ما أن تحلُّ ذكرى أكتوبر لا تستدعي الذاكرة إلا مشاهد الجبهة المصرية وأحداثها. جندي مصري يحتفل برفع علم بلاده على رمال سيناء. وآخر يضع قدمه على دبابة إسرائيلية محترقة.

ربما يرجع
هذا إلى الزخم الإعلامي والفني الذي تحتكره القاهرة عن باقي دول العالم العربي.

فضمنت
بفنِّها وأفلامها ورواياتها تخليد ذكرى النصر على جبهتها في العقول إلى الأبد، وهو
ما فشلت في تحقيقه كافة الدول العربية الأخرى برغم جسامة تضحياتها وعِظَم
انتصارها، وعلى رأس هذه الدول سوريا والعراق.

وإذا كانت الجبهة السورية في حرب أكتوبر تستحق لقب «الجبهة المنسية» بسبب ندرة المعلومات التي تحدثت عنها وقلة الصور والأفلام التي خلّدت أوضاع هذه الجبهة خلال الحرب، إلا أن مشاركة العراق، كأكبر جيش عربي أسهم في أعمال القتال بعد مصر وسوريا، يجعله يستحق لقب «أمير النسيان» بعد ما بلغ قوامه 18 ألف جندي في أقل التقديرات.

وهو ما تم التعبير عن صراحة في مقدمة كتاب «دور الجيش العراقي في حرب تشرين»، بالقول إنه «رغم كل الحقائق التي تؤكد أن العراق ذهب إلى الحرب على أساس أنها حربه، لا حرب حلفائه، و قدّم كل ما يستطيع تقديمه في الظروف التي وُضِعَ فيها، فإن دور قواته المسلحة بقي مجهولاً للقارئ الذي حدثته وسائل الإعلام العربي عن دور اللواء الأربعين الأردني أكثر من أن تحدثه عن دور تسعة ألوية عراقية تعادل دباباتها سبعة أضعاف الدبابات الأردنية، وتُعادل مسافة انتقالها إلى ساحة المعركة عشرة أضعاف مسافة انتقال اللواء الأردني. ولسنا نريد من هذه المقارنة الانتقاص من بطولة جنود وضباط اللواء الأربعين الأردني، ولكننا نريد التأكيد على أن بعض وسائل الإعلام العربي حاولت أن تسرق من الجندي العراقي بطولاته وأن تلقي الظلال على حقه في الاستشهاد دفاعاً عن قضية العروبة كلها».

حتى الآن لا تزال مقابر الشهداء في منطقة السيدة زينب بدمشق تأوي رفات 74 شهيدًا عراقيًا ضمن المقابر المخصص لأبطال معارك الدفاع عن الأرض، فماذا فعلت بغداد في الحرب؟ وما طبيعة المساهمة العراقية في نصر أكتوبر؟

عليهم.. عليهم

شارك الفريق نزار الخزرجي، رئيس أركان الجيش
العراقي إبان الحرب مع إيان، في الحرب وتعرّض إلى جوانب كثيرة منها في مذكراته،
وخلال اندلاع المعركة كان يقود أحد أفواج القوات الخاصة.

يقول نزار، إنه فوجئ، شأنه شأن باقي القادة العراقيين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، بموعد القتال، وعلى الرغم من حالات التوجس الأمني التي عاشها العراق بسبب الأكراد في الشمال وجارته الفارسية اللدودة إيران، وتخوف قادته من استغلال أي فراغ عسكري في العراق للهجوم على بغداد، فإن الجماهير العراقية تجاهلت كل هذا وعاشت أجواءً حماسية إزاء الانتصارات المصرية والسورية في يوم الحرب الأول، والذي كان الجيش العراقي أحد المساهمين فيه عن طريق سربٍ من قواته الجوية (20 طائرة هوكر هنتر).

سعت بغداد لأن تأمن مكر طهران فأصدرت بيانًا طالبتها فيها بـ«إعادة علاقات حُسن الجوار والتعاون، وحل المشكلات القائمة وفق روح الجيرة وروح الروابط الإسلامية التي تجمع بين الشعبين العراقي الإيراني» حتى تتفرغ الأمة العربية إلى «أشرف المعارك».

وفي المقابل كان السرب العراقي يخوض المعركة
ببسالة، ووفقًا لما أكده الفريق سعد الدين الشاذلي، في مذكراته أن السرب العراقي
أثبت نجاحًا كبيرًا في تنفيذ كافة مهامه القتالة، حتى أن الوحدات البرية المصرية
كانت تُطلبه تحديدًا لمعاونتها في عملياتها العسكرية.

وعلى الرغم من علاقة التنافر التي جمعت بين القيادة العراقية وحافظ الأسد، فإن بغداد تحركت في اليوم التالي للمعركة مباشرةً آمرة وحداتها البرية بالتحرك فورًا إلى الجبهة القتالية.

