بلغ عمر نهر «الفكر الإسلامي» ألفاً وأربعمائة سنة، ونحن اليوم في نهاية العقد الرابع من القرن الخامس عشر الهجري. وقد تعددت روافدُ هذا النهر، وتنوعت مدارسُه منذ بدأ يشق مجراه بظهور مدرسة «الخوارج» عقب موقعة صفين في سنة 37هـ، بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، إلى ظهور مدرسة «الإخوان المسلمين»، في أعقاب إلغاء الخلافة في 28 رجب 1342هـ/ 3 مارس 1924م.

هذا النهر بروافده ومدارسه هو موضوع كتاب العلامة محمد سليم العوا الذي صدر (2016م) بعنوان «المدارس الفكرية الإسلامية: من الخوارج إلى الإخوان المسلمين» (511 صفحة). وقد اقتصرَ فيه على المدارس التي استمدت فكرها من القرآن والسنة، وسلَّمت بمرجعيتهما العليا؛ باعتبار أن هذا التسليم وذاك الاستمداد هما الخصيصة التي تجعل ما قدمته هذه المدرسة أو تلك حقيقاً بوصف «الإسلامي». وما بين أول مدرسة وآخرها ظهوراً، تتبع العلامة العوا – بطول نفس – مدارس: الإباضية، والشيعة الإمامية، والزيدية، والإسماعيلية، والمعتزلة، والصوفية، وأهل السنة والجماعة، والسلفية، والسلفية الإصلاحية، واختتمَ ببعض الجهود والاجتهادات الفردية.

وقد يتبادر إلى الذِّهن أن ماءَ هذ النهر الطويل كله عذبٌ سائغ للشاربين، وفراتٌ نافعُ للقاصدين. وهذا بعيدٌ عن الصواب، والصوابُ بعيدٌ عنه. فبعض مائه كدَّرته الأوشابُ. وبعضه أَسَنَ وتغيرت رائحته، وفقد طهوريتَه. وبعضه غاض في الأرض، وأمسى غوراً، أو اختلطَ بغيره من الأَمْواهِ الأجاج فأصبح مثلها وأخذَ حكمَها. وبعضه أضحى كأنه السَّراب؛ يحسبه «الظمآن» ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. وبعضه بقى مباركاً تنبتُ به الجنات وحبُّ الحصيد، وظلَ غدقاً مسكوباً يسقي الحرث وينشر الخير ويعمر الأرضَ.

قرأتُ هذا الكتاب من «طُرَّتِه» إلى «حَرْدِه» مرتَيْن. وتأكدَ لي في المرتين أن «نهر الفكر الإسلامي» لم يصل إلى نهاية تاريخه بعدُ، وأنه سيظل يتدفقُ إلى آخر الدنيا، وأن مياهَه مهما تكدَّرت وعلاها الغثاء حيناً؛ فإن «الأصول العالية» لهذا الفكر تحمل بداخلها أدوات تنقيته وتطهيره وتجديده في كل حين. وإذا كان النِّفَّرِيُّ يقول إنَّ «القراءَ ثلاثة: قاريءٌ قرأَ، وقارئٌ عرفَ، وقارئٌ فَهمَ»؛ فإنِّي بعد أن انتهيتُ من قراءتي الثانية، تحققتُ من صدق قوله، ووجدتُ أن ليس كل ما قرأتُه عرفتُه، وليس كل ما عرفتُه فهمتُه حقَّ فهمه.

وعليه فإن ما سأقدمه في هذا المقال والذي يليه – بإذن الله – هو مزيجٌ مما استقام لي فهمه بعد قراءته ومعرفته. واخترتُ أن أعرض هنا عددا محدوداً من بين عشرات المسائل التي امتلأ بها الكتاب، تاركاً للقارئ الكريم قراءة كل مسائله بتفاصيلها فيه؛ إذ هو بالفعل: «لا تُغني قراءةُ بعضه عن بعضِه»، لمن أراد الإلمامَ بتيارات الفكر الإسلامي المتنوعة ومدارسه المختلفة.


