخوخة، فخلايا الأعصاب لدينا والتي قد لا تنقسم مطلقًا تشيخ نتيجة لتراكم الأضرار الخلوية مع الزمن، وهنا تظهر البكتيريا سرها الحقيقي للحفاظ على الحيوية مع مرور الزمن.


كشفت دراسة

تعود إلى عام 2011 أن البكتيريا الأم خلال عملية الانقسام تمنح إحدى بناتها معظم الضرر الخلوي، بينما تحظى الأخرى بالمكونات السليمة، لتستمر في عملية انقسامها الخالدة.

وفي أجسامنا أيضًا يمكن أن تنشأ سلالة من الخلايا الخالدة كما يسميها العلماء، لكن لا تتحمس كثيرًا فتلك الخلايا الخالدة هي المسببة لأحد أكثر أمراض الشيخوخة فتكًا، وهو مرض السرطان.

وكالبكتيريا تستطيع أغلب الخلايا السرطانية القيام بانقسام لا محدود، ويساعدها على ذلك قدرتها على تجديد أطراف الكروموسومات أو التيلوميرات عن طريق تنشيط جين إنزيم يقوم بعملية تجديد التيلوميرات مرارًا و تكرارًا، وهو إنزيم التيلوميريز، في حين أن الجين يبقى صامتًا في الخلايا الطبيعية، كما

تشير بعض الدراسات

إلى أن خلايا السرطان كخلايا البكتيريا تنشط آليات تساعدها على مقاومة الضرر الخلوي، كزيادة فعالية الأنزيمات المضادة للأكسدة.


تقييد الانقسام


http://gty.im/587696501

لا يتمثل الخلود دائمًا في الانقسام غير المقيد، فبالنسبة لعديدات الخلايا يعد تقييد الانقسام ضرورة للوصول إلى مدى عمر طويل. ولنأخد مثلاً أكبر حجمًا من السابق، لنأخد أكبر الحيوانات حجمًا بعد الحوت الأزرق، وهو الحوت مقوس الرأس bowhead whale.

سجل الفيلسوف اليوناني «أرسطو» قبل قرابة 2300 سنة ملاحظته عن أن الحيوانات الأكبر حجمًا تعيش أكثر من الصغيرة، وفي حين لا نعلم كيف توصل أرسطو لاستنتاجه ذاك، إلا أنه صحيح في أغلب الأحيان.

يعيش الحوت مقوس الرأس لما يفوق قرنين من الزمان، أي أن أحد الحيتان التي تسبح في المحيط المتجمد الشمالي الآن، قد ولدت خلال الحملة الفرنسية على مصر! كما أن وزنها يقارب 100 طن.

وتندرج تلك الحيتان مع سواها من الحيوانات كبيرة الحجم طويلة العمر تحت معضلة بيولوجية تعرف «معضلة بيتو»، حيث أشار اختصاصي الأورام «ريتشارد بيتو» في سبعينيات القرن الماضي، إلى أن تلك الكائنات يفترض أن تعاني من السرطان أكثر من سواها، حيث إن زيادة الحجم تعني زيادة عدد خلايا الجسم، وزيادة عدد الخلايا وطول العمر يزيد رياضيًا من احتمالية حدوث طفرات ضارة. إلا أن العكس هو الحقيقة، وهو ما يدل في النهاية أن الحيوانات الشبيهة بحوتنا هذا قد

طورت آليات مميزة

لحمايتها ضد الأمراض وآلام الشيخوخة.

وقد دللت دراسة نشرت عام 2015 في دورية «سيل ريبورتز» على صحة توقعات بيتو، فبعد تحليل تتابع جينوم الحيتان مقوسة الرأس، عثر نسخة محورة من جينات تقوم بأدوار تخص إصلاح التلف الخلوي وتقييد الانقسام.

إلا أن تلك المزايا لا تنطبق على الحيوانات الضخمة فقط، فلقاعدة أرسطو استثناءات عديدة، أشهرها هو فأر الخلد العاري، ذلك القارض القبيح يعيش 28 عامًا بينما لا يتجاوز عمر أقربائه من الفئران 3 أعوام، كما أنه منيع كليًا ضد السرطان، حتى لو وضع في حوض مليئ بالمواد المسرطنة!


قلب ينبض لخمسة قرون

مينج المحار

عام 1503 وبينما كان الفنان الإيطالي «ليوناردو دافنشي» يعمل على لوحته الأكثر شهره «الموناليزا» أو «الجيوكاندا»، كانت لوحة فنية أخرى في بداية تشكلها تحت مياه الساحل الأيسلندي. وفي حين استغرقت لوحة دافنشي عدة عقود لتحظى بشهرتها الواسعة، كان على اللوحة المغمورة تحت المياه أن تنتظر 507 حتى يلتقطها أحدهم ويتأمل جمالها، إلا أنه لم يكن فنانًا هذه المرة بل عالمًا.


ففي عام 2006

التقط فريق بحثي بريطاني محارًا قرب سواحل أيسلندا، ومن خلال عد الحلقات السنوية المتكونة على الصدفة قدر العلماء عمر المحار بـ405، إلا أنه بعد إعادة تحليل الصدفة واستخدام التأريخ بالكربون المشع، تأكد العلماء أن عمر الرخوي الهادئ هو 507 سنوات، ليحصل على اسمه الشهير «مينج المحار»، تيمنا بالأسرة الصينية التي حكمت في فترة نشأته.

