في حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973 بينما يحاول المصريون اختراق دفاعات إسرائيل أرسلت إليهم دباباتها لصدهم. لكن دمرتها القذائف المضادة للدبابات المحمولة في يد العديد من المصريين الذين عبروا القناة. خسرت إسرائيل مئات الدبابات وعددًا كبيرًا من جنودها الذين كانوا بداخلها. كُتبت أسماؤهم، وأسماء كل من ماتوا في دباباتهم بدايةً من حرب عام 1948، على جدارٍ ضخم في متحف القوات المُدرعة الموجود جوار القدس.

الجدار كان بمثابة تذكير دائم لإسرائيل بنقطة ضعفها، وجرحها الذي ينزف جنودًا بلا توقف. لذا من رَحم تلك الأحداث، وُلد أخطر وأهم قرار إسرائيلي، ضرورة امتلاك دبابة إسرائيلية خالصة.

الدبابة المنشودة

يكون هدفها الأسمى هو حماية أرواح من فيها. الدبابات التي دُمرت عام 1973 لم تكن إسرائيليةً بالكامل، بل بريطانية وأمريكية أدخلت عليها إسرائيل بعض التعديلات. أما الميركافا فصناعة إسرائيلية خالصة.

بعد انتهاء حرب عام 1973 شكلت إسرائيل لجنةً خاصةً لتشرف على الدبابة المرتقبة. المطلوب أن تكون الدبابة ملائمة تمامًا لجغرافيا إسرائيل وما يجاورها من دول. كما يُتوقع منها أن تكون حصينةً بالكامل أمام الأسلحة المضادة للدبابات. اللجنة قادها قائد القوات الإسرائيلية السابق الجنرال «

إسرائيل تال

». خاض تال مغامرته بذكائه الفذ وغروره الواضح. فأراد أن يخلق دبابةً لا ينال منها أي عدو مهما تطور، وتصيب أي هدف مهما بَعدَ أو صغر.

أخرج تال الدبابة ميركافا للنور فيما اعتبره انتصارًا في معركةٍ شخصية كان يخوضها وحيدًا. هيكل الدبابة منح الأولوية القصوى لحماية الجنود بداخلها. فمُحرك الميركافا موجود في الأمام على عكس جميع الدبابات الأخرى. مما يعني أن الطاقم سيكون متواجدًا في الخلف أثناء سير الدبابة. وذلك يمنحهم أمانًا إضافيًا من قذائف المهاجمين، حتى لو أُصيبت الدبابة. الأمان أيضًا يظهر في ربط

نظام إطلاق الرشاش

العلوي بجهاز تحكم عن بعد متصل بشاشة ومُستشعر قوي يُظهر ما خارج الدبابة. فلم يعد من اللازم أن يخرج الجندي على ظهر الدبابة ليُمسك الرشاش مُعرضًا نفسه للخطر.

الدبابة المُكيَّفة


بعض المشاكل التي تظهر في الدبابة الإسرائيلية ميركافا

كذلك وجود المحرك في الأمام وفر مساحةً إضافية في الدبابة. ومع بابها الخلفي المميز الذي ينزلق لأعلى، فصارت تصلح كناقلةٍ شديدة التحصين للجنود. الباب الخلفي وحده يعطي منفذًا حيويًا ومبتكرًا للهرب إذا هُوجم الجنود. كما أن ارتفاعها يُعتبر مقارنةً بالدبابات الأخرى أشد انخفاضًا، مما يجعل فرص مهاجمتها أقل نظريًا. وغطيت جوانبها بدروعٍ إضافية فوق جسم الدبابة لتساعدها على الصمود أمام الضربات لوقت أطول.

كما لم تُنس

الرفاهيات

، مثل التكييف الداخلي. وضع مساحة للجنود كي يمكنهم التمدد فيها بدرجةٍ ما. ورفاهيةٌ قاتلة أخرى أضيفت للميركافا قبل أي دبابة أخرى، هي مدفع الهاون الجانبي. المدفع الرئيسي الضخم يستلزم أن يكون العدو أمامك وتصوب عليه مباشرةً، فماذا إذا تواجد العدو على جانبي الدبابة أو خلف تلةٍ مجاورة؟ في تلك الحالة يُمكن للميركافا أن تُطلق قذائف الهاون حتى دون أن ترى الهدف.

