لم يكن يخطر ببال «جوانا ديمافيليس»، العاملة الفلبينية ذات الـ27 ربيعًا، وهي تحزم حقائبها عام 2014، مسافرة إلى الكويت للعمل في الخدمة المنزلية من أجل مساعدة والديها وإخوتها الصغار، أنها ستُقتل تعذيبًا على يد أرباب عملها، ثم ستلقى جثة هامدة في فريزر لـ 16 شهرًا إلى أن تكشف الصدفة عن مصيرها.

ولم يكن يخطر ببالها كذلك، أن حدث مقتلها البشع سيكون سببًا في فتح ملف الانتهاكات التي تتعرض لها العمالة الفلبينية في دول الخليج العربي، وخاصة دولة الكويت، ثم سيكون سببًا في توقيع اتفاقية لتحسين ظروف حياة عشرات آلاف العمال في الكويت، وربما يكون فاتحة خير على باقي زملائها الموجودين في الخليج.


حكاية جوانا

بدأت القصة عام 2014، عندما سافرت المواطنة الفلبينية جوانا ديمافيليس إلى الكويت للعمل في الخدمة المنزلية لدى اللبناني «نادر عصام عسّاف» وزوجته «منى حسون» التي تحمل الجنسية السورية. كانت أمور جوانا تبدو على ما يرام بالنسبة لأهلها بالفلبين التي كانت تتواصل معهم 3 مرات في العام

بحسب شهادتهم

.

اختفت الشابة جوانا أواخر عام 2016 دون أن تترك أثرًا، وسجل رب عملها عساف بحقها قضية تغيّب قبيل مغادرته وزوجته الكويت إلى لبنان تاركين مسكنهما المستأجر مهجورًا. نسي الجميع جوانا وبدا أنها اختفت إلى الأبد، لكن مالك الوحدة السكنية التي كان يستأجرها عساف لم ينس ما هو ملكه، فسعى للحصول على حكم من القضاء لتمكينه من المسكن، وهو ما حدث.

ظهرت جوانا من العدم الذي اعتقد الجميع أنها اختفت فيه، عندما فتحت الشرطة الكويتية المسكن المهجور من أجل تمكين مالكه منه، لكنها لم تظهر شابة مفعمة بالحياة كما كانت، بل ظهرت جثة هامدة مكومة في داخل مجمد وعلى جسدها آثار لتعذيب وحشي.

بدأت خيوط الجريمة تتكشف واحدًا تلو الآخر؛ كانت زوجة عساف السورية

منى حسون مدمنة تقريبًا

على تعذيب خادمتها جوانا في معظم الأحيان، وربما لأقل سبب. وفي إحدى المرات عذبت منى حسون العاملة جوانا بوحشية، فشعر عساف بـالقلق، فقام بوضعها في المجمدة وهي لا تزال حية، إلا أنها غائبة عن الوعي بفعل التعذيب.

هرب عساف ومنى سريعًا إلى لبنان ومنها إلى سوريا حيث استقرا في العاصمة دمشق ومضيا في حياتهما كأن شيئًا لم يكن، إلى أن اكتشفت جثة جوانا في مجمدة منزلهما، ففتحت عليهما أبواب الجحيم. طلبت السلطات الكويتية مساعدة الإنتربول الدولي

للقبض على عساف وزوجته

، وهو ما حدث في الثلث الأخير من فبراير/ شباط الماضي، بعد ملاحقة دولية استمرت لعدة أسابيع.

نقل عساف إلى العاصمة اللبنانية بيروت لتحقق معه سلطات بلاده، بينما ظلت زوجته قيد الاعتقال في دمشق، وجرت محاكمتهما غيابيًا في الكويت، وصدر ضدهما حكم بالإعدام، في مطلع أبريل/ نيسان الماضي، بعدما أدينا بقتل الشابة جوانا.



أزمة دبلوماسية حادة

الرئيس الفلبيني «رودريغو دوتيرتي» موجهًا حديثه إلى دولة الكويت ومواطنيها

بدأت

بوادر أزمة حادة بين الفلبين والكويت

بالظهور في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي، أي قبل العثور على جثة جوانا بنحو أسبوعين. إذ أعلنت سلطات مانيلا حينها وقف إرسال العمال مؤقتًا إلى دولة الكويت خوفًا من المشاكل والمضايقات التي يتعرضون لها. وجاء هذا القرار بعد ساعات من تصريحات للرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي قال فيها إن «أرباب العمل القساة في دول الخليج دفعوا 4 من خادمات المنازل للانتحار»، وإن «

أرباب عمل عرب

كثيرًا ما يغتصبون خادماتهم الفلبينيات ويجبرونهن على العمل 21 ساعة يوميًا ويقدمون لهن فضلات الطعام».

