شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 80 لم تتحارب دولتان افتتحت فيهما مطاعم مكدونالد؛ منذ حظيت كل منهما بمطعمها الخاص — توماس فريدمان: السيارة لكزس وشجرة الزيتون. لم تبالغ أدبيات اليسار الجديد التي وصفت «توماس فريدمان» بأنه: رسول الإمبريالية والمقولة التي اقتبسناها أعلاه؛ تكشف جزءا مهمًا من آليّة عمل ما يُسمّى ب«العولمة»، أو «النظام العالمي الجديد»، وكيفيّة هيمنة هذا النظام على العالم من خلال التسوية الماديّة، وتنميط البشر. تلك التسوية التي جعلت من «مؤشر البيغ ماك» (Big Mac Index) لقياس القدرة الشرائية، والذي ابتكرته مجلة الإيكونومست (The Economist) الشهيرة؛ أحد أهم مؤشرات الاقتصاد العالمي، والتي تكشف مُعدّل دمج الدول في منظومة الاقتصاد الرأسمالي؛ بقياس قدرتها الشرائية على استهلاك هذه «الشطيرة الذهبيّة» العابرة للثقافات والعملات. ولا أبالغ حين أذهب إلى أن تتبّع تواريخ توسُّع مطاعم مكدونالد خارج الولايات المتحدة؛ يكفي وحده لفهم خريطة توسّع النمط الرأسمالي وانتشار ثقافته، فضلًا عن قياس القوة النسبيّة لثقافة الدولة ومدى مناعتها على الاختراق، والمدّة التي احتاجها النظام ليُغيّر نمط الاستهلاك فيها، و«ينمّي» قدرة أفقر مواطنيها الشرائيّة ليحصلوا على «البرغر»! افتتحت مكدونالد فروعها في دول أمريكا اللاتينية الفقيرة مثل بورتوريكو (1967) قبل دول أوروبا الغنية مثل سويسرا (1976) فقد افتتح مكدونالد فروعًا في بورتوريكو (1967) وكوستاريكا (1970) قبل اليابان وألمانيا اللتين هُزمتا في الحرب الثانية، واجتاحهما النفوذ الأميركي اجتياحًا. إلا أن مكدونالد لم يلج هذين السوقين إلا في عام 1971؛ تاليًا على بعض دول الفناء الخلفي للولايات المتحدة، الأكثر فقرًا! كذا افتتحت فروع بنما (1971) والسلفادور (1972) قبل أحد أغنى الدول الأوروبيّة: السويد (1973)، فضلًا عن بريطانيا (1974) ذات الثقافة «المحافظة»! وقل مثل ذلك في فروع جواتيمالا (1974) وجزر الباهاماس (1975)، التي سبقت سويسرا (1976) بلد البنوك ومقصد الأثرياء، كما سبقت كل دول أميركا الجنوبيّة المستَعمِر السابق لها، أسبانيا؛ التي لم تحظ بمطاعم مكدونالد إلا في عام 1981، بعد زوال آخر آثار الجنرال فرانكو الذي نفق عام 1975. من الجليّ أن توسّع مكدونالد لا علاقة له بوجود طبقة مُترفة من عدمه، وإن كانت تلك الطبقة تُسهِم في استيراد النمط؛ لكنه يعتمد على صعود طبقة وسطى حضريّة قادرة على حمل النمط الثقافي-الاجتماعي وترويجه وضمان استمراره على نطاق واسع، تمهيدًا لفتح أبواب السوق المحلي على مصراعيه، وهو جوهر نظريّة توماس فريدمان في «تجنّب الصراعات»! هذه الطبقة المدينيّة هي التي يقيس مؤشر «البيغ ماك» قُدرتها الشرائيّة. وهو ما يُفسّر مثلًا أسباب بدء مكدونالد نشاطه في ماليزيا «الإسلاميّة» عام 1982؛ بعد وصول «مهاتير محمد» للسلطة بعام واحد، برغم أن الأخير يزعم معاداته للعولمة؛ التي كانت كل إصلاحاته الاقتصاديّة رأسماليّة تصُبّ في مسارها، وتؤدّي لتحسّن أداء ترس الاقتصاد الماليزي في الآلة الرأسمالية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وكأن «سور برلين» كان هو الحاجز بين عبور مكدونالد إلى الاتحاد السوفيتي والصين؛ ليفتتح أول فرع له في موسكو، ثم في شنزن في شهرٍ واحد (يناير/كانون الثاني 1990)؛ وذلك بعد هدم سور برلين بشهرين فحسب، وقبل تفكك الاتحاد السوفيتي رسميًا في ديسمبر 1991! لتتوالى بعد ذلك افتتاحاته في إندونيسيا (1991)، ثم في بولندا (1992)، لتتأخر الهند عن الركب بسبب الثقافة النباتيّة إلى عام 1996، وتتبعها أوكرانيا عام 1997. وبرغم تعرُّض السفارة الأمريكية في بيروت للهجوم بالصواريخ في 21 يونيو 1998، فيما اعتُبر رفضًا لزيارة رفيق الحريري آنذاك إلى واشنطن؛ فإن التحسُّن الملحوظ في الوضع الأمني على الجملة قد دفع بمكدونالد لافتتاح أولى فروعه في بيروت بعدها بثلاثة أشهر: يوم 18 سبتمبر/أيلول من نفس العام. وما زلت لا أجد مُبررًا لتأخر افتتاح فرع باكستان إلى اليوم التالي على بيروت، 19 سبتمبر/أيلول 1998؛ قبيل انقلاب برفيز مشرّف على نواز شريف بحوالي العام. لا زلت لا أجد له مُبررًا إلا ضعف الطبقة الوسطى في الباكستان (الخاضعة كليًا للغرب) من وجهة نظر «الشطيرة الغازية»، في حين أن الشطر الآخر لشبه القارّة قد سبقه بعامين، برغم هيمنة ثقافته النباتيّة! وبرغم أن مكدونالد بدأ نشاطه في أفريقيا والعالم العربي، بافتتاح فرع الدار البيضاء بالمغرب عام 1992، قبل دول الخليج والدول المصدّرة للبترول؛ فإن أول فروعهم فيما يسمى بـ«الشرق الأوسط» كان فرع تل أبيب (فلسطين المحتلّة) في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1993. ويبدو أن الأيديولوجية الصهيوينة لزمها ما يقرب من النصف قرن حتى تتحوّل من رأس حربة لأيديولوجيّة كولونيالية عسكريّة على النمط القديم؛ إلى رأس حربة لأيديولوجية السوق (الاستعمار الجديد)! وبعد حوالي ثلاثة أسابيع من افتتاح فرع تل أبيب؛ افتتح أول فرع في السعودية يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 1993! في خلال مفاوضات كيسنجر مع الفيتناميين في باريس، نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات؛ كان الفيتناميون يرفضون بشكل قطعيّ مجرد تناول العشاء مع «عدوّهم» قبل الوصول لمبتغاهم، برغم تكرار دعوتهم أكثر من مرّة؛ رغبة من شيطان التفاوض المحنّك في إذابة الجليد. كان الفيتناميون يعرفون أن أول طريق التنازُلات هو زوال الحاجز النفسي بينهم وبين عدوّهم. ورُبّما كان هذا الوعي هو سبب تأخُّر غزو مكدونالد لفيتنام، برغم التطبيع الواضح لكثير من مظاهر الحياة الاستهلاكيّة. لكن لم يفتتح مكدونالد أول فروعه في فيتنام إلا في الثامن من شهر فبراير/شباط العام الماضي (2014)؛ في العاصمة «هو تشي منه Ho Chi Minh»، التي سمّيت باسم الزعيم الثوري الشيوعي، والأب الروحي لقوميّة الهند الصينيّة! في عام 1994 وإبان وﻻية هاشمي رفسنجاني افتتحت مكدونالد فرعا في طهران لم يدم إﻻ يومين فقط وبرغم أن «محور الشرّ» الأميركي –المتهم بكسر الاحتكار الغربي للسلاح النووي- مكوّن أصلًا من دولٍ لم تفتتح فيها فروع لمكدونالد، كوريا الشماليّة، والعراق، وإيران؛ فقد اخترق مكدونالد العراق بعد الغزو وافتتح فرعًا واحدًا (2006) لمجنّدي الجيش الأميركي في المنطقة الخضراء، كما افتتح، قبلها بعقد كامل؛ فرعًا في طهران لمدّة يومين فقط خلال عام 1994؛ إبّان الولاية الثانية لرجل الأعمال الرأسمالي، أبي