الموسيقى الشرقية عبارة عن موجات طربية غير عقلانية وغير منتظمة، بعكس الموسيقى الغربية التي يصفها توفيق الحكيم صادقًا بأنها بنية هندسية عقلانية منطقية. ويمكن من هذين التشبيهين فهم الفارق بين الشرق والغرب وثقافتهما ونمط حركتهما، واطّرادًا مع ذلك ربما جاز القول بروحانية الشرق ومادية الغرب بصورة ما، وفي سياقات معينة سابقة على التحديث/التغريب.

وكما كانت أكثر محاولات «التجديد» الموسيقي في القرن العشرين محاولة لصبّ الموسيقى الشرقية في القوالب الهندسية المنتظمة للموسيقى الغربية، كذا انحصرت محاولات جيل «رواد» النهضة الفكرية العربية في صبّ كل شيء في قوالب غربية: الدين والفكر، وحتى الحياة!



صارت القوالب الهندسية المنتظمة هي المعبرة عن استقامة الفطرة، وسلامة النظر، وأصالة الرأي، رغم أن الحداثة وما بعدها احتجاجٌ على لا إنسانية هذه القوالب

وقد انحدر بنا المآل وانقلب الحال، حتى صارت القوالب الهندسية المنتظمة هي المعبرة عن استقامة الفطرة، وسلامة النظر، وأصالة الرأي. وذلك رغم أن الحداثة وما بعدها، في حقيقة الأمر، احتجاجٌ على لا إنسانية هذه القوالب حيث توالدت وشاعت، ومحاولة لكسرها في كل شيء، من الموسيقى/الحياة إلى الكتابة/الفكر.

لكن هذا النزوع الهندسي الطوباوي ليس مجرد «شر» غربي، وإن كنا تأثرنا في تطبيقاته وتمثلاته المعاصرة بالغرب؛ لكنه صورة من صور انتكاس الفطرة الإنسانية برغبتها في تنظيم الكون وفق رؤية هندسية وضعية مسبقة؛ تنظيمه في معادلات رياضية وقوالب وأشكال هندسية منتظمة لا نتوءات فيها ولا بروز، تنظيمه على هيئة آلة ضخمة يُمسك الإنسان المتأله بمقاليدها، وقد تجلى ذلك النزوع مثلًا في شيوع فكرة «تقنين» الشريعة كغاية قائمة بذاتها، برغم أن التقنين كارثة حقيقية لا تؤدي فحسب لغلق مجال الاجتهاد، بل تقوّض إنسانية الإنسان وقدراته، بعد أن تنزع فعالية الوحي وأبعاده الحركية، كُفرًا بصلاحيته المتجاوزة للزمان والمكان؛ بفرض اجتهادات بشرية تاريخية بعينها على الأمة، بوصفها قوانين «إسلامية» نهائية.

يتجلى هذا النزوع الإلحادي كذلك في الانهمام الزائد بالجزئيات والإجراءات والتفاصيل التقنية، بمنأى عن سؤال الغائية؛ كما في ما يُسمى بـ«التنمية البشرية» و«علم الإدارة» و«البرمجة العصبية»، وغيرها من «آليات» ترويض الإنسان الحديث وتدجينه، وهو نزوع إلحادي لأنه يسعى إلى توظيف الإنسان، ويستهدف دمجه في نظام لا إنساني آلي رتيب، يبتلعه ليصير فيه ترسًا «صالحًا» من وجهة نظر الملأ القائمين على ترشيد الواقع. وذلك في تجاهُلٍ صريح للتكريم الإلهي للإنسان وتفضيله على سائر المخلوقات، واستخلافه في الأرض ليعمُرها بدعوة الله (وليس بالمباني) حرًا حتى من قهر المشيئة الإلهية الطليقة.

ومما يُثير السخرية أن يسعى بعض المخدوعين بهذا الهراء لأسلمته، بتطويع سؤال الغائية للإجراءات الآلية؛ حتى تتضخم في حس البعض منهم باعتبارها صلاة أو عبادة، وهي صلاة حقيقية، لكنها صلاة وثنية مثل مكاء المشركين وتصديتهم عند البيت. صلاة يتوجَّهُ فيها المصلي الأبله لكهنة معابد الإنتاج والاستهلاك، إذ اختُزل مدلول «عمارة الأرض» في اتخاذ العمائر والمصانع، وصار العمل الذي تعبَّد الله به خلقه هو إدارة هذه المصانع وزيادة إنتاجها، على حساب قداسة الإنسان والكون، وعبوديتهما لله؛ ولحساب حفنة من المستغلين!.