الاسم العلمي لمينج هو Arctica islandica، وهو ينتمي إلى طائفة ثنائيات الصدفة التي تتمتع بعض أصنافها بمدى عمر طويل للغاية، إلا أنه يظل أطولهم عمرًا، ويعود ذلك حسب ما توصل إليه العلماء حتى إلى قدراته المميزة في مقاومة الضغوط ونشاط آليات إصلاح التلف الخلوي لديه.

حيث توصلت

دراسة مقارنة

بين 3 أنواع من الرخويات ثنائية الصدفة بمدى عمر مختلف ضمت «Arctica islandica»، وبعد تعريضها لمواد قادرة على إحداث إجهاد تأكسدي لعضيات الميتوكوندريا ومواد مطفرة للدنا DNA، أن النوع الأطول عمر Arctica islandica سجل أعلى نقاط في قدرته على مقاومة مختلف أنواع الإجهاد وإن لم يكن الأعلى في كل منها، لتذيل الدراسة ملاحظاتها أن القدرة على مقاومة أنواع مختلفة من الإجهاد الخلوي تترابط مع مدى عمر أطول.

كما أكدت النتائج

دراسة أخرى

نشرت عام 2015 في دروية «ايج»، موضحة أن أكسدة الأحماض النووية فقط تزداد نسبيًا مع العمر في المحار المعمر، بينما حافظت البروتينات والأحماض الدهنية في المحار على ثباتها وحيوتها ولم تختلف معدلات أكسدتها الضارة من فترة عمرية إلى أخرى.


السفر عبر الزمن بيولوجيا

مينج المحار كائنات معمرة

مينج المحار كائنات معمرة


بعد قرابة 4000 سنة على رحلة جلجامش نحو الخلود، تمكن البر أخيرًا من العثور على سر الخلود المخبأ في أعماق المحيط كما أخبر الحكيم جلجامش. حين تمكنت عالمة الأحياء البحرية «كريستيان سمر» خلال رحلتها إلى إيطاليا أواخر ثمانينيات القرن الماضي من دراسته، لتسجل أنه كائن عنيد يأبى أن يموت، حيث يعود بعد وصوله البلوغ إلى مراحل عمرية مبكرة.

وضحت دراسة مفصلة نشرت عام 1996 بعنوان «عكس دورة الحياة» كيف يتمكن قنديل البحر من نوع Turritopsis nutricula، الذي حمل بعد ذلك اسمه الشهير «قنديل البحر الخالد»، من العودة في دورة حياته من البلوغ إلى مراحل سابقة، وهو ما أهداه اسمه الآخر «قنديل بنجامين بوتون» تيمنا بالفيلم الهوليودي بطولة «براد بيت»، إلا أن ما يميز القنديل الخالد أنه بإمكانه القيام بذلك مرارًا وتكرارًا.

تبدأ دورة الحياة الطبيعة للقنديل بعد التحام الجاميتات التي تكون البويضة المخصبة والتي بدورها تكون اليرقة أو البانيولا التي تهبط إلى قاع المحيط، وتنمو إلى بولب يمكن استنساخ نفسه إلى مستعمرة ضخمة ثم التحول إلى قنديل بحر بالغ أو ميدوسا ينتج الجاميتات الجنسية.

للهرب من المصير المحتوم لكل الكائنات الحية بعد انتهاء دورة حياتها،

يقوم

القنديل الخالد عند تعرضه لإجهاد من البيئة أو لإجهاد خلوي بالتحول من مرحلة الميدوسا البالغة ليعود مرة أخرى إلى بوليب يسكن قاع المحيط ويستنسخ نفسه. وفي حيت تستطيع أنواع أخرى من نفس الطائفة القيام برحلة العودة تلك في مراحل تطور البوليب، يتميز القنديل الآخر بقدرته على العودة في أي وقت حتى بعد بعد مرحلة البلوغ الجنسي التام.

وتشير الورقة البحثية إلى أن المزيد من الغرابة تكمن في سلوك خلاياه، حيث يحتوي القنديل البالغ على أنواع خلايا مختلفة تمامًا عن البوليب، فإن تحوله يعتمد على ركزيتين أساسيتين، الأولى هي الخلايا الجذعية التي باستطاعتها التحول إلى أي نوع آخر من الخلايا، والثانية هي عملية تحول الخلايا المتخصصة كخلايا العضلات مثلاً إلى خلايا من نوع آخر، يلي تلك العمليات المعقدة إعادة ترتيب وتنظيم للأنسجة

ليبدأ

القنديل حياته من جديد في رحلة عبر الزمن بيولوجيا!

وبذلك نكون قد وصلنا إلى نهاية رحلتنا إلى صالة الخلود، إلا أننا بذلك نكون قد أهملنا أحد أهم الكائنات المعمرة، وهو الذي يحدق الآن إلى الشاشة بعينين فضوليتين، نعم فنحن البشر ضمن فئة الرئيسيات أحد أطول فئات الثدييات عمرًا، كما أننا وحدنا استطعنا إطالة متوسط عمرنا المتوقع عمدًا إلى قرابة الضعف خلال 200 سنة فقط من خلال تحسين الرعاية الصحية، لدينا القدرة على أن نسأل عن ماهية الحياة والموت، ووحدك تستطيع تقدير قيمة حياتك واستغلالها كما تحب.


المراجع



  1. حياتنا ..وإن طالت!..علم دراسة طول العمر والشيخوخة

  2. The Evolution of Ageing