البراغماتيّة السياسيّة الإيرانيّة؛ هاشمي رفسنجاني. ويبدو من تطوّر الأحداث أن التاريخ يسوق دول محور الشر لأحضان مكدونالد تدريجيًا! إلا أن هناك دولًا لم يفتتح فيها مكدونالد فروعًا على الإطلاق، برغم الازدهار النسبي للثقافة الاستهلاكية في طبقتها الوسطي مثل سوريا والسودان. ودول لا تسمح التركيبة الثقافيّة حتى الآن بغزوها مثل أفغانستان. ودول لا زالت تستغني بأنماط استهلاكيّة محليّة مثل كازاخستان ونيبال. ودولة وحيدة يبدو أن مساحتها هي العائق؛ وهي الفاتيكان! بل من المثير اكتشاف أن مكدونالد لم يغزُ البوسنة والهرسك إلا في عام 2011، ويبدو أن إعادة الإعمار عاقت دمج البلد كليًا في المنظومة الرأسماليّة؛ كما كان حال أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية، والتي أنقذها مشروع مارشال من الشيوعيّة وألقى بها في أحضان الرأسماليّة الاستهلاكية! وما زلت أذكر يوم افتتاح أول فروع مكدونالد في مصر، 20 أكتوبر 1994. ففي ذلك التاريخ افتتح مكدونالد فرعين بالقاهرة في آن واحد: فرع بشارع الميرغني بحي مصر الجديدة، وفرع بشارع جامعة الدول العربيّة بحي المهندسين؛ افتتحا في يوم واحد. كنت حينها طالبًا بالمرحلة الثانويّة، وأعمل في مطعم تملكه أسرتي بشارع مُصدّق بحي المهندسين. وقد سمعت بمكدونالد للمرة الأولى من زميل دراسة، فلم يكن الإنترنت شائعًا في تلك الأيام بعد، كما أني لم أكن قد سافرت خارج مصر حتى ذلك التوقيت، فكانت معرفتي برموز الثقافة الاستهلاكية جدّ ضئيلة، وقاصرة على رموز الفن والغناء. نقل إلي ذلك الزميل أساطير عن أكبر مطعم للبرغر في العالم، وحكى عنه بانبهار اكتشفت حجم المبالغة فيه بعدها بوقت ليس بالقصير. ويبدو أن مصدر معلوماته كان شقيقته، المتخرجة من الجامعة الأميركية؛ والتي كانت من أوائل العاملين في الشركة التي كان «نجيب ساويرس» يملك حصّة فيها قبل أن تنحصر ملكيتها إلى اليوم في أسرة منصور الشهيرة التي تملك، بين ما تملك؛ توكيلات: سيارات شيفروليه الأمريكية، ومعدات كاتربلر الثقيلة، ومتاجر سوبرماركت «مترو»، و«خير زمان». ومن المثير أن أشرف السعد، أحد آباء توظيف الأموال الإسلاميين في مصر؛ قد أنقذ مجموعة منصور من الإفلاس خلال عقد الثمانينات؛ بابتياع مخزون سيارات هائل لم يتسن له تصريفه، فقد صادره المدعى الاشتراكي بعدها بوقت قصير! ربما لم يدرك القارئ إلى الآن علاقة الإسلاميين واقتصادياتهم، بنمط المكدونالد الاستهلاكي. فالإشارة لعلاقة السعد بمنصور هي أول إشارة لأحد إسلاميي الاقتصاد المصريين في هذا المقال! لكن نظرة واحدة متفحّصة على تلك الحقبة؛ تجعل الملاحظ يُدرك أن افتتاح مكدونالد في ذلك التاريخ لم يكن مصادفة أبدا. فقد سبقه تمهيد للتربة، وإعداد جيّد قام به –في الغالب- إسلاميون من الجيل الذي حمل مشروع السادات للتحول الرأسمالي، والجيل التالي عليه مباشرة. سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. فالانفتاح الاستهلاكي الذي دشنه السادات، ونجح بسبب الشبق الاستهلاكي الذي فرضته عقود الحرمان الناصري؛ لم يكن لينجح لولا مساعدة الإسلاميين الذين عادوا من الخليج بالأموال التي راكمتها تجاراتهم، عادوا ليحملوا المشروع أملًا بأن تنجو الحركة الإسلامية في قابل أيامها من احتكار