مش قصدي يا عم… كنت بهزر!

كثيرًا ما تتردد مثل تلك العبارة السابقة بتنويعات مختلفة، لتحاول أن تُغلِّف بغشاءٍ رقيق من الاعتذارية واللطافة ما يحتقن به الأسلوب الساخر الذي سبقها من عدوانية وكراهية وتهجم.

نعرف جميعًا مصطلح «دس السم في العسل»، وهو يعبر عمّا يفعله البعض عندما يغلفون أوصافهم القاسية لغيرهم، وعدوانيتهم الكلامية، ببعض السخرية والضحك. بل إنني لا أبالغ إذا قلت إنَّه يكاد لا يخلو أي مزاحٍ ساخر من رسائل جادة خفية، سواءً كانت إيجابية أو سلبية، لا يجسر المازح على التعبير عنها بشكلٍ مباشر لاعتباراتٍ مختلفة. إذًا فالسخرية في أحيانٍ كثيرة

لا يكون هدفها التظرًّف

، إو إسعاد الآخرين، إنما تكون غضبًا أو حسدًا أو شعورًا بالنقص- أو كل هذا- متنكرًا.

ففي

دراسةٍ أُجريت على 26 شخصًا

في علاقات رومانسية حميمة، اعترف المشاركون أنهم كثيرًا ما لجأوا إلى أسلوب السخرية اللاذعة -العدوانية-

لتمرير انتقاداتهم

للطرف الآخر التي لا يجرأون على التعبير عنها بشكلٍ مباشر، خشية  تحول الأمر إلى صدامٍ.

وفي استعراضنا

للسخرية العدوانية

لا نتحدث هنا فقط عن مواقف استثنائية يتعرّض لها البعض منَّا، إنما عن ظاهرة حقيقية متفاقمة أصبحت من سمات عصرنا هذا، وعزَّزتها مواقع التواصل الاجتماعي التي تحظى فيها الصفحات الساخرة والأنواع المختلفة من «الكوميكس» و«الميمز» بنصيبٍ كبير من المتابعة. وتنتشر السخرية العدوانية في مختلف سياقات العلاقات البشرية، في الزواج، وفي العمل، وفي دوائر الأصدقاء… إلخ، وتلك السخرية العدوانية

تهدف إلى الإيذاء النفسي

والتنفيس عن مشاعر سلبية دفينة تجاه منْ يتعرض لها.

وليس المقصود بهزيمة السخرية العدوانية أن نتجنب فقط أن نكون ضحايا، إنما أيضًا ألّا نكون نحن ساخرين عدوانيين، فالسخرية العدوانية أحيانًا ما تكون حلقة مفرغة جهنمية من الفعل ورد الفعل، ودورنا أن نكسر تلك الحلقة، لا أن ندور بها في الاتجاه المضاد. والعناوين التالية ستساعدُنا في تلك المهمة:

1. مراكمة خبرات معرفية واجتماعية

كلما راكمَ المرء خبراتٍ اجتماعية بالاحتكاك بأوساطٍ مختلفة من البشر فكريًا واجتماعيًا، وكلما زاد إطّلاعه النظري والعملي في فروعٍ عديدة من المعرفة، أصبح أكثر قدرة على التعامل المثمر مع أنماطٍ متنوعة من الناس، وأصبح أقدر على تشخيص السخرية العدوانية من بين طيَّات كلام الآخرين، واختلاف نبرات صوتهم، وفي ثنايا أفكارهم المباشرة أو تلميحاتهم غير المباشرة. وتلك الخبرة هي خط الدفاع الأول ضد العدوان الساخر.

وكذلك فإن توسع دائرة معارفنا الاجتماعية يزيد الشعور بالثقة، وتُوفِّر الدعم الاجتماعي، والذي يجعل الشخص أكثر ثقة في نفسه، وأميَل للأنواع الإيجابية من السخرية، وأبعَد عن الحاجة للجوء للسخرية العدوانية، وهذا يشبه ما أظهرته نتائج

دراسة أُجريت

على 440 من طلبة المدارس الثانوية، لدراسة العلاقة بين مدى الدعم الاجتماعي للطالب وأنماط السخرية والمزاح.

2. التدرب على السيطرة على انفعالاتك


إن أشد ما يرغب فيه المعتدون بالسخرية هو أن تغضب أو يظهر عليك الحزن والألم من جرَّاء ما قالوه. فوّت عليهم تلك الفرصة، بأن تُدرِّب نفسك شيئًا فشيئًا على

ألّا تُظهر انفعالاتك

، فهذا يفوت عليهم الجانب الأهم من متعة عدوانهم الساخرة، ويقلل فرص محاولتهم لتكراره.

3. التجاهل

هذا هو

الأسلوب الأفضل مع الغرباء

، كأن يرميك سائق آخر بتعليق سلبي ساخر أو تهكمي أثناء قيادتك لسيارتك، أو حتى إذا وصل إلى مرحلة تقترب من السباب الساخر، فالأنسب لك والأنكى إليه أن تتجاهله تمامًا، ليس فقط بعدم توجيه سباب مضاد له، أو إيقاف سيارتك فجأة ثم التوجه للاشتباك معه، إنما بأن تصوِّب عينيْك على طريقك، وكأنَّ شيئًا لم يكن، ولا تمنحه حتى مجرد نظرة عابرة عبر مرآة سيارتك. التجاهل الجيد كفيل برد اعتبارِك بإغاظةِ المعتدي حتى الأعماق.

4. التغابي

لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ في قَومِهِ *** لَكِنَّ سَيِّدَ قَومِهِ المُتَغابي





الشاعر العباسي أبو تمام.

