ترجمات مناعية في المشاعر الإنسانية

الحب يجلب السعادة والبهجة، هو عيد لقلب المُحب. يخلّف الحب أيضًا ما يخبرنا به البخيت في قصيدته من ألم وهموم وتعب. وبالرغم من ذلك، لا ينفك يعود للمحبوبة. وهو نفسه قد تساءل في قصيدة أخرى: «من يطفئ الجراح غيرها؟» قاصدًا ذات المحبوبة التي تسببت في جراحه.

هذه المشاعر بكل فوضاها التي يشعر بها البخيت وغيره من الشعراء الذين حكوا عنها، وحتى الشخص الذي لا يتمكن من كتابة الشعر ويحكيها بطريقته. هذه المشاعر في أعماقها هي سلسة معقدة ودقيقة من العمليات البيولوجية التي تحدث بداخلنا ولا يمكننا رؤيتها، لكن ما نستطيع أن نشاهده هو شعراء يكتبون القصائد، وفنانون يرسمون اللوحات، ونحات يصنع التماثيل، أو تمثيل في فيلم أو رقصة في مسرحية؛ جميعها طرق يعبر بها الإنسان عن مشاعره. وفي المقابل، يدرس باحثون في مختبراتهم مشاعرنا من خلال الدم والأنسجة.

لو كنّا في جلسة نتحدث فيها عن المشاعر والحالة النفسية وتطرقنا للأعضاء والأجهزة البيولوجية في جسدنا المسئولة عن أفكارنا وأحاسيسنا وحتى أمراضنا النفسية إن وُجدت، فلن يستغرق الأمر منا بضع ثوانٍ حتى نقول إن الجهاز العصبي هو بمثابة «مدير» مثل هذه العمليات.

لكن ما رأيك إذا كان جهازك المناعي متورطًا بالتأثير على مشاعرك ومزاجك وحالتك النفسية، وأحيانًا قد يكون متورطًا بأفكار انتحارية قد تراودك؟

المشاعر من حب وكراهية وغضب وحزن، والطِباع من أنانية وتفاؤل وتشاؤم، والعلاقات التي نمر بها، والذكريات التي تُخلّفها التجارب، أخلاقنا والأفكار التي تشكٌل شخصياتنا ليست مجرد نشاط عقلي أو أوامر من أدمغتنا استجابة لمؤثر خارجي أو جيني أو حالة نفسية فحسب؛ بل إن لها تأثيرًا عميقًا على جهازنا المناعيّ وهو يؤثر عليها أيضًا. فقد تكون مشاعرك وحالتك النفسية سببًا في إصابتك بمرض مناعة ذاتي مستقبلًا. وقد يكون جهازك المناعي سببًا في ظهور أعراض الاكتئاب لديك.

وهذا ما يمكنك ملاحظته على نفسك، فأحيانًا قد تعاني من زكام بسيط أو ارتفاع طفيف في درجة حرارة جسمك، وفي الوقت نفسه تكون متعكر المزاج وترغب بالانعزال. الأمر تمامًا يحدث عندما تنفصل عن شريكك أو تفقد عزيزًا؛ مزاج متعكر وجسد مرهق على الرغم من أن ألمك وجداني وليس عضويًا.

هل وظائف جهاز المناعة قاصرة على دوره الدفاعي فحسب؟

قد يبدو جهاز المناعة لغير دارسه جهازًا بيولوجيًا فحسب، وظيفته الدفاع عنّا تجاه مختلف مُسببات الأمراض فقط، لكن له في الواقع

أدوارًا عديدة وضرورية

، منها على سبيل الذكر لا الحصر:

• تجديد وإصلاح الأنسجة التالفة والمساهمة في تشكيل الخثرة الدموية على سطح الجلد بعد حدوث الجرح لوقف النزيف.
• المراقبة الحثيثة للخلايا التي تكاد تجن (الخلايا السرطانية) والقضاء عليها.
• تنظيم التغييرات الجينية.
• ينظّم جهازنا المناعي اختيارنا لشركائنا في عملية التزواج أي أنه يجنبنا الانصهار بالشركاء حاملي أمراض جينية أو أخرى معدية.
• يشارك الجهاز المناعي أيضًا بالكثير من العمليات الأيضية.

هذا الجهاز الذي يتسم بالذكاء والتنظيم سنجده مندمجًا في كثير من التخصصات والمجالات، ليس فقط في العلوم الحياتية بل حتى في العلوم الإنسانية، فنجد

تخصصات فرعية لدراسة المناعة

وعلوم الاجتماع أو المناعة والفلسفة.

لكن ما يهمني في هذا السياق للحديث عنه هو  تداخل المناعة مع الطب النفسي ومشاعرنا وتأثير كل منهما على الآخر وهو ما يندرج تحت علمين أساسيين: علم المناعة العاطفي (Affective Immunology) و علم المناعة العصبي النفسي (Psychoneuroimmunology).