الدولة للأرزاق، والذي حطم قدرات جماعة الإخوان المسلمين الاقتصاديّة بسهولة إبّان محنة 1965. لقد ساهمت عمليّة «أسلمة» أكثر المنتجات الرأسماليّة وثقافتها الاستهلاكيّة، والتي اضطلعت بها الكويت في الستينيات ثم السعوديّة في السبعينيات وإيران وماليزيا وتركيا في الثمانينيات والتسعينيات؛ ساهمت في سريان نمط الاستهلاكيّة الإسلاميّة في مصر كالنار في الهشيم، وذلك عبر طريقين: أولًا عودة رجال الأعمال الإسلاميين من السعوديّة ودول الخليج أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينات محمّلين بتلك الأفكار وبرصيد من التجارب الناجحة. ثاني هذه الطرق هو عمق تأثر جيل السبعينيات من الحركة الإسلاميّة بالثورة الإيرانية، التي سعت لبناء نمطها الاقتصادي المستقل، والذي سرعان ما تلبّس بالثوب الرأسمالي ليسهُل دمجه في منظومة الاقتصاد العالمي؛ تقليلًا لاحتكاكات الكيان الوليد مع القوى الغربيّة حتى يتسنّى له بناء نظام سياسي جديد. وهو ما حدث –تقريبًا- في ماليزيا؛ التي شهدنا صعودها الاقتصادي في ذات الحقبة، على يد مهاتير محمد؛ لتكتمل أضلاع مثلث الأسلمة. وإن كان ضلعا السعوديّة وإيران قد طرحا أسئلة أيديولوجية أجاب عنها كل حسب أولوياته، فإن النموذج الماليزي (والتركي بدرجة أقلّ!) قد طرح ذات النمط بدون أي تفاصيل أيديولوجية قد تُلهي عن اقتباسه وتمجيده مهما اختلف السياق الأيديولوجي. ذلك أنه كان يطوي جُلّ الأيديولوجية الاستهلاكية الغربية، مع تدثُّر ببعض الديباجات الإسلامية العامة؛ التي جعلته يلقى قبولًا واسعًا يتخطى حواجز الأيديولوجيات الإسلامية التقليدية بسهولة. وقد ظهرت في ذات الحقبة الجامعات الإسلامية في المدينة المنورة، وإسلام أباد، وكوالالمبور، والبنوك الإسلامية في القاهرة، وجدة، وكوالالمبور، ومراكز الدراسات والأبحاث الإسلاميّة التي تولّت مهمّة التنظير للواقع الجديد، وعلى رأسها «المعهد العالمي للفكر الإسلامي»؛ أحد أهم الأذرع المعرفية السعوديّة-الإخوانيّة طوال عقد كامل: من منتصف الثمانينات إلى منتصف التسعينيات. وتُعدّ مجموعة «زمزم كولا» الإيرانيّة من أوائل محاولات أسلمة النمط الاستهلاكي؛ بصناعة مشروب كولا محلّي تحت اسم إسلامي، كبديل لمنتجات الكولا الأمريكية. وسؤال تصنيع الكولا الإسلاميّة كأحد أولويات النهضة ليس هو ما يشغلني في هذا السياق، فمحاولة أسلمة النسق تعني تمام الاستيعاب داخله؛ إذ أن «زمزم كولا» كانت الشريك الإيراني المحلي لبيبسي العالمية منذ 1954، كما أن الشيخ عبدالله بقشان السعودي هو الشريك العربي الحالي وممثل بيبسي فيما يسمى بالشرق الأوسط! لكن السؤال المثير للتأمل هو لم طرح سؤال الكولا نفسه في السياق الإيراني الذي يُفترض سعيه مخلصًا لبناء نظامه المستقل؟ إن البديل الثقافي المحلّي لن يكون الأقرب أبدا في أي مجتمع حضري أسير لدولة حديثة. ذلك أنه من الأيسر على الثورات وموجات التغيير الراديكالية، في مثل هذه الدولة؛ امتطاء الموجة السياسية والاقتصادية السائدة وتغيير لافتاتها فحسب، خصوصًا حين يبدأ المجتمع المضطرم بالثورة بالجنوح نحو بناء نظام مستقرّ؛ أي الجنوح نحو السكون والخمود واعتبار مقولاته الثوريّة مقولات نهائية. الأمر الثاني أن البازار (حرفيًا تعني السوق = التجار) كان