مسألة المنهج

سطَّر العلامة العوا منهجَه بوضوح في مقدمة الكتاب، والتزمه بصرامة من أوله إلى آخره. وحاصله هو «أنْ لا يَنسبَ إلى مدرسة فكرية، أو عالمٍ من علمائِها، إلا الكلام الذي أوردته المدرسة في كتبها المعتمدة، أو كتبِ العالِم المعني نفسه، أو نقلَه عنه غيرُه من موافقيه أو مخالفيه نقلاً صحيحاً» (ص19). والاستثناء الوحيد من هذا المنهج هو ما أورده عن «الخوارج»، والسبب هو عدم وجود كتب لهم. وقد استعاض عن ذلك بما كتبه العلماءُ الثقات عنهم. ثم إنه أجرى كثيراً من المقارنات والموازنات في كثير من القضايا.

وليست قوةُ هذا «المنهج» في وضوحه وبساطته وكونه مقارَناً فحسب؛ وإنما في عمقه وأصالته واستقامته أيضاً. أما عمقُه، فلأنه يغوصُ في مدونات المدارسِ المختلفة وأقوالها، ويعرِّف بمؤسسيها وأئمتها، ويميز أصولَها من فروعها، ويقارنها أحياناً بغيرها من المدارس، ويختار منها ما يصورها تصويراً مطابقاً لحقيقتها قدر المستطاع، دون نصرة مدرسة على أخرى إلا في حالات قليلة. وأما أصالتُه، فلأنه تطبيقٌ مباشر للقول المأثور:

«آفة الأخبار رواتُها»، إذ لم ينقل عن خصومِ المدارس ولا عن منتقديها. وكان من ثمرات الالتزام بهذا المنهج أنه سدَّ أغلبَ طرقِ الطعن على ما سرده عن كل مدرسة، وأكسب جلَّ ما انتهى إليه من أحكامٍ بشأن هذه المدارس قوة «الأمر المقضي»، وبذلك استقامت أحكامه التي انتهى إليها، وخرج بعد أن خاض في معمعة المطارحات والاختلافات سالماً غانماً لم تبتل قدماهُ.

وقد يسرع البعض إلى القول بأن «منهج» هذا الكتاب لا يعدو كونه منهجاً «تاريخياً»، ليس فيه شيءٌ من التحليل أو النقد أو التقييم. ولمثل هذا القول ما يبررُه في ظاهر متنِ الكتاب، فلدينا التصريح الوارد في مقدمة الكتاب يعلن «الالتزام بالنقل» من المصادر المعتمدة عند كل مدرسة من مدارس الفكر الإسلامي، ولدينا هوامشُ الصفحاتِ ملْأى ببيانات تثبتُ فعلاً أن ما وردَ عن كل مدرسة هو من مصادرها المعتمدة. ولكن تدقيقَ سردياته بشأن تلك المدارس – عند مقارنتها بسرديات أخرى معاصرة – يكشف عن أن العلامة العوا لم يكن مجردَ «ناقلٍ» لروايات موثوقة فحسب؛ وإنما نجدُه «يختار» من مصادره، وينتقي روايات معينة ويعتمدها دون غيرها، وكأنَّ النقد والتقييم عنده يتمثل في عملية الانتقاء من تلك المصادر.

ظني أن مثل هذا الاتجاه يعبرُ عن شيءٍ من التأثرِ بمنهج «أهل الحديث» الذين يبحثون عن «أصح الروايات»، ويطرحون ما سواها جانباً بعد أن يتبينَ لهم ضعفُها أو وضعُها. وهذه عملية نقدية بالغة الدقة والصعوبة في آن واحد، مع إدراكنا أن ثمة اختلافات جوهرية بين ممارسة هذا النقد في مسائل ذات طابع «تاريخي»، وبين ممارسته في مسائل علم الحديث، ومنها أن المؤرخين الثقات يحذرونَ أساساً من الهوى في تناول الأحداث، ويرون في تحليلها خروجاً على الموضوعية، بينما أهلُ الحديثِ يحذرونَ أساساً من الزلل أو الكذبِ أو الوقوع في الإثم؛ نظراً لما يترتب من أحكام شرعية على إثبات أو نفي صحة رواياتهم. وبأيسر نظر في متنِ هذا الكتاب وفي هوامشه يتبين لنا أن العلامة العوا قد تأثر بمنهج أهل الحديث في سردياته التاريخية عن مختلف مدارس الفكر الإسلامي؛ الأمر الذي أكسب عمله الاستقامة والسلامة معاً؛ وليس في هذا مصادرة على حق الاختلاف معه.