بدايةً سأربط بعض النظريات النفسية بالأنظمة المناعية الأساسية لدينا،حتى تتضح لنا هذه العلاقة؛ علاقة المشاعر بالمناعة والعكس.

علم النفس وفهم جهاز المناعة

في بدايات القرن التاسع عشر، شهدت البشرية تغيرات عديدة على مستويات عدة صناعية واقتصادية وعلمية، وبالتـأكيد هذه التغييرات سيترتب عليها اختلافات في تشكيل المجتمعات والتوازن النفسي للأفراد.

من حسن حظنا أن نظريات التحليل النفسي برزت في الفترة الزمنية ذاتها لتساعدنا على فهم ذواتنا في سياق المجتمع ووجود الآخر.

يخبرنا «سيجموند فرويد» أن سلوكياتنا وتصرفاتنا حيال حياتنا اليومية ناتج عن صراع داخلي بين رغباتنا وما يتوقعه الآخرون والمجتمع منٌا (الأنا العليا).

أما تلميذه وناقده «كارل يونج»، فقد اهتم بأنماط الحياة اليومية و

قسٌم الشخصيات إلى نمطين

: المنفتح extroverted، والمنطوي introverted.

الشخص المنفتح مهتم بالعالم الخارجي والأشخاص الآخرين والأشياء الأخرى، ولا يفكر كثيرًا في سلوكه الاجتماعي، وسرعان ما يبدأ في تكوين العلاقات ومشاركة الآخرين أفكاره، كما أنه مهتم بتكوين أكبر عدد من المعارف ويغض النظر عن شخصية الآخر، إضافة إلى أن الشخص المنفتح يميل إلى القيام بأنشطته بين الناس، وبإمكاننا القول إنه شخص يفني نفسه باللحظة عوضًا عن التفكير بالصورة الأكبر أو الأبعاد المترتبة على تصرفاته.

بينما المنطوي يركز على ذاته ونشاطه النفسي الداخلي وهذا لا يعني أنه يعاني من رهاب اجتماعي أو من الخجل المفرط، بل إنه يجد في وقته مع ذاته المتعة الأكبر. أيضًا، هو شخص متخصص في اختيار الأصدقاء والمقربين ومهتم بالمراقبة و التفكير بالمستقبل.

الجدير بالذكر هو أنه لا يتم تصنيف الشخص الواحد على أنه إما منفتح أو منطوي بشكل مطلق، كلً منَا يمتلك درجات متفاوتة من الانفتاح و الانطواء.

حتى نترجم هذه النظرية النفسية إلى لغة مناعية فلا بد أن أذكر لكم أن جهازنا المناعي يتم تصنيفه أيضًا حسب درجات  متفاوتة من الانفتاح والانطواء، فنجد أن

جهازنا المناعي الفطري

(Innate Immune System) يمثل الجهاز المناعي المنفتح (extroverted) فهو يتعرف على كل كائن أو مادة غريبة تدخل الجسم، وهذا التعرف ربما يعتبر أسرع تعرف قد يحدث في علاقة ما، فهو يحدث ابتداء منذ ساعة الصفر لدخول الكائن الغريب للجسم. يجذب هذا الجهاز عددًا كبيرًا من مختلف الخلايا الدفاعية يتواصلون مع بعضهم البعض للقضاء على الكائن الجديد أو لتكوين صداقة جديدة.

إن جهازنا المناعي الفطري بمثابة جهاز بيولوجي اجتماعي يتعرف على الجميع، تعريفه عن ذاته يتشكل من تجاربه الخارجية وتعاطيه مع الآخر وليس من خطابه الداخلي مع ذاته. اجتماعية هذا الجهاز وكثرة علاقاته تجعله غير قادر على خلق ذاكرة مناعية، فهو لا يحتفظ بذكريات متعلقة بمن تعامل معهم.

لكننا البشر مجبولون على الاحتفاظ بالذكريات وتخزين التجارب، وهذه وسيلة دفاعية تمكننا من التنبؤ بالقادم بسهولة وتجعل تعاملنا مع المواقف أكثر مرونة. وهنا ظهرت حاجتنا لتطوير جهاز مناعي قادر على تخزين الذكريات عن طريق مراقبته لتجارب جهازنا المناعي الاجتماعي (Innate Immune System) عن طريق حديث داخلي متأنٍّ مع ذاته يُدعى

الجهاز المناعي التكيفي

(Adaptive immune System)، نظرًا لرغبته الدائمة في خلق تجاربه الذاتية لكل أحداث الحياة فهو منطوي (introveted) لأن تعريفه عن ذاته ناجم من حواره الداخلي.