أحد أهم روافد الثورة في إيران، ورأس المال (حتى الإسلامي منه!) يُفضل استثمار القاعدة السوقيّة على إعادة بناء قاعدة جديدة تحتاج بالضرورة لقاعدة سوسيو- معرفية جديدة، وهو ما تكرر في تجارب ماليزيا تحت مهاتير، وتركيا تحت أوزال، ومصر تحت السادات. وتجلى بشكل فاحش بعد ذلك في النشاط الاقتصادي لحركة «فتح الله كولن» والمنتمين إليها، تليها جماعة الإخوان المصرية بشكل أصغر حجمًا، بالنظر للتخوّف من تجربة شركات توظيف الأموال التي أجهضت من قبل. وقد ظلت منتجات «زمزم كولا» هي البديل السعودي الرسمي للكولا الأمريكية لفترة طويلة، انتهت بإطلاق «مكة كولا» على يد رجل أعمال فرنسي الجنسيّة تونسي الأصل وثيق الصلة بالسعوديين، وذلك على إثر فشل المفاوضات بينه وبين الإيرانيين للحصول على حقوق توزيع منتجاتهم! ومنعت السعودية استيراد منتجات «زمزم كولا» بدعوى رفضها لتوظيف الإيرانيين لاسم البئر المباركة، وذلك بعدما رفضت التصريح للإيرانيين بإنشاء مصنع داخل السعودية! سبق افتتاح فرعي مكدونالد في القاهرة عملية تهيئة للسوق من خلال انتشار عربات بيع الوجبات السريعة والبرغر في شوارع القاهرة لقد كان افتتاح مكدونالد لفرعي القاهرة تتويج لتحوّل عميق سبقه بحوالي العقد من الزمان. ومن معالم ذلك العقد انتشار عربات بيع الوجبات السريعة وشطائر البرغر في شارع جامعة الدول العربية، وافتتاح مطاعم مؤمن لأولى فروعها بجوار حديقة الميريلاند بحي مصر الجديدة عام 1988. وقد افتتح والدي مطعمه الأول في شارع «عباس العقاد» في نفس عام افتتاح أصدقائه (آل مؤمن) لمطعمهم في مصر الجديدة. صحيح أن المطعم الذي افتتحه والدي قد غلبت عليه الأطعمة الشعبية مثل الفول والفلافل، لكنه حمل جزءا من النمط الغربي معه على سبيل توسعة الشريحة المستهلكة، وتوفير قدر من التنوّع غير الموجود أصلًا بمنطقة مدينة نصر في ذلك الوقت. لذا؛ كان في افتتاح مطعمنا الثاني في شارع مصدّق بحي المهندسين، بعدها بخمسة أعوام تقريبًا؛ احتفال أكبر بالنمط الاستهلاكي النامي لتهيئة التربة للسلع الغربية الصرفة! في نفس الوقت الذي افتتح فيه والدي مطعمه الثاني تحت اسم «زمزم»، اشتهرت في حي مصر الجديدة مطاعم مماثلة في هويتها الإسلامية الظاهريّة لكنها أقرب كثيرًا للنمط الغربي فيما تقدّم، ولنموذج مطاعم مؤمن. كانت جلّ الأسماء إسلامية المذاق مثل «رحمة»، و«بركة» إلخ، وكان أصحابها من المنتمين عاطفيًا للتيارات الإسلامية، والملتزمين غالبًا بقدر من الهدي الظاهر. وقد أفادت هذه المطاعم فائدة عظيمة من بدء المقاطعة التي تزامنت مع الانتفاضة الفلسطينية؛ خصوصًا ما بقي منها ومُد في أجله، ولم تقض عليه المنافسة، وعلى رأسها مطاعم مؤمن التي توسّعت لتصير مجموعة قابضة تدور في فلك النمط عينه، وتملك وتدير على سبيل المثال: مطاعم «بيتزا كينج»، ومصانع «ثري شيفس» للحوم المجمدة، ومطاعم «بلانت أفريكا». بل إن مطاعم «مؤمن» نفسها قد تمددت إلى ليبيا وماليزيا والبحرين والسودان والإمارات. هذا التمدُد الذي تحقق إبان المقاطعة، وعلى حساب مكدونالد على وجه الخصوص؛ قد هدأت وتيرته بعد استقرار العلامة التجارية ومنتجاتها في السوق المصري، باستهداف شرائح أعرض كثيرًا وأدنى في السلم الطبقي من الشريحة التي بدأت