أيها الشرق طال نومك فانهض للمعالي وصافح الإقبالا

اهـجــر الجـــهل والعمـــــاية هجــــرًا وأعد للعــلم مرقلاً إرقالاً

هكذا كان إسعاف النشاشيبي لديه من الفطنة والوعي، وحب للأوطان ما جعله ينسج هذه الأبيات التي تنم عن مدى إدراكه لما كان يحدث في بلاده التي كانت ترزح تحت الاحتلال، وإدراكه أيضاً أن النهوض لن يتحقق إلا بالعلم والعمل الجاد، وفي ذكرى رحيله الـ 68، كان يتعين علينا أن نلقي الضوء على أديب العربية وخطيب فلسطين، محمد إسعاف النشاشيبي، الذي أخذ على نفسه عهدًا بالدفاع عن اللغة العربية، مهما كلفه ذلك من مشقة وصعاب.


حياته ونسبه

وُلد محمد إسعاف بن عثمان النشاشيبي في القدس عام 1885، واشتهرت عائلته بثرائها وعلمها ومكانتها، فقيل أن جده الأكبر قدِمَ إلى بيت المقدس في عهد الظاهر بيبرس، ونُسبت الأسرة إلى صناعة النشاب التي كانت تمتهنها. ووالده السيد عثمان بن سليمان النشاشيبي كان من أبرز رجال عصره ذكاءً وعلمًا، تقلّب في مناصب الدولة العثمانية حتى أصبح عضوًا في مجلس المبعوثان في الأستانة، ووالدته ابنة الحاج مصطفى أبو غوش الملقب بـ {ملك البر} في جبل القدس.

كان البيت الذي نشأ فيه إسعاف يحصنه العلم، فكانت تنعقد حلقات الدرس في بيت والده، وتضم عددًا كبيرًا من أعيان العلماء، أمثال: أسعد الإمام، وراغب الخالدي، ومحمد جار الله وغيرهم، وكان هؤلاء يقرأون الشعر ويتذاكرون الأدب ومسائل الفقه، وقد كان النشاشيبي يحضر هذه الحلقات، ويسمع نوادر اللغة والأدب، ويعي ما قيل فيها جيدًا، كما كان يطّلِع على الكتب النفيسة في خزائن والده وخزائن الشيوخ، وقد التحق إسعاف بكتاتيب القدس، وأخذ عن شيوخها وحفظ بعض القرآن الكريم، بعدها التحق بمدرسة الحكمة البطريركية في بيروت، وتتلمذ على يد كبار الأساتذة خاصة الشيخ عبد الله البستاني الذي تأثر به وطُبع بطابعه اللغوي، وقد تجلى ذلك في أسلوبه الأدبي، وقد سنحت الفرصة لإسعاف في بيروت وبيت المقدس أن يتعرف على مجموعة من أعلام اللغة والأدب والفكر، أمثال شكيب أرسلان، وأحمد شوقي، والسكاكيني، وحنا العيسى، وعبد العزيز شاويش، وقد ألمَّ بالفرنسية إلمامًا جيدًا أعانه على قراءة بعض الكتب العلمية والصحف.


الانطلاقة والصعود الأدبي

بعدما التحق النشاشيبي بمدرسة الحكمة البطريركية في بيروت، ودرس الأدب على يد الشيخ عبد الله البستاني، كما ذكرنا آنفاً، عاد إلى القدس في نحو العشرين من عمره، وحينها بدأ الكتابة نظمًا ونثرًا في عدد من صحف القدس ومصر وسوريا، وتولى رئاسة مجلة «الأصمعي» في بيت المقدس مدة وجيزة، وكتب في مجلة «النفائس» و «المنهل».

وقد انضم إلى أساتذة الكلية الصلاحية التي أنشأها جمال باشا في بيت المقدس، وألقى أولى محاضراته فيها بعنوان {كلمة في سير العلم وسيرتنا معه}.

وقد أضحى مفتشًا للغة العربية في إدارة المعارف عام 1929، ومن آثاره في هذه المرحلة: «مجموعة النشاشيبي»، و«البستان»، و«قلب عربي وعقل أوربي»، و«كلمة في اللغة العربية»، و«رسالة عنوانها العربية وشاعرها الأكبر أحمد شوقي»، وهي خطبة في مهرجان شوقي، و«العربية والأستاذ الريحاني».