مسألة «الفِرَقِ» و«المدارس»

يحمل هذا الكتابُ بين طياته الكثيرَ من «جديد القول» في شأن مدارس الفكر الإسلامي. ولكن ليس من اليسير الوقوف على شيء من هذا «الجديد» ما لم يتبين القارئُ معالم منهجه النقدي على ما لمحنا. ومن جديدِ هذا الكتاب أنه سمَّى«الفِرقَ» أو «النِّحل» باسم: «المدارس الفكرية». واستبدلَ هذا الاسم الجديد بالاسم القديم الذي شاع في كتبِ التراث بشأن كل مجموعة اجتهدت واتخذت مواقفَ مختلفة في مسائل كبرى ظهرت في أزمانهم، وتناولت – بالأساس – شؤون العقيدة والاعتقاد، والسياسة والحكم، والإصلاح والثورة. وهذا «الجديد» وليد نظرةٍ لا مراءَ في أنها «نقدية»، ورؤية «غير امتثالية» لاسم «الفرق» الموروث والمتداول على نطاق واسع في كبريات المصادر منذ ألف سنة على الأقل.

وظني أن تسميةَ الدكتور العوا لتلك الفرق باسم «المدارس الفكرية»، قد جاءت «موفقة» و«تاريخية». هي تسمية موفقةٌ من جهة تصويرها واقعَ الحال الذي كانت عليه كلُّ مجموعة من تلك المجموعات، أو «فرقة من الفرق». وهي تسميةٌ «تاريخية» من جهةِ ارتباطها باسم المكان الذي ظهرت فيه أغلبُ أفكار مؤسسي تلك «المدارس» وطروحاتهم واجتهاداتهم؛ إذ الثابتُ تاريخياً أنها نَمت وترعرعت في رحاب «المدرسة» بالمعنى المادي الذي يشير إلى المكان الذي كان يلتقي فيه العلماء ببعضهم وبطلابهم.

وكان أغلبُ هذه «المدارس» ملحقاً بالمساجد والجوامع الكبرى، على ما يقول عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي (ت:927هـ) في كتابه «الدارس في تاريخ المدارس». وكانت قاعات «المدرسة» تشهدُ – على الأقل – طرحَ الأسئلةِ والإشكالات وبدايات المطارحات التي تبلورت ونضجت فيما بعد، وأَكسبت كل «مدرسة» معناها الفكري الذي يميزها عن غيرها من المدارس الأخرى.

شرح العلامة العوا سببَ تفضيله اسم «المدارس» على اسم «الفرق» فقال:

يؤكد العلامة العوا أن هذا الاسم الجديد: «مدارس الفكر الإسلامي»، يعني أن تلك المدارس «كلها داخلةٌ في نطاق الأمةِ الإسلاميةِ، أي نطاق الذين يستظلون بمظلة الإسلام»، كما يؤكدُ نسبتَها إلى الفكر والاجتهاد الذي يقبل الصواب والخطأ؛ بدلاً من تسميتها: «الِفرق الإسلامية»، لأنها تسمية تحيل إلى «الافتراق»، وإلى «المفارقة»، وإلى «الحق والباطل» و«الإيمان» و«الكفر» في «مسائل العقائد»؛ وهي مسائل لا تتسع بطبيعتها لتعايش الآراء المختلفة، ولا لضمان وحدتها في ظل تنوعها.


مسألة احتكار السلطة ومشكلتها المُزمِنة.. بلا حل

لأن المدرسة لفظٌ يدلُّ على محاولةِ طلب العلم والتنوع في أساليب هذا الطلب. والتنوعُ [في ذلك] ضرورةٌ ملازمةٌ لأصل الخلق: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين» (هود:118). والاختلافُ في وسائل طلب العلم يؤدي غالباً إلى الاختلاف في النتائج … وهو اختلاف تنوعٍ ما دام الأصلُ الذي يطلب العلم منه واحداً. وتلك هي الحال في الفكر الإسلامي؛ إذ إن أصل طلبه يكون مستمداً من العلم بالقرآن والسنة. (ص20، 21)

من أعقدُ المسائلِ التي خاضت فيها المدارسُ الإسلامية المختلفة بدءاً من الخوارج وصولاً إلى الإخوان: «مسألة السلطة». وقد تفرعت عنها قضايا كثيرة العدد وبالغة الأثر، من أهمها قضايا: «الشرعية»، و«التداول على السلطة»، و«أدوات المراقبة»، و«أساليب المحاسبة».