جرت عملية واسعة لنقل الحشود العسكرية العراقية مسافة ألف كيلومتر على الأقل حتى تبلغ الجبهة السورية، وهي عملية أنهكت طوائف المدرعات العراقية وحرمت الجنود من النوم أيامًا طويلة، لكنهم طوال الطريق كانوا «عليهم.. عليهم، يكفي مذلة، يكفي مهانة».

وأعلن جورج صدقني وزير الإعلام السوري وقتها في مؤتمر صحفي،أن القوات العراقية تؤدي واجبها ببسالة وتقاتل العدو الصهيوني ببطولات خارقة وتكبده أفدح الخسائر، إن العراق قطر شقيق، يتحمل مسؤوليته القومية في المعركة.

شهد يوم الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، وصول اللواء المدرع 12 إلى سوريا، والذي لم يأخذ وقتًا لالتقاط أنفاسه، وإنما هبطت دباباته من ناقلاتها إلى هضبة الجولان مباشرة.

وفي هذا الوقت كانت سوريا تعيش أوضاعًا صعبة
بعدما ألقت إسرائيل بثقلها كله ناحيتها لتمنعها من السيطرة على هضبة الجولان الاستراتيجية،
ولهذا تكبدت التشكيلات المدرعة السورية خسارات جمّة في الدبابات بلغت في بعض
الأحيان 90% من دباباتها، وعندما حاول اللواء العراق دعم نظيره السوري على محور
(القنيطرة – الكسوة – دمشق) اصطدم مباشرة مع الجانب الإسرائيلي، وتجشّم الجانبان
خسائر كبيرة، لكن هذه المعركة عطّلت تقدم العدو ناحية دمشق.

في يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول، وصل الخزرجي بصحبة فرقته إلى دمشق، لكنه اشتمّ رائحة عدم الاطمئنان إليهم فور وصوله.

يقول: «شاهدتُ عددًا كبيرًا من الدبابات الحديثة من نوع T62 منتشرة في الشوارع، وكان ذلك غريبًا فهذه الدبابات الحديثة كان يجب أن تكون في جبهة القتال لا العاصمة، وكانت هذه الدبابات تعود إلى سرايا الدفاع المسؤولة عن حماية الرئيس السوري التي يقودها رفعت الأسد شقيق الرئيس، والظاهر أنها أُرسلت لمراقبة القوات العراقية المتدفقة على الجبهة خوفًا من قيامها بِانقلابٍ على النظام السوري».

كما يكشف القائد العراقي عن حجم الارتباك
الذي كان الجيش السوري يعيش فيه، كإصدار أوامر التحرك ثم إلغائها أو رفض بعض
الجنود أوامر ضباطهم، وهي جريمة عقوبتها الإعدام في حالات الحرب.

ويعتبر أن القيادات العسكرية السورية ارتكبت عددًا كبيرًا من الأخطاء الاستراتيجية مكّنت الإسرائيليين من استعادة معظم ما خسروه في أيام القتال الأولى.

يحكي الخزرجي أن قوته تمركزت في مدينة الحرجلة، التي تتبع ريف دمشق، وقُدِّر أن يحدث الاشتباك الأول بين قوات الخزرجي والجيش الإسرائيلي في منطقة تل عنتر.

وفي هذه البقعة جرى أول اشتباك عراقي مباشر بين البلدين، وهي المعركة التي جرى الاحتفاء الإعلامي العراقي بها لاحقًا وعُرفت بِاسم معركة تل عنتر.

يحكي نزار، أنه بعد أن زوّدتهم أقمار التجسس السورية ترجّلت مجموعاته استعدادًا للاشتباك وأوقعت بالإسرائليين خسائر فادحة (40 قتيلاً، وتدمير 11 دبابة وبضع ناقلات جند ومستودعات وقود وذخيرة) فيما لم تشهد صفوف العراقيين إلا جريحًا واحدًا.

بعدها خاض الفوج العراقي معركة أخرى لم تنل حظها من الشهرة ولا الاحتفاء الإعلامي وهي اشتباكات تل أحمد التي أوقعت خسائر كبيرة في صفوف الإسرائيليين، وهذه المرة استُشهد 6 مقاتلين عراقيين.

ووفقًا لمذكرات الخزرجي يبدو أن هذا كان آخر اشتباك ميداني بين الطرفين بعد ما خطط لمهاجمة موقع إسرائيلي في كفر ناسج ليلة 19 أكتوبر، إلا أنه تلقى أمرًا سوريًا بإلغاء الهجوم قبل دقائق من وقوعه.

وفي اليوم التالي تلقّى أمرًا بالاستعداد
لعملية قتالية سورية استعدت دمشق لإطلاقها تعويضًا لخسائرها في أيام القتال
الأخيرة، وهذه المرة أيضًا تلقّى أمرًا بإلغاء الهجوم الشامل بعد إعلان مصر وقف
إطلاق النار بمفردها وتخوّف الأسد من خوض المعركة وحده ضد إسرائيل.