أيضًا الدبابة الإسرائيلية تحتوي على إمكانية إطلاق قذائف مضادة للدبابات. كما تقدر على

إطلاق صواريخ «لاهات»

المضادة للطائرات العمودية، هليكوبتر. صواريخ لاهات تستطيع الطيران لمسافةٍ أكبر من قذائف المدفع العادي. وهي إضافة

لا تملكها الدبابات الأمريكية

ولا الألمانية ولا الروسية. الدول الثلاث ترى تلك الميزة رفاهيةً زائدةً ولا تريد إثقال كاهل دباباتها بها. فهي تريد دبابةً رشيقة تمتلك القدرة على المناورة في ميدان مفتوح، لكن إسرائيل تعلم أن نطاق حروبها لن يكون إلا في مناطق سكنية أو ميدان ضيق. لذا لم تبالِ أيضًا بسرعة الدبابة التي تبلغ 50 كيلومترًا في الساعة كحد أقصى، بينما تبلغ الدبابة «آبرامز» الأمريكية 60 كيلومترًا في الساعة.

اقرأ أيضًا:

الكلاشنكوف: أبرز هزائم الروس للأمريكان

تلك الإضافات وضعت الميركافا أمام تحدًّ جديد، وزنها. فبينما تبلغ وزن الدبابات الأخرى بين 35 إلى 40 طنًّا، فإن الميركافا تجاوز الـ 60 طنًّا. لكن إسرائيل لم تبالِ بتلك الجزئية كثيرًا، فالدبابة صُممت لتخدم إسرائيل ضد الدول المحيط بها والقريبة منها فحسب. ولا تريد إسرائيل دبابةً تنافس الدبابات العالمية لجلب المُشترين. لنفس المُبرر أيضًا نجد الميركافا لا تمتلك دانات المدفع المصنوعة من اليورانيوم المُستنفذ مثل دبابات «آبرامز» الأمريكية. دانات اليورانيوم تُمكن الدبابة آبرامز من اختراق أي دبابة روسية حديثة الطراز، لكن لأن إسرائيل تواجه حماس وحزب الله اللذين لا يملكان دبابات من الأصل فهي ليست بحاجة لهذا النوع من الدانات.

حزب الله يقهرها


مشهد لمواجهات بين جنود حزب الله والميركافا

النقطة التي وقفت عندها اللجنة المشرفة على الدبابة وقتًا طويلًا هى اختيار اسمها. اسم الدبابة لا يقل أهميةً عن إمكاناتها القتالية، وكلاهما يجب أن يلقيا الرعب في قلوب العدو. استقرت اللجنة على اسم «الميركافا». كلمة الميركافا تعني بالعربية «الحَنطور»، وسيلة نقل عبارة عن عربة خشبية يجرها حصان. لكن لم يكن ذلك ما تقصده إسرائيل، فالكلمة لها دلالات توراتية. الميركافا في اللغة القديمة تعني عَربة الرب، فالدبابة المُبتكرة هى كلمة الرب تشق الصحراء من أجل فرض مهابة الرب. وخرجت أولى عربات الرب من خطوط الإنتاج عام 1979.

العام ذاته التي كان الرئيس المصري أنور السادات يُوقع في «كامب ديفيد» اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية. وإذا كانت حرب عام 1973 هى الدافع وراء مشروع الدبابة، فإن اتفاقية السلام لم توقف خط إنتاجها. فإسرائيل تعلَّمت الدرس، وقررت أنَّها لن تتكبد خسارة مثل هذا العدد من الجنود مرةً أخرى.

وفي المرات القليلة التي طُلب من إسرائيل تبريرًا لاستمرار صناعة الميركافا بعد اتفاقية السلام جاء ردُّها بأن الميركافا هى ضمانة استقلال إسرائيل. وأنها كدولةٍ محاطة بالأعداء عليها أن تمتلك ما يمكِّنها من الدفاع عن نفسها. ولم يمضِ سوى ثلاثة أعوام حتى لجأت إسرائيل للميركافا، اجتياح لبنان.

بعد أيامٍ من الاكتواء بنار

القصف الصاروخي

لحزب الله، قررت إسرائيل أن ترد. القصف الصاروخي المضاد لم يُجدِ نفعًا، فحزب الله كان قد استعد جيدًا لقصف إسرائيلي عنيف. الحل أمام إسرائيل أن تدخل لبنان بقواتٍ برية، فظهرت الـ «ميركافا» للمرة الأولى. تفاخرت إسرائيل بصناعة الميركافا، وقدَّمتها كأفضل سلاحٍ في العالم. لكن كانت أرتال الدبابات على موعدٍ مع مجزرتها الأولى. مشاة حزب الله والقذائف المضادة للدبابات تغلَّبا على الطراز الأول من الميركافا.