بها. فالنمط الذي يحمله المترفون، وتمنحه الطبقة الوسطى قبلة الحياة، لا يمكن أن يستمر طويلًا بغير استهداف الطبقات الدنيا ومداعبة أحلامها في الانعتاق بسلعه. وإذا كان مكدونالد يفتتح فروعًا خاصّة بالمترفين في أماكن تجمعهم، وقد لا توجد على لائحة فروعه العلنية، فإن الفروع العلنية نفسها تخضع الجودة فيها لتدرّج هرمي حسب الشرائح والطبقات المخاطبة وأماكن وجود هذه الفروع. لكن المنتج المصري المقلّد للنمط لا يمكنه بناء مثل هذه الازدواجية في معايير الجودة لسببين: أولهما أنه ليس بماركة عالمية ذات ألق يحفظ عليها الطلب مهما انحدرت القاعدة الطبقية المستهلكة لمنتجاتها، وثانيهما ينبني على الأول؛ ذلك أنه يعيد تشكيل هويّته كل فترة، ليس بناء على معايير صارمة مفروضة من أصحاب العلامة التجارية في الخارج؛ ولكن استنادًا للواقع وللصورة الذهنيّة التي شكّلها المجتمع عنه. لهذا تنطفئ الماركات المحلّية بأسرع مما تنطفئ الماركات العابرة للقارات، وربما كان الأمل الوحيد للمنتج المحلي في إعادة إنتاج هويّة تجاريّة أكثر قوة واستقرارًا؛ هو التوسُّع الإمبريالي على طريقة المكدونالد، التوسُّع خارج بلد المنشأ مثل سلسلة مطاعم مؤمن. وقد نعيش حتى نرى اليوم الذي تنتهي فيه خلافات السنة والشيعة بعد افتتاح سلسلة مطاعم إسلامية لفروعها في بلدانهم على حد سواء، شرط أن يكون منشأ هذه المطاعم الإسلامية أمريكيًا حتى يُجنّبها التقلّبات السياسيّة النفعيّة التي عصفت بزمزم كولا! قد يعجبك أيضاً بدعة السلفية: هل تُوجد «يوتوبيا إسلامية»؟ «نتفرج وبعدين نُحكم»: لماذا ينطق المشاهير بالحماقات؟ من الشارع إلى النادي: الدولة وإدارة الترفيه في مصر البابكية: ثورة اشتراكية ضد الخلافة العباسية شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram عبد الرحمن أبو ذكري Follow Author المقالة السابقة الدين.. تجربة فردية أم رابطة اجتماعية؟ المقالة التالية المؤتمر الاقتصادي: بعد المليارات.. هل يجني المواطن الثمار؟ قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك هكذا تحكمنا الدولة: ما هو القانون؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك عن التربية فى الحركة الإسلامية (2-2) 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ابن تيمية والسلفية الجهادية بين الشاشة والكتب 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «تم الإرسال من جهاز سامسونج»: أخطاء على الهواء مباشرة 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الدولة المستحيلة مرة أخرى: قراءة نقدية جديدة (3/2) 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ثمن الغربة: جثث المصريين في الخارج محرومة من تراب الوطن 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أجوبة القرآن على الأسئلة الكبرى 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كيف تربي أطفالًا أصحاء بطرق وألعاب بسيطة 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «الجمهور» في عصر العولمة: مشروع الثورة القادمة 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك المنظمات الحقوقية المصرية ومعركة البقاء 28/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.