والحديث في هذا الأمر يطول، وله جوانب وأبعاد لا يتسع لها المقام، لكني قدّمتُ لأضرب مثالًا واحدًا، وأناقش تجلّيًا واحدًا؛ إذ نزلت قبل عدة أعوام ضيفًا على ندوة في الأردن تحدث فيها المعماري الشهير راسم بدران عن «مفهوم» الفن، وقد غلب الفنان على المهندس في بدران، وعرّف الفن (فنه الخاص) بطريقة فنية دائرية من خلال استعراض بعض جوانب تجربته في لوحاتٍ علق عليها؛ لتتقاطع تلك اللوحات في وجدان المتلقي ليشكل كل منهم «مفهومه» للفن، وهي طريقة عبقرية في حقيقة الأمر؛ استطاع بها بدران تجاوز الرؤية الآلية الباردة والتعريفات المدرسية الميتة والسرد المنطقي الخطي السخيف إلى آفاق أكثر إنسانية.

الشاهد أن أكثر الحاضرين ضجروا وتململوا ولم يستطيعوا متابعة المحاضرة. وبغض النظر عن الغلط الذي وقع فيه المنظمون بافتراض وجود «مفهوم» للفن؛ أي تعريف سكوني جامع مانع، فإن العجيب كان هو عدم اعتراض أي من الحضور على ذلك، بل وكرههم لأسلوب بدران الفني ورغبتهم في بنية نظرية هندسية/منطقية مستقرة، تكشف «مفهومًا» عامًا للفن!



أبرز تجليات النزوع الهندسي الطوباوي، شيوع كتابات مالك بن نبي، بغير الوعي بمضامينها الفلسفية المادية، ولا تسلسل كتابتها تاريخيًا ولا سياقاتها

كان هذا هو المثال، أما أهم تجلياته في الحياة الثقافية فهو شيوع كتابات مالك بن نبي والإقبال عليها والاحتفاء بها، بغير الوعي بمضامينها الفلسفية المادية، ولا حتى بتسلسل كتابتها تاريخيًا ولا سياقات هذه الكتابة.

وقد سهّل هذا الوباء، فضلًا عن عناصر أخرى، عبور «التنمية البشرية» وأخواتها إلينا، خصوصًا إلى الدول ما بعد الكولونيالية التي تجذرت فيها تقاليد معرفية واجتماعية أنغلوسكسونية؛ الدول التي ابتُليت يومًا بالاحتلال البريطاني، الذي أهّلها بدرجةٍ ما لتغلغُل النفوذ الثقافي الأمريكي.

وإذا كان مصدر الآفة الأصلي هو شيوع الرؤية المادية الآلية في جيل السبعينيات من الحركة الإسلامية، وهو الجيل صاحب التطلعات السياسية الطوباوية المتوحشة بغض النظر عن «تنويعات» خطابه، فهو كذلك الجيل الذي تشكل أكثره من دارسي الهندسة والطب والعلوم «الطبيعية» على الطريقة الغربية، وما يصاحب ذلك من أوهام بإمكان السيطرة الكاملة على الواقع من خلال معرفته وكشف كل العناصر المجهولة فيه، ثم ضبطه والتحكم فيه، على مراد القائم بترشيده، من خلال معادلات وإجراءات محددة.

ولذا يستوي عندي مصدر الشبق الطوباوي، لعصام العريان وأيمن الظواهري وياسر البرهامي للدولة «الإسلامية» المتوهّمة، ولو اختلفت آليات سعيهم إليها. وإذا كانت هذه الرؤية المادية الآلية بدأت تفرض مضمونها العلماني، بعد أن فرضت ديباجاتها العلمانية، على خطاب التيارات الإسلامية غير المسلحة، فإني على يقين من تسلل هذه الرؤية للجماعات المسلحة، خصوصًا صاحبة الخلفيات الحضرية المدينية.

ولعل التجلي الأهم لذلك تبنّيها أيديولوجية مهجنة تقصد إلى السكون في الحياة الدنيا ببلوغ الطوبيا. إنها وإن كانت لا تستطيع التفلّت -نظريًا- من النصوص الشرعية التي تؤكد على استمرار صيرورة الجهاد ليوم القيامة، وضرورته؛ إلا أنها تستطيع الالتفاف حولها وتجاهلها تمامًا ببراغماتية المصالح والمفاسد التي أسست بها «السلفية العلمية» -مثلًا- مذهبها الجديد بغير مراجعة للقديم.