الدبابة التي يبلغ طولها 8 أمتار تقريبًا، وعرضها 4 أمتار، وارتفاعها 2.6 متر فكيف يمكن لها أن ترى فردًا أو اثنين يظهرون لها من العدم. كما أن وزنها البالغ 63 طنًّا وسرعتها بـ 50 كيلومترًا في الساعة، جعلاها هدفًا سهلًا للجنود المتربصين بها بأجهزة الرؤية الليلية. كما أن معركةَ دبابات شرسةً دارت في جنوب لبنان بين القوات الإسرائيلية المُتقدمة وقوة سورية.

النصر كان للقوة السورية وأوقفت التقدم الإسرائيلي. كذلك رأت إسرائيل أن الميركافا حققت نصرًا لا بأس به، إذ انخفضت أرقام الخسائر بشكل ملحوظ. فالوضع كان يمكن أن يكون أسوأ لولا الميركافا. لكن مجرد هزيمة الميركافا يعني أنَّها لم ترتقِ بعد لتكون الدبابة الأسطورة التي أرادتها إسرائيل. لذا عادت اللجنة المُشرفة للانعقاد ومنحت الطراز السابق الرقم واحد فصار اسمهما «ميركافا 1»، مما يعني بداية جيل لا يتوقف من الميركافا. على الفور ظهر الجيل الثاني «الميركافا 2» عام 1983. وبعد 7 سنوات ظهرت

ثالث ميركافا

، ثم أخيرًا وُلدت الميركافا 4. التغييرات كانت في وضع مدفعٍ ذي عيار أكبر، ودرعٍ ذي سُمك أقوى.

نقاط ضعف الوَحش


مقارنة بين الميركافا الإسرائيلية والدبابة تي-90 الروسية

إسرائيل تستمر في تطوير دبابتها، وحرب الدبابات تستمر في التراجع لتصبح شيئًا من الماضي. خاصةً مع انهيار الاتحاد السوفيتي المصدر الرئيس لتسليح أعداء إسرائيل. كما قامت حرب الخليج فأنهكت العراق الذي كان مصدر إزعاج لإسرائيل. أحداثٌ تبدو مطمئنةً لإسرائيل، لكنَّها أزعجتها من جانب آخر. إسرائيل قدمت الميركافا على أنها الوَحش القاهر، لكن ضد من سوف تستخدمها الآن؟

لكن ذلك لم يُوقف إسرائيل، هى أرادت أن تثأر لهزيمتها في الماضي. فأصبحت الميركافا كأنها دبابة تُصممها إسرائيل لتخوض بها حربًا انتهت بالفعل. فالمستقبل للحروب البعيدة الصاروخية، ومن غير المحتمل أن نشهد في المستقبل حربًا بين تجمعات من الدبابات. إسرائيل رفضت الاعتراف بتلك الحقيقة، وظلت تنفق ما يُقارب 220 مليون دولار سنويًا من أجل تطويرها. فهى درة تاج العسكرية الإسرائيلية، ولن تسمح إسرائيل بفنائها.

لجأت إسرائيل للميركافا بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. وأصبحت

تُستخدم لنقل الجنود

عبر الأحياء السكنية لحماية الجنود من الرجم بالحجارة. استخدمت إسرائيل أعتى أسلحتها لقمع الانتفاضة، لكن قوة الميركافا وقفت عائقًا أمام مرونة حركتها. فلا يمكن مطاردة طفل صغير أو شاب يقذف حجرًا ثم يهرب إلى أحد الأزقة المجاورة بدبابة. كما أن وجود الميركافا ليل نهار أمام أعين المقاومة الفلسطينية دفعهم للبحث عن نقاط ضعفها وكيفية مواجهتها.

بسهولةٍ يمكن التنبؤ أن نقاط ضعف الميركافا في باطنها. فالدروع تحيط بها من الجوانب والأعلى، لكن أسفلها يعتمد أنه محمي بالأرض. لذا عَمل الفلسطينيون على تكوين متفجرات منزلية الصنع

لمواجهة الميركافا

. تولت ألوية «الناصر صلاح الدين» تلك المهمة. وهلعت إسرائيل عام 2002 بخبر تدمير أول ميركافا في داخل غزة وبأسلحة بدائية. وبعد 7 شهور من الهجوم الأول، استهدفت سرايا القدس دبابةً أخرى في مدينة رفح الحدودية.