200px-إسعاف_النشاشيبي_شاباً

إسعاف النشاشيبي شاباً

ومن الجدير بالذكر أنه بعدما ترك إدارة المعارف انقطع للكتابة والقراءة والرحلات، فأصدر خُطبًا اقتضتها مناسبات في رسائل قصيرة مثل: «مقام إبراهيم»، و«بيروت والغلاييني» و«البطل الخالد صلاح الدين»، ومقالات متنوعة بأسماء مستعارة أحيانًا، ومن ذلك «سلسلة في الرد على المبشرين» خص بها مجلة الرسالة، وفي أثناء ذلك صدر لـه كتاب «الإسلام الصحيح»، وترك آثارًا مخطوطة حمل منها في الرحلة الأخيرة له إلى القاهرة ثلاثة ليطبعها، وهي «نقل الأديب»، و«أمالي النشاشيبي»، و«التفاؤل عند أبي العلاء»، ومن آثاره في الكتب: «الأمة العربية»، و«حماسة النشاشيبي»، و«جنة عدن”، كما نشر في عام 1912 كتابه «أمثال أبي تمام».


الأديب الثائر

اخطري الـيـوم فـي الربـوع اختـيـــــالاً لا تخـافـي مـن العـدو اغتـيـــــــــالا

لا تخـافـي مـن كـيــده لا تخـافـــــــــي إن كـيــــــد العـــــــــــــــدو ولَّى وزالا

تميز النشاشيبي بكتاباته الأدبية التي يثور من خلالها على الظلم والاحتلال، فقد كان يشترك في معظم الحفلات التي تُقام لمناسبات وطنية وقومية أو أدبية، واتسمت خُطبه وأشعاره بالثورية والتحريضية، التي تدعو الشعب للتحرك من أجل تحقيق الأهداف واستعادة وحفظ الأوطان، كما كان واعظًا ومرشدًا في المساجد، وقد كتب إسعاف الكثير من الشعر والمقالات الأدبية واصفًا ما أصاب الأمة العربية من ضعف وفرقة وتمزيق بين المستعمرين، ودعا الأمة العربية إلى وحدتها وجمع كلمتها، وإلى حمل السلاح لدفع العدوان وتحقيق الاستقلال لها، وإنقاذ فلسطين التي يخطط لها المستعمرون كي تصبح وطنًا قوميًّا لليهود.


المُربّي المستنير

كان إسعاف مربيًا ناجحًا في المدارس، ويُركز على الحماسة في إلقاء الدروس ويرى فيها وسيلة من شأنها إنجاح العملية التربوية، فكان يرى:

إنه إذا أردت أن تغرس الأخلاق والقيم العليا في نفوس التلاميذ، فعليك اختيار النصوص الجميلة من قرآن وحديث وخطب بليغة وشعر فصيح، ثم اقرأ لهم هذه النصوص بفهم ومتعة، وشخصية قوية، لكي يستشعروا حبك لها وحماستك، ثم عُد إلى كل نص من هذه النصوص وعلّق على مفرداتها التعليق الذي يكشف أسرار الألفاظ ودلالاتها المعجمية الدقيقة.

فقد كانت هذه هي طريقة إسعاف في التعليم، طريقة المربي والمعلم المستنير، الذي يؤسس النشء على الفهم والاستمتاع بالعلم.


بين الأصالة والتجديد

كان إسعاف شديد الغيرة على القرآن الكريم واللغة العربية والحضارة الإسلامية، وتبدو غيرته هذه في معظم كتاباته، ولا سيّما كلمته المطولة بعنوان «البطل الخالد صلاح الدين» و«الشاعر الخالد أحمد شوقي»، وقد عاش إسعاف في زمنٍ شهد صراعًا عنيفًا بين دعاة التجديد والمحافظين في اللغة العربية، ولما كان إسعاف من مؤيدي القديم وكان يعي تقدم الغرب على الشرق في مضمار العلم، فقد دعا إلى الانتفاع بالجديد مع حماية القديم ليقوم الجديد على قاعدة صلبة وقوية، فقد كان التجديد في اللغة والأدب عند إسعاف، هو التجديد الذي يحفظ اللغة من كل ما يؤدي إلى فسادها واضمحلالها، التجديد الذي يُطوّر وينمي ويزيد في صرح الحضارة من الجانب الأدبي واللغوي، لا التجديد الذي يقضي على اللغة العربية، ويعتمد اللهجات العامية أو الذي يلغي القافية بدعوة حرية الشعر وتجديده.

كما كان النشاشيبي عضوًا نشيطًا في المجمع العلمي العربي بدمشق، وكان يُصرّ على اعتبار أن اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة، وضعف الأولى ضعف للثانية، وهلاك الثانية هلاك للأولى، وما الأمة إلا لغتها وأدبها وخُلقها.


قدسيّ المنشأ، مصريّ الهوى

كان النشاشيبي مولعًا بالقاهرة، يُكثر من زيارتها، فقد كان له أصدقاء مصريين كُثر، منهم شاعرها الكبير وصديقه الحميم، أمير الشعراء أحمد شوقي.