انسحبوا فورًا

بعدها أعلنت دمشق وقف إطلاق النار أيضًا، وهو
القرار الذي استشاط له العراق غضبًا بسبب عدم مشاورته فيه، فأمر بسحب كافة قطاعاته
العسكرية وحده بالرغم من طلب سوريا أن تبقى الوحدات بعض الوقت لسد بعض الفراغات
الأمنية.

يقول وزير الدفاع السوري وقت الحرب مصطفى طلاس في مذكراته: «أصيبت سورية بخيبة أمل نتيجة لقرار الحكومة سحب قواتها من الجبهة السورية، وطلبتُ من قائد هذه القوات التريث 4 أيام حتى تأتي نستقبل الدبابات السورية التي ستعوّض هذا الانسحاب، لكنه أكد أن هذا القرار يرجع إلى بغداد وطلب إرسال وفدٍ لبحث هذا الأمر هناك، وهو ما حدث لكن البكر وصدام أصرّا على موقفيهما، وعادت القوات إلى بغداد».

وفي ختام تجربته الأولى في قتال الإسرائيليين، يرى أنهم ليسوا خارقين ولا أساطير كما أقنعت دعايتهم العرب، يقول: «فوجئنا بتواضع أداء العدو، فأفراده تعوزهم الشجاعة والمعنويات، وأكاد أجزم أننا واجهنا في العمليات القتالية مع المتمردين الأكراد مقاتلين وآمرين أبرع من الإسرائيليين».

كما يُشدّد على أهمية الدور الذي لعبته القوات العراقية على الجبهة السورية، بعد ما أوقفت تقدم القوات الإسرائيلية داخل العُمق السوري، وحوّلته إلى الدفاع، وهو ما حفظ ماء وجه القيادة السورية وأمّن لها الخروج بأكبر المكاسب من معارك أكتوبر.

اطردوا الأمريكان من أرضنا

ويكشف جمال الغيطاني في كتابه «حراس البوابة الشرقية»، أن خوض المعركة لم يقف على الناحية العسكرية فقط، وإنما أمرت بغداد فورًا بتأميم حصة أمريكا من شركة نفط البصرة.

وخرجت جريدة الثورة العراقية، لسان حال صدام حسين، بافتتاحية نارية يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول قالت فيها: «أبناء العقار يقاتلون اليوم وسيقاتلون غدًا، وبكل ما يملكون من طاقات إلى جانب أشقائهم في الجبهتين، وفي الوقت نفسه تمتد يد الثورة لاجتثاث آخر المصالح الأمريكية في بلادنا، فلتكن خطوة تأميم حصة أمريكا في شركة نفط البصرة بدايةً لتأميم مصالح أمريكا النفطية في كل مكان من أرض العرب».

مثل هذه الدعاوى كانت سببًا في الخلافات
الضارية التي جمعت بين العراق والسعودية خلال الحرب، ووفقًا لمذكرات وزير التخطيط
العراقي الأسبق جواد هاشم، كان الرئيس البكر يحرص على تجاهل الملك فيصل في أي اتصالات
يجريها مع قادة الخليج بسبب الاختلاف البيّن بين الطرفين على استخدام سلاح النفط.

وفي اليوم 11 أكتوبر/تشرين الأول نشرت جريدة «الثورة» عبر صفحتها الأولى مقالاً حمل عنوان «الأموال العربية تساهم في صنع طائرات الفانتوم»، حرض المقال الجماهير على ضرب كافة المصالح الأمريكية في السعودية والكويت وقطر ودبي.

وبعدها بثلاثة أيام، دعت الجريدة مواطني الدول الخيجية إلى مهاجمة 3 قواعد عسكرية في السعودية، هي قاعدة الظهران وقاعدة خميس مشيط للصواريخ وقاعدة جدة الخاصة بعمليات التجسس، ولأن هذه القواعد تقع في مناطق ذات أغلبية شيعية احتفت الصحيفة بفتوى أصدرها الإمام المعارض للشاه الخميني، والذي كان يقيم في النجف، وأصدر فتوى تدعو المسلمين لنصرة القوات العربية المحاربة.

وفي اجتماع الدول العربية المنتجة للنفط الذي عُقد يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول طالب العراق رسميًا بتأميم كافة الحصص الأمريكية في شركات البترول والتي كانت تبلغ حينها 63% من مجموع إنتاج النفط العربي وقطع كافة العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا وسحب كل الأرصدة المالية العربية من بنوكها.

رُفض هذا المشروع تمامًا واكتفى المجتمعون
باتخاذ قرار يقضي بخفض تصدير النفط إلى أمريكا بنسبة 5% ورفع الأسعار التجارية
للنفط 17%، وهو الإجراء الذي خلق توترًا في العلاقة بين العراق والسعودية امتدَّ
لأشهرٍ طويلة بعد الحرب.