كان أعظمُ ما تمخضَ عنه اجتماعُ «سقيفة بني ساعدة» هو انعقاد أول «إجماع» في تاريخ الإسلام بعد انتقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى الرفيق الأعلى. وقد انتهى الاجتماعُ بالإجماع على مبدأ «سلطة الأمة في اختيار الحاكم»، وكذلك في إقامةِ النظام المناسب المحقق لمصالحها. وبمفهوم المخالفة، كان هذا الإجماع نفياً لمبدأ وراثة السلطة وللجمود على صيغة دون غيرها من صيغِ الحكم وأنظمته. وتجلت في هذا الإجماع عظمةُ «الشورى»، بأفضل ما يكون التجلي.

لكنَّ تلك المبادئَ التي كشفت عنها «الشورى» وقررها إِجْماعُ السقيفة، سرعان ما جرفتها الفتنةُ الكبرى، وانحرفت بها الأهواءُ في مسارات بعيدة باتجاه الاحترابِ على السلطة، وتحولت «الخلافة» إلى «ملكٍ عضوض» يغذيه نهران من الدماء: الأول، نهرُ الدماء المهراقة من أجل التغلب على الخصوم بقوة السلاح، والثاني، نهر الدماء المتحدرة بالوراثةِ من الآباء إلى الأبناء بقوة العصبية. ويقرر العلامة العوا – بحق – أن «الانشغال بالفكر النظري» بشأن السلطة، وبمن هو الأحقُ بها، لم يظهر إلا في مرحلةٍ تالية على نشأة الدولة «عندما آتى الاستقرار السياسي والاقتصادي أكله وظهرت ثمراته في عهد عثمان بصورة محدودة، ثم ابتداءً من عهد علي الذي ظهرت فيه مدرسة الخوارج على أثر الفتنة التي سبَّبَها قرار التحكيم» (ص36).

عالج الكتابُ هذه الإشكالية عند أغلب مدارس الفكر الإسلامي في أكثر من موضع (انظر مثلاً الصفحات: 43-47، 66-68، 90، 239، 338)، وتناولها أيضاً في سياقاتٍ جدالية أخرى، منها سياق التفرقة بين «إمارة المؤمنين، وإمارة الجماعات» (ص83-89)، وسياق المقارنة بين «غيبة الإمام» عند الشيعة و«غيبة الخلافة» عند السنة (ص146-155).

ورغم كثرة المطارحات التي انخرطت فيها مختلف المدارس قديماً وحديثاً من أجل حل هذه المعضلة المزمنة، إلا أنَّ أُمتنا لم تصل بعدُ إلى بر السلامة، ولا يزالُ قانون «التغلب والقهر» هو السائدُ في الوصول إلى السلطة والخروج منها. ولم تفلح موجةُ الربيع العربي في تغيير هذا القانون، وبقي على حاله الذي كان عليه منذ معركة صفين. ومن حق شباب الأمة اليوم أن يسألوا: أين مكمن الخطأ؟ ولِمَ تظلُّ أمتنا بالذات دون غيرها من أممِ الأرض ترزح تحت قانون «التغلب والقهر»؟ وكيف يمكن تغيير هذا القانون، أو على الأقل تعديله، من أجل الخروج من ضيق الاستبداد إلى سعة الحرية أسوة ببقية الأمم الحرة؟

من يقرأ هذا الكتابَ يخرج بنتيجة واضحة في هذه المسألة وهي: أنه لا يجوزُ الخروج على الحاكم الجائر باعتبار أن حقنَ دماءِ المسلمين أولى من عزلِ حاكمٍ لا يضمنون من يتولى الأمرَ بعده (انظر مثلاً صفحة 66 ومواضع أخرى). أهل السنة يقولون بهذا الرأي. والإباضيةُ يوافقونهم. وحاصلُ قول الزيدية هو تركُ السلطة لمن يتغلب عليها ويخرج بها عن أوامر الله، لأنهم يجيزون «أن يتنحى الإمام إن لم يجد جماعةً يعينونه على أمر الله، ويأتمرون له ويجاهدون معه». وكذلك الأئمة: مالك، وابن حنبل، وابن تيمية، لا يجيزون الخروج على الحاكم ولو كان ظالماً متغلباً تجنباً للفتنة وحقناً للدماء.