المختلف هذه المرة أن سرايا القدس وجدت نقطة الضعف أكثر بروزًا مما توقع الجميع، الباب الخلفي. بقذيفة «آر بي جي» عادية يمكن مهاجمة الباب الخلفي. ذلك سيخنق طاقم الدبابة ويؤدي إلى انفجار المواد المتفجرة داخل الدبابة فتُدمر الدبابة ذاتها، وقد كان في سبتمبر / أيلول 2002. الانفجار كان ضخمًا لدرجة أن الدبابة تناثرت إلى شظايا، وأحدثت تلك الشظايا فتحاتٍ خالدة حتى الآن في الجدار العازل. بعد أسبوعٍ واحد من هجوم سرايا القدس، نُسفت ميركافا جديدة بلغم أرضي.

إسرائيل توحَّدت مع الدبابة

استفادت إسرائيل من تلك الأحداث درسًا جديدًا، كيف تواجه قذائف الـ«آر بي جي».

استخدمت نظام حماية

يُسمى «تروفي». النظام يمكنه التقاط إشارة قدوم القذيفة، ثم بسرعةٍ فائقة يحسب سرعتها واتجاهها فيلقي عدة ألواح معدنية أمامها. اصطدام الألواح بالقذيقة يؤدي لانفجار القذيفة. يزيد النظام على ذلك أنه يُرشد طاقم الدبابة على المصدر المُحتمل الذي أُطلقت منه القذيفة لتدميره.


الصاعقة التي ضربت

إسرائيل ليس أنها خسرت 3 دبابات، بل إن أسطورة الميركافا تتهاوى وثغراتها تتكشف تباعًا. ضغط حزب الله على هذه النقطة مرةً أخرى عام 2006. واستفاد من المُكابرة الإسرائيلية وإصرارها على وضع الميركافا في مقدمة قوات الاجتياح البري. التضاريس في جنوب لبنان لم تكن مناسبةً للدبابات من أي نوع، فضلًا عن دبابة ثقيلة كالميركافا. أطلق مقاتلو حزب الله قذائفهم المضادة للدبابات من مخابئهم المرتفعة،

فعرقلوا تقدم الميركافا

. لكن العناد الإسرائيلي استمر، فقرروا التقدم عبر وادٍ صغير يُسمى وادي الحجر.

الوادي الصغير حصر عددًا ضخمًا من الدبابات في مكان واحد. دبابةٌ واحدة تُدمر في المُقدمة وواحدة في المؤخرة، ويصبح هروب أي دبابة من الوسط مستحيلًا. وهو ما فعله مقاتلو حزب الله بالضبط. واضطرت الدبابات إلى التقهقر في انسحابٍ غير مُنظم أدى إلى مجزرةٍ للدبابات الإسرائيلية

بإجمالي تدمير 50 دبابة

. ومع استمرار قصف حزب الله الصاروخي اضطرت إسرائيل لإنهاء حربها وإعلان هزيمة مادية ومعنوية للميركافا.

اقرأ أيضًا: رؤية من الداخل:

كيف سيكون جيش إسرائيل عام 2048؟

الأمر الذي يضع الميركافا حتى اليوم في مفترق طرق، الاستمرار أم الإيقاف. الصوت الأعلى حتى هذه اللحظة هو الاستمرار في تصنيع الميركافا وضخ المزيد من الأموال في تطويرها. ينبعث ذلك الصوت من حسٍّ قومي فحسب لا عسكري ولا اقتصادي. فهو حالة من رفض الاعتراف بأن الدبابة التي روجت لها إسرائيل يعتريها قصور كحال كل سلاح في العالم. كما ترفض الاعتماد على أسلحة دول أخرى حتى لو كانت أمريكيةً.

فقد توحَّدت إسرائيل مع الميركافا، وجعلتها كالنجمة الزرقاء في علمها. فإسرائيل بَنت الميركافا كما أرادت أن تبني نفسها، محاطةً بالدروع والتحصينات، مليئةً بالرفاهية والأمان، قادرةً على الفتك بأي عدو. وإذا اعترفت بعيبٍ في الميركافا، أو أوقفت إنتاجها، فكأنما تعترف بنقصٍ في هيكل إسرائيل ذاته.