لقد حوت النسخة العربية للكتاب مقدمة مطولة لعزمي بشارة الذي اعتبر الكتاب من العلامات المهمة في الفكر الحديث، مدونًا عددا من الملاحظات، أهمها التأكيد على ضرورة التفرقة بين مفهومي الأمة والقومية، ورسم تخوم منهجية ومعرفية بينهما. ويقول بشارة إن الانتماء إلى القومية يتضمن نوعا من المساواة المفترضة بين البشر في إطار غير متساو، بحيث تتحول إلى أداة ديمقراطية تدفع نحو الطموح للمساواة، كما قد تتحول إلى غطاء ديماجوجي شعبوي لانعدام المساواة، وهو ما يمثل جاذبية القومية وخطرها في نفس الوقت. وقد فرق بشارة بين القومية والأيدولوجية القومية، فالفرد الحديث في رأيه يمكن أن يكون قوميا في انتمائه، ونقديا تجاه القومية كأيدولوجية. كما أيد بشارة فرضية أندرسون بشأن علاقة القومية بالأيدلوجيات معتبرا أن الصراعات الحقيقية للحركات الدينية لم تجر بينها وبين اليسار والليبرالية، بل جرت مع الأنظمة والحركات القومية العلمانية، فالأخيرة هي القادرة على منافسة الحركات الدينية على مستوى الهوية والمعنى والإجابة على الأسئلة الوجودية، فإذا كانت ديمقراطية فهي قادرة على احتواء المتدين والعلماني والليبرالي، أما إذا كانت غير ديمقراطية فإنها تعتبر أي تحزب يمثل خطرا على الانتماء لها بما في ذلك تحزيب الدين.



إذا كان انتشار الطباعة قد أسهم بقوة في خلق الجماعات القومية، فإننا يمكن أن نعتبر أن القنوات الفضائية والإنترنت قد دعمت العولمة على حساب القومية.

ويمكننا أن نقول أنه رغم وجاهة ما كتبه أندرسون قبل أكثر من 30 عاما، إلا أن حالة العالم تغيرت بشكل واضح، فالطباعة ووسائل الاتصال التي دعمت الأفكار القومية على حساب الإمبراطوريات في نهاية القرون الوسطى، هي ذاتها ما دفعت البشر نحو العولمة التي أضعفت من جدر القومية السميكة. وإذا كان انتشار الطباعة وخاصة الصحف والروايات قد أسهم بقوة في خلق الجماعات القومية المتخيلة، وهو ما قامت به القنوات والإذاعات المحلية أيضا، فإننا يمكن أن نعتبر أن القنوات الفضائية والإنترنت قد دعمت أفكار العولمة على حساب القومية. وبذلك يكون أندرسون بافتراضه هذا قد قطع الغصن الذي يقف عليه.

أما وسائل التواصل الاجتماعي فقد خلقت ما يمكن تسميته بـ «الجماعات نصف المتخيلة»، حيث يكون لكل شخص عدد من الأصدقاء قد يصل إلى الآلاف، يعرفهم ويعرفونه، وفي نفس الوقت قد يكون عضوا في مجموعة أو مشاركا في صفحة تضم بضعة ملايين يشاهدون المواد نفسها في نفس الوقت ويتفاعلون معها بإبداء الإعجاب أو التعليق أو حتى المشاركة رغم اختلاف قومياتهم. فهي بذلك جماعة ليست متخيلة بالكامل، وليست ملموسة تماما. وبما أن العالم العربي يتكلم لغة واحدة، ولديه العديد من القضايا والاهتمامات المشتركة، فإنه من المرجح أن تسهم مواقع التواصل في بلورة جماعة متخلية عربية واسعة، تكون أكثر ارتباطًا مع بعضها من ذي قبل.

وعند حديث أندرسون عن تحول الأسر الملكية إلى الافتخار بقومية معينة -بدلا عن نسبها- بهدف التمكن من حكم الشعوب (القومية الرسمية)، ضرب الكاتب أمثلة معظمهما أوروبية، فقال مثلا إن «آل هوينزولرن اكتشوفا أنهم ألمان، في حين تحول أبناء عمومتهم إلى رومان ويونان وهلمجرا»، وقد كان من المفيد أن يذكر الكاتب مثالا مشابها في المشرق، حيث أحيا الصفويون (أبناء عمومة العثمانيين الأتراك) القومية الفارسية تحت غطاء شيعي، ليتمكنوا من حكم بلاد فارس.