يحتاج منْ يلقي السخرية بوجه عامٍ إلى أن يفهم المستمع المعنى غير المباشر لكلامه، فإذا اضطر للشرح، فَسَدَت السخرية. من الوسائل الناجحة لمواجهة السخرية العدوانية أن تتظاهر بأنك لم تفهم المقصود الساخر غير المباشر، وأن تأخذ الكلام على ظاهره.

فمثلًا إن سخر منك أحدهم قائلًا بنبرة تهكمية (ما هذا الأداء القوي!) وهو يقصد التقليل من أدائك، فرُدّ عليه بشكره على هذا الإطراء، ويمكن أن تزيدَ على ذلك إن سمح الموقف قائلًا: «إن أدائي القوي هذا لم يكن ليحدث لولا دعمك وتشجيعك المستمر لي!». بهذا ستضطره إمّا أن يسكت ويُمرِّر الموقف وهذا الأرجح، أو أن ينفعل ويتخلى عن الغطاء الساخر، ويضطر للأسلوب الهجومي المباشر، وهذا يمنحك حق الرد المباشر دون تلطيف بالسخرية.

5. وضع الحدود

البعض يستغلون تعاملنا الودي والحميم، لانتهاز الفرص، وتوجيه ضربات السخرية العدوانية إلينا. ولذا،

فوضع حدودٍ

جادة بيننا وبينهم، تجعل التعامل قاصرًا على النمط الرسمي، وما يفرضه طبيعة العمل فحسب، دون السماح بانتقال العلاقة إلى الدوائر الأكثر عاطفية وودية، وهذا كفيلُ بسدة ثغرة بارزة لنفاذ السخرية العدوانية إلينا.

6. الرد بالحسنى والمواجهة اللطيفة

يشبه هذا منطق الآية الكريمة في سورة «الفرقان» والتي تستعرض صفات عباد الرحمن: «وإذا خاطبَهُم الجاهلون قالوا سلامًا». ويمكن تخصيص تلك الآلية الدفاعية بالأساس لمنْ استخدموا ضدنا نوعًا من السخرية العدوانية، لكنهم أشخاصٌ مهمّون لنا واستدامة علاقتنا بهم لا مفر منها (أفراد في الأسرة – أصدقاء قدامى – زملاء عمل…).


لا بد هنا من المواجهة

، متحدثينَ

بنبرةٍ هادئة وتعاطفية

ما أمكن مع الشخص، نؤكد من خلالها أنه رغم تفهمنا لطرافة سخريته، فإنها  بغير قصدٍ منه قد سبَّب لنا نوعًا من الأذى، وأنَّ الأفضل لاستدامة علاقتنا، وتقديرًا لمدى أهميتها، لا نفضل هذا النوع من السخرية. مثل هذا العتاب الهاديء قد يكون له صدىً إيجابيٌّ في أكثرية الحالات، ولو بالتكرار، وبالتساند مع الطرق الأخرى التي ذكرناها بالأعلى.

اقرأ:

أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية

7. خفض سقف توقعاتك

لا تنتظر من الوسائل السابقة أن تقضي قضاءً مُبرَمًا على كل ما تواجهه من أشكال السخرية العدوانية، وأنها ستؤثر إيجابًا على المعتدين وتدفع بهم إلى

تغير جذري

إيجابي في شخصياتهم وطريقتهم في التعامل والتفاعل. إذا رفعت سقف توقعاتك بهذا الشكل، فالإحباط الشديد هو النتيجة الحتمية.

القدرة على تحجيم العدوان الساخر عليك بشكلٍ جزئي، هو نجاح مبدئي جيد، يمكن مراكمة المزيد فوقه، وذكِّر نفسك دائمًا أنك إنسان لا يخلو من هشاشة، ويكفيك دفع الضرر عن نفسك، وكسر حلقة الأذى المفرغة، أمّا محاولة إصلاح الكون فهو بعيد المنال في معظم الأحيان.

8. الاستفادة من السخرية

من أهم الأدوات الاجتماعية التي علينا العمل لاكتسابها في هذا العصر، القدرة على إنتاج السخرية، لا مجرد فهمها ومقاومتها، وليس هذا فقط من باب أنه لا يفل الحديد إلا الحديد أو العدوان الساخر المضاد، أو العدوان الساخر الاستباقي، إنما أيضًا لتحصيل الفوائد الذهنية والنفسية للسخرية.

الأشخاص القادرون على إطلاق النكات الساخرة على غيرهم، وكذلك هؤلاء القادرون على استيعابها والرد عليها، هم بلا مبالغة

أذكياء بشكل متميز

، والمفاجأة أن العديد من الدراسات العلمية تؤكد هذا الأمر، وذهبت

نتائج بعضها

إلى أن السخرية تُنمِّي القدرة على الابتكار لدى مُبدعي النكات ومُتلقيها على حدٍّ سواء، مع

شرطٍ مهم

، أن تكون تلك السخرية بينَ أشخاصٍ مُقربين فعلًا، ولا تحمل توجهًا عدوانيًا خفيًا أو ظاهرًا.

كما تلعب السخرية دورًا بارزًا في

الوقاية من الإصابة

بالاكتئاب واضطرابات القلق النفسي، وهذا بالطبع إلى جانب الفائدة المعروفة للسخرية

بتخفيف الضغط

النفسي والعاطفي الكبير للأحداث السيئة، والصور والوقائع الصادمة، مع الحذر من الإغراق في استغلال السخرية لهذا الغرض حتى لا نقع في اللامبالاة والعدمية، ولكن لهذا حديثاً آخر.