لقد أدرك مالك بن نبي -جزئيًا- خطورة رؤيته الطوباوية الآلية في توظيف الإنسان والموارد حين فشل في الوزارة، وتجلى ذلك إلى حدٍ كبير في كتابه الأخير: «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي». لكن يبدو أن شيئًا منعه من مراجعة شاملة لأفكاره، وربما كانت عجمته الذهنية هي السبب. فحتى في كتابه الأخير ظل يحوم ويحوم حول مراده بذات الطريقة القديمة، وحاول تجنب التعريفات والمعادلات الصلبة بكثرة الصور التمثيلية، لكنه عاد في النهاية للطريق التي اعتادها!



إذا كنا لا نختلف على أن أزمة الأمة لن تحل إلا بالعودة إلى القرآن، فإننا نختلف من يُصِرّ على قراءة الوحي من خلال نصوص فقهية وكلامية تغلب عليها الطبيعة الآلية الانتقائية

ما أردت الوصول إليه هو التالي: أننا إذا كنا لا نختلف مع جمهور المسلمين على أن أزمة الأمة لن تحل إلا بالعودة إلى القرآن، فإننا نختلف حتمًا مع الكثيرين في الكيفية، خصوصًا من يُصِرّ على قراءة الوحي من خلال بنًى ونصوص فقهية وكلامية تغلب عليها الطبيعة الآلية الانتقائية التي تتخير من الوحي ما يتفق مع رؤيتها المذهبية ومشروعها الحزبي الطوباوي للدولة والأمة، فتقرأ القرآن بمقررات تاريخية مُسبقة يسبغ عليها ثوب المنهجية زورًا وتضليلًا، برغم أنها غير قابلة للتطوير ولا الإثراء -كدأب المنهجيات- إلا من داخل ذات النسق الحزبي.

ووجود هؤلاء طبيعي في كل زمان ومكان، فهم لا يدركون سوى البنى الهندسية المنطقية التي بنيت بها المذاهب الفقهية، أو المقولات الكلامية «النهائية»، برغم شدة انتقادهم للمؤثرات الإغريقية والغربية!.

إن أزمة هؤلاء ليست في عقولهم التي لا تستطيع التعامل إلا مع البنى الهندسية المكشوفة، بل في قلوبهم التي لا تدرك ما وراء ذلك. فليست الأزمة في تبني رؤية هندسية، بقدر ما هي في هيمنة هذه الرؤية لتستوعب الإله والإنسان والطبيعة. هيمنة هذه الرؤية شعوريًا، وانتقالها من الهامش إلى المركز؛ حتى صار أصحابها كالحاسوب الذي يعاني الأمرين في التعامل مع ما لم «يُبرمَج» عليه. إنهم آلات بلا قلوب، أو كما سمّى المسيري، رحمه الله، أشباههم: مهنيين بلا ضمير!


حاشية

عمل جلال آل أحمد (المفكر والأديب الإيراني) في مُستهل حياته كساعاتي، مثله في ذلك مثل حسن البنا وناصر الدين الألباني، ويبدو أنها ظلت مهنة رائجة إلى وقت الألباني، وقد انعكس التصور المادي الآلي لهذه المهنة في صور مختلفة، فعمد البنا لهندسة المجتمع من خلال بناء تنظيم هرمي، وانخرط آل أحمد في حزب«توده» الشيوعي (الطوباوي بتعريفه)، وانشغل الألباني بهندسة بنية الحديث النبوي وضبط مخارجه ومداخله (السند) بغير الاكتراث للمتن.

صحيح أن تجلّ جلال آل احمد كان الأكثر راديكالية؛ لكنه كان كذلك الأكثر بُعدًا عن الالتباس ومحاولة أسلمة تصوره المادي الآلي كما فعل البنا والألباني. لذا، فحين استنقذ الأدب آل أحمد من المادية والواقعية الاشتراكية، وأعاده للإسلام؛ عاد بعد أن انسلخ واعيًا من قدر كبير من رؤيته، وإن لم يتخلص منها تمامًا. عاد ليكتب أول نصّ يخطه مسلم في نقد الحداثة الغربيّة («غرب زدگى»؛ بالعربية: الابتلاء بالتغرّب) والذي نشر بالفارسيّة لأول مرّة عام 1961م.

لقد استنقذ الأدب الغربي آل أحمد من «بلاء التغرّب»؛ كما استنقذ سيّد قطب من قبله، وعبد الوهاب المسيري من بعده. ويبدو أن في هذا الأدب شيئًا ربّانيًا لم يتسن لأحد سبر غوره بعد. إذ هو التخصُّص الوحيد في منظومة التعليم الجامعية/العلمانية، التي استوردنا بعضها على يد «الرواد»، الذي ما زال يتعامل مع الإنسان جملةً، وبغير اختزال؛ بوصفه كائنًا مُركبًا.