ويعمل في الدولة الخليجية الثرية، أكثر من 250 ألف فلبيني أغلبهم من عاملات المنازل، وبحسب

منظمة هيومن رايتس ووتش

فإن حديث رودريغو دوتيرتي غير مبالغ فيه، إذ وثقت المنظمة انتهاكات واسعة بحق عاملات منازل وافدات في الكويت ودول أخرى في الشرق الأوسط. يصادر أصحاب العمل جوازات سفر عاملات المنازل، ويجبرونهن على العمل لفترات طويلة جدًا دون راحة أو عطلة أسبوعية، ويحبسونهن داخل بيوتهم، كما ويسئن إليهن لفظيًا، وفي حالات يُعتدى عليهن جسديًا وجنسيًا. تفيد التقارير بوجود حالات انتحار ووفيات عاملات منازل سنويًا في الكويت.

كان من الطبيعي والحال هكذا أن يؤدي ظهور جثمان جوانا ديمافيليس بهذه الطريقة إلى تفاقم الأزمة. وعليه، فقد قررت الفلبين

حظر سفر أي عمالة جديدة

إلى الكويت، وقدم الرئيس الفلبيني لمواطنيه في الكويت عرضًا بالعودة إلى بلادهم في رحلات جوية مجانية، وجرى إجلاء عشرات الفلبينيين في رحلتين مجانيتين لشركات طيران تجارية بناء على طلب دوتيرتي.

كانت سلطات الكويت تستقبل هذه الخطوات من الجانب الفلبيني بالاستنكار والاحتجاج والحث على التزام الأعراف الدبلوماسية، لكن يبدو أن كيلها فاض بعد انتشار مقطع فيديو لموظفين من سفارة الفلبين بالكويت وهم يساعدون عاملات على الهرب من مشغليهن المشتبه بارتكابهم انتهاكات بحقهن. إذ قررت الكويت إثر انتشار هذا المقطع المصور

طرد سفير مانيلا

لديها، واستدعاء سفيرها لدى الفلبين للتشاور.



نحو اتفاق عادل نسبيًا

متى ستنتهي هذه المعاملة غير الإنسانية للعاملات الفلبينيات؟ هل هناك خطأ في ثقافتكم؟ هل هناك خطأ في منظومة قيمكم؟

لم تمنع هذه التصعيدات المتبادلة بين الفلبين والكويت سلطات البلدين من العمل على الوصول إلى اتفاقية لتشغيل العمالة المنزلية أكثر عدلًا. كان الطرفان مدفوعين في طريق التفاوض هذا بفعل حاجتهما إلى بعضهما البعض، فالدولة الخليجية الثرية لا تستطيع أن تستغني عن العمالة الفلبينية التي تمثل نحو ربع مليون شخص يقومون بالأعمال الدنيا بمقابل زهيد، وكذلك الفلبين لا تستطيع إعادة كل هذه العمالة إليها ولا تستطيع أن تستغني عن تحويلاتهم النقدية لذويهم والتي تتجاوز 250 مليون دولار سنويًا.

و

يضمن الاتفاق الجديد

تحسينات في ظروف العمل للعمالة الفلبينية من ضمنها وقف قيام أرباب العمل بمصادرة جوازات سفر العاملين لديهم، والسماح للعمال بالاحتفاظ بجوازات سفرهم واستخدام الهواتف المحمولة وغيرها من وسائل الاتصال بأسرهم وبحكومة بلدهم، ومنع أصحاب العمل من سحبها منهم، إضافة لمنع أصحاب العمل ممن لديهم سجلات تفيد بالإساءة للعمال من استقدام العمالة الفلبينية.

وتنص الاتفاقية على أن تجديد العقود يجب أن يقر من دائرة العمل الفلبينية بدلًا من عملية التجديد التلقائي. كما تنص أيضًا على أن أرباب العمل ملزمون بتوفير المأكل والمسكن والملبس للعامل المنزلي وتسجيله في نظام الضمان الصحي، كما يلتزم صاحب العمل بتعويض العامل عن إصابات العمل.