أما الشيعةُ الإمامية، فقبلَ أن يتطور فكرهم السياسي بنظرية ولاية الفقيه التي أنضجَها الخميني وقاد بها ثورة عارمة خلعت شاه إيران، ظلوا لما يقرب من ألف سنة يعتقدونَ أن الأمةَ لا سلطةَ أصلاً لها في اختيار «الإمام/الحاكم» ولا في عزله، لأنه منصوص عليه، ومعصوم، ويجب انتظاره منذ غاب الغيبةَ الصغري في سنة 260هـ، أو منذ «الغيبة الكبرى» التي يقولون إنها بدأت في سنة 329هــ، ويدعون للإمام الغائب (حتى اليوم) بأن «يعجلَ اللهُ فَرَجَه»(!).

في هذه المسألة، انتصر العلامةُ سليم العوا لرأي ابن حزم، وقال إنَّه يذهبُ إلى ما ذهب إليه وهو: «أن الواجبَ إن وقع شيءٌ من الجور، وإن قلَّ، يُكَلم الإمام في ذلك، ويُمنع منه، فإذا امتنعَ وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة والأعضاء ولإقامةِ حدِّ الزنا والقذف والخمر، فلا سبيلَ إلى خلعِه، وهو إمام كما كان، لا يحلُّ خلعُه، فإن امتنعَ من إنفاذ شيءٍ من الواجبات عليه، ولم يراجع، وجب خلعُه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق» (نقلاً عن: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج5، ص16).

ولكن السؤالَ القديمَ لا يزال شاخصاً، والإشكالَ لا يزال بلا حل، من ثلاث جهاتٍ على الأقل: أولُها أن القول بأن «يُكلم الإمام» وينصح ويمنع، لم يتضمن بيان كيفية أداء هذا «التكليم»، ولا أدوات «النصح والمنع»، ولا كيفية إقامة الإمام الجديد، وهل يكون الخروج سلمياً أم مسلحاً؟ ولماذا صيغة «المبني للمجهول» في عبارة ابن حزم «يُكلم» التي تضفي غموضاً فوق غموضٍ؟ وألا يفتح هذا الغموض الباب واسعاً أمام بزوغ قانون «التغلب» ليفعل فعله؟

وثانيها: أن «احتمالَ» استجابةِ الإمام وإذعانه للنصح وإقلاعه عن الجور وعودته للحق، إن جاز في زمن ابن حزم فإنه عسيرُ «الاحتمال» في هذا الزمن المعاصر لسبب موضوعي وهو: أن انتخابَ الحاكمِ أو بيعته – بعد تغلبه – لم تعد تتم «على العملِ بكتاب الله وسنة رسوله» كما كانت في تلك الأزمنة؛ وإنما تقومُ على أساس «احترام الدستور والقانون»، وفيهما ما لا يتوافق – ولو قليلاً – مع كتاب الله وسنة رسوله.

وثالثها – وهو الأهم – أن ما ذهبَ إليه ابن حزم (وغيره) لم يأتِ على مسألة «الشورى»، وهي من ثوابت الإسلام في شؤون الحكمِ وأساس شرعية السلطة، وإنما جاءَ بما يفيدُ وجوب الطاعة، وهي من المتغيرات ومن توابع الشورى. ومعنى هذا أن ما ذهب إليه لم يختلف في جوهره عما ذهبَ إليه جمهور السنة، وهو ما يتمخض في حاصله عن «تثبيت المتحرك وتحريك الثابت»: أعني تثبيتَ الطاعة، والأصل فيها أنها مشروطة وتابعة للشورى الحرة، وتحريك الشورى، والأصل فيها أنها ثابتة لا يجوز تجاوزها، وإلا باتت شرعية السلطة ناقصة، وأغْطَشَ الاستبدادُ ليلَها وضُحَاها.

يتبع…



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.