الصراع الذي يواجهه الفرد في حديث فرويد تواجهه خلايانا المناعية عند ضرورة تمييزها للخلايا والأجسام الغريبة (non-self) التي تدخل الجسم عن طريق الخلايا الذاتية (self). إذن، هنالك ضرورة لوجود هوية محددة لكل خلية مناعية تمكنها من تمييز ذاتها عن غيرها من الخلايا الغريبة. يترتب على هذه الهوية تكوين ذات مناعية وتفسير هذه الذات يُستمد من المعاني الاجتماعية الأوسع للفردانية والعزلة. [1]

بناء على ذلك، فإن جهازنا المناعي يحاول التوفيق بين أناه العليا المنطوية (Adaptive Immune System) وبين رغبته المستمرة بالتعرف على الآخر وفهم ذاته من تعامله مع الآخر (Innate Immune System).

فإذا كانت خلايانا المناعية التي تشكل جهازنا المناعي تمتلك شخصيات مختلفة تمامًا مثلنا نحن البشر، قد يدهش أحدكم أن للواحد منا شخصيتين: شخصية عاطفية وأخرى مناعية، وبناء على ذلك فإن مشاعرنا وحتى أخلاقنا تؤثر على مناعتنا والعكس كذلك.

أثر الشخصية والمشاعر على المناعة

سنتناول فيما هو قادم نتائج

دراسة قائمة

على تحليل بعدي حديث تمت فيه دراسة السمات الخمس الأساسية للشخصيات (الانفتاح على التجارب، الضمير، الانبساط، الرضا، العصابية) وتأثيرها على المناعة سواء كان تأثيرًا إيجابيًا أم سلبيًا.

وحتى نفهم نتيجة هذه الدراسة فلابد أن أذكر لكم معنى كلمة التهاب. الالتهاب هو استجابة مناعية معقدة تحدث في الأنسجة بتعاون بين الخلايا المناعية والأوعية الدموية بسبب وجود كائن ممرض أو ضربة خارجية. يترتب على حدوث الالتهاب حدوث الاحمرار على الجلد وشعور بالألم أو الحكة والتعرق. وحدوث الالتهاب أمر ضروري لأنه بمثابة (عرس-إشهار) لوجود كائن ممرض داخل جسمك أو لتلقيك لكمة من الخارج أو جرحة سكين، لحشد وتجنيد الخلايا المناعية إلى مكان حدوث الإصابة من أجل احتواء الكائن الممرض وتحجيم الإصابة.

أحد البروتينات التي تلعب دورًا أساسيًا في حدوث الالتهاب يدعى بروتين سي التفاعلي C-reactive protein. وجدوا أن مستويات C-reactive protein تقل مع قلة الشعور بالضمير والتعاطف مع الآخر، بالتالي استجابة مناعية أضعف عند الأشخاص الأقل تعاطفًا مع الآخر.

في دراسة أخرى، وجدوا أن التوتر يحفز الخلايا المناعية بشكل سلبي، بل ومعاكس أيضًا، فبدلاً من أن تُهاجم الخلايا الغريبة والدخيلة، تبدأ خلاياك المناعية بمهاجمة خلايا جسدك مخلفة ما يسمى بأمراض المناعة الذاتية. الجانب الذي يحسن ذكره عند الحديث عن التوتر والمناعة أن التوتر يحفز جزيئات صغيرة غير معرٌفة إلى الآن (أنتيجينات)، وجود هذه الانتيجينات قد يساهم مستقبلًا في إنتاج تطعيمات ولقاحات للتوتر. [2]

بشكل معاكس، قد تلاحظ ظهور أعراض اكتئاب أو حزن لفترة طويلة في فترة عانيت فيها من مرض عضوي أو إصابة بكتيرية، وأحيانًا في فترة مرضك قد تراودك أفكار انتحارية بكثافة.

فهذه ليست أفضل معلومة قد تعرفها عن محاربك الوفيٌ، فعلاً نحن ندين لجهازنا المناعي في كل ثانية لحمايته المستمرة لنا من أبسط الممرضات إلى أكثرها ضراوةً وعداءً وكل ما يمكن أن يهدد حياتنا، لكن للأسف جهازنا المناعي غير قادر على حمايتنا  أو منعنا من الانتحار بل إن من الآثار الجانبية لتحفيز جهازنا المناعي هو زيادة تفكيرنا بالانتحار وإنهاء حياتنا وظهور أعراض اكتئاب وأخرى شبيهة بالاكتئاب.

في الجسم البشري توجد منظومة كاملة تحدد للخلايا عمرها، فإمّا تستجيب لإشارة أن تستمر بالانقسام والقيام بوظائفها (proliferation) أو إشارة تخبر الخلايا أن تموت (necrosis) أو تقول للخلايا انتحري (apoptosis).

