منذ انفراط عقد الأمة الإسلامية بسقوط الخلافة العثمانية والسؤال الملح على العلماء والمفكرين: من يعيد للأمة وحدتها؟ في هذه المقالة التي كتبها الدكتور محمد يوسف موسى محاولة منه للإجابة على هذا السؤال. كتب موسى المقال قبيل انقلاب يوليو بأشهر قليلة، وكان الناس في مصر يشعرون بفراغ البلاد من زعيم سياسي يخرج مصر من أزمتها السياسية منذ إلغاء معاهدة الاستقلال في سنة 1950 وما أعقبها من أحداث جسام.

والدكتور محمد يوسف موسى من علماء مصر بالشريعة والقانون ولد سنة ١٨٩٩م بالشرقية، حفظ القرآن صغيرًا، واتجه للدراسة في الأزهر حتى نال منه درجة العالمية، ثم درس الحقوق واشتغل بالمحاماة الشرعية، ثم تركها وعين مدرسًا بكلية أصول الدين بالأزهر، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من السوربون، ترك عدة مؤلفات في الأخلاق والفلسفة، وترجم عن الفرنسية بعض الدراسات الخاصة بتاريخ الفلسفة في الشرق والغرب، وقد وافته المنية سنة ١٩٦٣م.


العالم يحتاج إلى الإسلام

نعم! الإسلام بحاجة اليوم إلى زعيم يلم شعثه، ويجمع متفرقه، ويوجهه نحو الخير، ويجعله حقا قوة من قوى العالم الحي الذي يسير قُدُمًا إلى الأمام، ويسهم بذلك في سعادة البشرية في الإسلام، باعتباره دينًا له عقائده وتشاريعه ومُثُلُه العليا. قوى مذخورة لا بد من الإفادة منها في قيادة العالم، وكل ما علينا هو أن نستخلصها منه.

وفي الأمم الإسلامية، إن وجدت الزعيمٙ الموجِّه القادر المخلص، قوى مادية ومعنوية لا غناء عنها للبشرية. هذا كله بدهي لا يحتاج إلى بيان، وهذا كله يحسه كلٌّ منا ويملأ به فمه حين يتحدّٙث إلى أخيه في الدين أو الوطن.

لو لم يكن العالم في ماضيه وحاضره ومستقبله بحاجة إلى الإسلام، ما اتصلت السماء بالأرض لتوحي به وبرسالته، فإن هذا الاتصال، وهو خرق لقوانين الطبيعة، لا يكون إلا حين تدعو الحاجة الملحة والضرورة المطلقة. وكذلك كان الأمر حين نزل وحي السماء بدين جديد يوائم الإنسانية وقد بلغت رشدها، بعد أن استنفدت كلٌّ من اليهودية فالمسيحية أغراضهما، ويوائم أيضًا الإنسانية في جميع ما تمر به من مراحل وأزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولكن هذا الدين على حاجة العالم له، ومع قيام نهضة أوروبا على كثير مما جاء به ومما خلد على الزمن من تفكير أعلامه، صار الآن مهملًا من أصحابه، وصارت دُوله نهب الطامعين، وصاروا لا شأن لهم في كثير من أمورهم بله أمور العالم عامة! لماذا؟ لأن الأمة الإسلامية لا تجد منذ زمن طويل الزعيم المؤمن حقًّا بإسلامه ورسالته، فيأخذ بيدها إلى الأمام لتقعد مقاعد العز والمجد بين الأمم المختلفة.

نحن لا نشكو القلة في العلماء والمفكرين؛ فعندنا بحمد الله علماء مُبرّٙزون في التشريع والتاريخ والآداب والفنون، وعندنا كذلك كُتاب مشاهير، وخطباء مصاقِع، وأطباء نطاسِيُّون، ومهندسون بارعون، ودهاقنة في أمور المال والاقتصاد، إلى أمثال هؤلاء وأولئك ممن يقوم عليهم بناء الأمة ولا تستغني عنهم الدولة. ولكن، مع هذا كله، نرى البلاد الإسلامية لا تسير على الجادة المستقيمة، ولا تكاد تسير برأيها الخاص وفق تقاليدها الخاصة في موكب العالم. ذلك، ونكررها مرة أخرى بأن العالم الإسلامي فقد منذ زمن طويل الزعيم المؤمن بدينه وشريعته، الفاهم لرسالته، المخلص لدينه ولقوميته؛ الزعيم الذي يجعل همه من حياته بيان طريق الخير وحمل أمته عليه، والأخذ بيدها لتسير فيه، سر ذلك الغربُ أو ساءه.


حاجتنا إلى تعليم الزعامة للشباب المسلم

نحن بحاجة إلى زعيم يفكر في الغاية التي يجب أن نصل إليها، ويقدر الوسائل التي يجب اصطناعها، ولو قلب في هذا السبيل نُظم التعليم مثلا رأسًا على عقب لتستطيع المدرسة خلق الشباب المسلم، ويعمل على حمل قومه على الإسلام الصحيح عقيدة وقولا وعملا قبل محاولة حمل الآخرين عليه.