في عام 1927، ساهم إسعاف في مهرجان أحمد شوقي ومبايعته على إمارة الشعر العربي، واشترك في تأبينه، كما كان النشاشيبي موضع تقدير وإعجاب زعيم مصر سعد زغلول، كما شارك في القاهرة في عدة مناسبات منها، احتفالية إحياء ذكرى معركة حطين، وفي تأبين الحسين بن علي، وفي العيد الألفي لأبي الطيب المتنبي.

اسعاف+الن_ (2)

إسعاف النشاشيبي مع الشاعر أحمد شوقي

وكانت مجلة الرسالة القاهرية تَعقد ندواتٍ أدبية ثرية تدعو إليها خيرة رجال الأدب والعلم، ومن هنا توطدت العلاقة بين النشاشيبي وبين الأديب الكبير أحمد حسن الزيات، صاحب مجلة الرسالة، التي نشر فيها إسعاف منذ عام 1937 وحتى 1947، فصولاً مسلسلة تحت عنوان «نقل الأديب».

وفي عام 1947، ذهب النشاشيبي إلى القاهرة، وأقام في أحد الفنادق حتى آخر أيامه، حيث قضى نحبه، في 22 يناير 1948، بأحد مستشفيات القاهرة بعد حياة حافلة بالعطاء والجهاد.


عرفوه فقالوا

اشتهر النشاشيبي بكُنيتين ولقبين، فهو {أبو الفضل}، وهي كنية بديع الزمان الهمداني، وذلك لتعلقه به وتشبهه به في الكتابة، وعُرف أيضاً بـ {أبي عبيدة}، وذلك لولعه بـ {أبي عبيدة معمر بن المثنى} اللغوي المشهور، كما لُقّب بـ {أديب العربية}، و{خطيب فلسطين}.

ولعل خير ما نختم به، هو ما جاء على لسان من عرفوه وقرأوا له جيداً، واستمتعوا بكتاباته وتشبعوا بأسلوبه الفريد.

فقد قال الروائي والمفكر أمين الريحاني عنه:

ثلاثة سأذكرهم على الدوام: الحرم الشريف، وجبل الزيتون، وإسعاف النشاشيبي. وهل أجمل من روح إسعاف السامية الحافلة بأنوار من الشرق والغرب؟.





وتحدث عنه الأديب خليل السكاكيني في يومياته قائلاً:

ثم أعلِنت الحرب الكبرى، ومما أذكره له بالشكر والإعجاب أنه كان إذا عرف أننا لا نجد خبزاً، يحمل شيئاً من الطحين على ظهره ويأتي به إلينا.

وكتب عنه الكاتب الروسي ثيودوروف، بعد أن استمع إلى بعض قصائده بلسانه في لقاء بالقدس:

كان هذا الشاعر يقرأ قصيدته وفي كل نبرة من نبراته معانٍ عظيمة، وقد ظهر لي وهو يقرأ نشيطًا عنيدًا متحمسًا. هذا الشاعر عربي قبل كل شيء، ومسلم، ولكنه ممتزج مع إخوانه المسيحيين امتزاج الراح والماء.





وقال عنه الأديب أحمد حسن الزيات:

كان النشاشيبي رجلاً وحده في الأسلوب والخط والحديث والتحصيل، أسلوبه عصبي ناري تكاد تحس الوهج من ألفاظه، وتبصر الشعاع من مراميه، وتحصيله أعجب من العجب، ولا تستطيع أن تذكر له كتابًا من كتب العربية لم يقرأه، ولا بيتًا من شعر الفحول لم يحفظه، ولا خبرًا من تاريخ العرب والإسلام لم يروه، ولا شيئاً من قواعد اللغة ونوادر التركيب وطرائف الأمثال لم يعلمه، فهو من طراز أبي عبيدة والمبرد، إنه خاتم طبقة من الأدباء اللغويين المحققين لا يستطيع الزمن الحاضر أن يجود بمثله.


المراجع



  1. “الموسوعة الفلسطينية”، الجزء الرابع، دمشق، 1984، ص ص 136: 137.
  2. حسن عبد الرحمن سلوادي، “أديب العربية إسعاف النشاشيبي”، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد التاسع والعشرون، فبراير 2013، ص ص 186: 189.

  3. أوس داوود يعقوب، “أديب العربية العلامة إسعاف عثمان النشاشيبي (1885 – 1948م)”، موقع مؤسسة القدس للثقافة والتراث،14 ديسمبر 2011.

  4. “إسعاف النشاشيبي”، موقع ديوان العرب، 17 إبريل 2005.

  5. “محمد إسعاف النشاشيبي”، موسوعة المعرفة.