يُطلب من الخلايا أن تستمر بالانقسام لإتمام وظيفتها، وتموت لأن بعض الخلايا عند الخروج من معركة مع بكتيريا مثلًا، تكون هذه الخلية قد جرحت وبدأت مكوناتها الداخلية بالنزف منها فتصبح غير قادرة على المحافظة على توازن السوائل داخلها فتموت.

أما الانتحار الخلوي فعادة جسدنا يأمر الخلية أن تنهي حياتها (تنتحر) عندما تكون خلية سرطانية أو خلية محتوية على فيروس أو خلية تهاجم صديقاتها من الخلايا الأخرى، في هذه العملية المنظمة يتم تحرير مركبات تدعى سايتوكينات (cytokines)، سايتوكينات الموت تحديدًا، والسيتوكينات هي بمثابة ساعي البريد الذي سيخبر الخلايا بضرورة أن تنهي حياتها. عندما ترتفع نسبة هذه السيتوكينات لاحظوا زيادة رغبة المريض في إنهاء حياته أيضًا. في هذه الحالة يظهر جليًا التأثير السلبي لتحفيز جهازنا المناعي على مشاعرنا وصحتنا النفسية. [3]

إذا كان للمرض وللمشاعر السلبية والطباع والأخلاق الفقيرة للتعاطف مع الآخر والتوازن النفسي الذاتي تأثير سلبي على مناعتنا وعلى صحتنا النفسية على حد سواء، فماذا بإمكان الحب والحميمية والمرح والتأمل أن يقدموا لمناعتنا؟

الحب والسعادة هما أهم ما يدرسه الباحثون في علم النفس والاجتماع، وأيضًا هما عنصران مهمان جدًا عند دراسة مناعة الإنسان. صحيح أن الحب يصنع فيك ما تصنعه المخدرات، لكن بإمكاننا القول إن الحب أفضل ما يمكن أن تدمن عليه، فتأثيره على مناعتك عظيم للغاية.

في دراسة تمت

على مجموعتين: مجموعة أشخاص يعيشون قصة حب، والمجموعة الأخرى ليسوا بعلاقة مع شريك. إن الأشخاص الواقعين بالحب أظهروا كفاءة أكثر في أداء جهازهم المناعي حتى بدون علاقة حميمة. وإن لمسة حب رقيقة تحفز هرمون السيروتونين الذي بدوره سينعش خلاياك المناعية.

في تجربة أخرى، تم تعريض المتطوعين لفيديوهات مضحكة ولأشخاص يحبونهم أو معجبين بهم لمدة ساعة. بعد 12 ساعة من مشاهدتهم للفيديو، وجد الباحثون زيادة ملحوظة في فعالية الخلايا المناعية في قتل الكائنات الغريبة والميكروبية. وأثبتت دراسة أخرى أن حس الفكاهة والتفاؤل قلّل من الآثار السلبية التي يلحقها التوتر بالجهاز المناعي.

نلاحظ من خلال هذه الدراسات أن العلاقة بين جهازنا المناعي ومشاعرنا وشخصياتنا مبنية على درجة عالية من الانسجام والتناغم، وبإمكاننا السيطرة عليهما من خلال مراقبة طباعنا وشخصياتنا وتعاملنا مع الآخر، وكلاهما يحبان التعلم ويتحسن أداؤهما من خلال التعلم.

يتعلم الجهاز المناعي من خلال التعرف على الفيروسات والفطريات والبكتيريا وغيرهم من الكائنات الغريبة، وأيضًا عن طريق المطاعيم واللقاحات، يتعلم الجهاز المناعي بشكل أسرع، أما جهازنا العاطفي يتعلم عن طريق تطوير ذكائنا العاطفي وتعزيز مشاعرنا تجاه الآخر من حب وتعاطف وتفاؤل، وربما في المستقبل يتم تطوير لقاحات ضد الألم الذي تُخلِّفه التجارب العاطفية والفقدان والاكتئاب والتوتر.

وهذا ما يأخذنا إلى أمر بالغ الأهمية، فقد يصبح مستقبلًا علاج بعض الأمراض المناعية بعلاج نفسي، وعلاج بعض الأمراض النفسية برفع أداء الجهاز المناعي أو بتخفيض استجابة الجهاز المناعي، ولتعزيز الجانبين المناعي والنفسي فقد يكون العلاج اجتماعيًا، بأن تحيط نفسك بعلاقات صحية، وفي معرفتك لذاتك وشخصيتك والتحكم بها قدر استطاعتك.

وهذا العلاج المزودج الذي من الممكن أن يكون ذاتيًا بدون تدخلات دوائية، قد يكون أكثر العلاجات فاعلية في مواجهة هذه الجائحة في ظل عدم وصول اللقاحات بعد.