إن نظام التعليم الحديث، في الأزهر والجامعة على السواء، قد فشل في أداء رسالته، وهي تخريج جيل يحسن الإفادة بما تلقن من علم وحاز من ثقافة صالحة، جامعًا إلى هذا الاعتزاز بدينه وقوميته ووطنه وضميره وكرامته. إن هذا النظام قد أخرج، ولا يزال، لنا من الشباب من يقول ولا يفعل، ويدعي ولا يحقق، ويتمنى ولا يريد، أو يريد ولا يصمم على بلوغ ما يريد، ومن يعرف الدين دون أن يخالط الإيمان الحقُّ قلبٙه فينزِل دائمًا عليه في حكمه، ومن يعتز بأوروبا ويفتتن بكل ما رأى فيها دون تفرقة بين الحق والباطل والنافع والضار!

إن ممن تخرجوا على نظام هذا التعليم – حتى من الأوربيين – يفهم كيف تسخّٙر الكهرباء والبخار وسائر قوى الطبيعة، للطيران في الهواء والسباحة في الماء ولكنه مع هذا كله لا يحسن أن يمشي على الأرض! ونظام هذا قصاراه، وتلك نتائجه، يجب التغيير منه، إن لم نقل تغييره كله من أساسه، ليقوم على أسس جديدة تجعله يخلق الشاب المؤمن الكامل في طباعه وخلقه، الفاهم حقا لرسالته التي تجمع بين عز الدنيا وسعادة الآخرة.


الزعيم الذي نريده

نحن بحاجة إلى زعيم يعتقد مع شاعر الإسلام السيد (محمد إقبال) أن مقام المسلم في هذا العالم مقام كبير خطير؛ مقام الإمامة والتوجيه، لا مقام التقليد والاتباع، فإنه لم يخلق ليندفع مع التيار، ويساير الركب البشري حيث يتجه ويسير؛ بل خُلق ليوجّه المجتمع البشري والعالم والمدنية، ويفرض على البشرية اتجاهه ويملي عليها إرادته، لأنه صاحب الرسالة والعلم اليقين، ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهاته. إن هذا المسلم ليس له، إذا تنكر له الزمان وعصاه المجتمع وانحرف عن الجادة، أن يستسلم ويخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر، بل عليه أن يثور عليه وينازله ويظل في صراع معه حتى يقضي الله في أمره. وما أحسن ما يقول السيد (محمد إقبال) حرفيًّا، متمثلا في هذا المقام: «سألني ربي هل ناسبك هذا العصر وانسجم مع عقيدتك ورسالتك؟ قلت: لا، يا ربي! قال: فحطمه ولا تبالي!».

نريد زعيما يرى أيضا مع شاعر الإسلام أن الخضوع للأحوال القاسرة والأوضاع القاهرة، والاعتذار بالقضاء والقدر، من شأن الضعفاء والأقزام؛ أما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد. وفي ذلك يقول (إقبال) حرفيًّا: «إذا أحسن المؤمن تربية شخصيته، وعرف قيمة نفسه، لم يقع في العالم إلا ما يرضاه ويحبه».

نريد زعيمًا يرى، مع هذا كله، أن الدنيا لا قيمة لها، لا يهمه منها إلا ما يعينه على أداء رسالته. كما يوقن أن من تعدهم كبراء وعظماء ليسوا من ذلك في شيء إذا وزناهم بالميزان الصحيح، وأن هذا الميزان هو مقدار ما يقدمونه للدين والوطن والإنسانية من خير، وإن الإسلام لا يعرف احترام الرجل لنسبه أو جاهه أو ماله فحسب. ولكن، من لنا بهذا الزعيم وقد أكثرنا من تعداد خصائصه؟ إنه لم يكن صاحب رسالة إلا وقد صنعه الله على عينه وأعده لأداء رسالته، وقد ختم الله رسالاته وسله؛ ولكنه ترك لنا بعد هذا ما إن تمسكنا لم نضل، وهو القرآن العظيم والخير – كما يقول الرسول الأعظم – لا يزال في أمته إلى آخر الدهر، فلماذا لا نلتمس هذا الزعيم التماسًا في البيئات الصالحة لإثباته وإعداده وهي البيئة الدينية؟

إن الناس لا يزالون بحمد الله ينقادون بعامل الدين واسمه، أكثر من أي عامل آخر، لأن الإنسان متدين بطبعه كما يقولون، ولنا في آية الله كاشاني

[1]

على ما نقول أي دليل!

إن لنا إذن أن ننتظر ظهور هذا الزعيم من البيئة الدينية الوحيدة عندنا وهي الأزهر، لو أحسن القائمون على الأزهر اكتشاف العناصر الصالحة من أبنائه، وأحسنوا بعد هذا القيام عليهم؛ ليكون منهم فيما بعد الدعاة الأقوياء للدين ورسالته، لا يعيشون إلا لهذا الهم الكبير؛ وليكونوا رجالا يسمع لهم حين يتكلمون وقادة نلتف حولهم حين يتحركون والله هو المستعان، الموفق للصراط المستقيم.


* نُشر بمجلة الرسالة، العدد (٩٦٦)، ٧ / ١ / ١٩٥٢م.

[1]

أحد زعماء الشيعة في إيران، ورئيس مجلس النواب الإيراني أثناء حكومة محمد مصدق.