كما نشير إلى إغفال بندكت أندرسون إلى الدور الذي تقوم به الجيوش الحديثة في حماية القومية بل وخلقها إذا لزم الأمر، فمع انتصار طبقة المحاربين على طبقتي رجال الدين والعمال (بحسب تصنيفات العصور الوسطى)، فقد أصبحت الجيوش أهم أركان الحكم الفعلي في الدولة الحديثة، وهو ما يجعل من مصلحتها تدعيم الأفكار القومية لتوطيد حكمها.

كما أن اللغة اللاتنية المقدسة التي أشار الكاتب إلى أنها كانت لغة العلم طول قرون طويلة قد استبدلها العالم –وليس أوروبا فقط– باللغة الإنجليزية ليس في دراسة العلوم وحسب، ولكن أيضا في جانب لا يستهان به من عملية التواصل، وهو ما يعيدنا إلى نوع آخر من الإمبراطوريات المعولمة. وبعكس ما جرى مع اللغة اللاتينية التي اختفت تقريبا، فإن اللغة العربية ظلت لغة مقدسة، لكنها رغم ذلك لم تنجح في الاحتفاظ بتماسك الشعوب الناطقة بها، والتي تفرقت في عدد من الدول القومية. وهي ملحوظة لم يوردها أندرسون الذي لم يهتم كثيرا بالمنطقة العربية، ولا بالإسلام والبوذية اللذان ذكرهما مع المسيحية في الفصل الثاني قبل أن يتجاهلهما بشكل شبه كامل في بقية صفحات الكتاب.

وقد لاحظ بندكت أن الطبقة الوسطى المتعلمة في أوروبا هي من قاد الجماهير إلى الانعتاق من سيطرة الإمبراطوريات الكبرى نحو نموذج الدولة القومية مستخدمين اللغات المحلية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الطبقة الوسطى المتعلمة في العالم العربي قادت بدورها نضالا واسعا للاستقلال عن الهيمنة الدولية التي فرضت على مجتمعاتها الدولة الحديثة بشكل قصري.



تمثل القومية العربية حالة فريدة، باعتبارها أصلا إحدى نتائج الإسلام الذي حوَّل لغات العديد من الدول إلى العربية.

ويمكننا القول إن معظم قوميات العالم هزمت أديانها بشكل أو بآخر في معركة السيطرة على الشعوب، باستثناء الإسلام الذي لم تتمكن القومية في الدول العربية من هزيمته على نطاق واسع -حتى الآن على الأقل-، فإنه لا يزال ينازع أفكار الدولة الحديث ومؤسساتها، ليس لعدم كفاءتها في إدارة الدول العربية وحسب، ولكن لأنها إحدى منتجات الاستعمار الذي طالما حاربت الشعوب لإنهائه. كما أن القومية العربية تمثل حالة فريدة، باعتبارها أصلا إحدى نتائج الإسلام الذي حوَّل لغات العديد من الدول إلى العربية بعدما كانت هذه اللغة محصورة في شبه جزيرة العرب. كما يفترض أندرسون أنه مع دخول أوروبا الغربية عصر التنوير والعلمانية العقلانية، ظهرت القومية لتعويض تراجع الدين، لكن هذا أيضا لم يحدث في العالم العربي، حيث احتفظ الدين بمكانته، لأنه بشكل أو بآخر تعبير عن القومية العربية.

وهنا يمكننا أن نورد ببعض التحفظ رأي محمد الغزالي الذي اعتبر أن أفكار القومية العربية التي لا تلتحم بالأفكار الإسلامية تعد «بهذا التفسير الجديد حركة التفاف ماكرة للقضاء على شخصيتنا وتاريخنا وإيماننا»

[1]

. وهو ما يدعونا – بكثير من الثقة – للقول بأن محاولة فصل العروبة عن الإسلام تشبه محاولة إنضاج فطيرة محشوة باللحم النيئ، فإما أن تنضج العجين وتترك اللحم نيئا، وإما أن تتمسك بإنضاج اللحم، لكن العجين سيكون عندئذ قد احترق!


خلاصة

في كتابه «الجماعات المتخيلة» عرف بندكت أندرسون الأمة باعتبارها: «جماعة سياسية متخيلة، محددة وسيدة أصلا»، معتبرا أن فكرة «تخيُّل» الأمة لم تنشأ، في أوروبا، إلا بعد تراجع اللغة اللاتينية كلغةٍ مقدسة، وظهور الاكتشافات العلمية، وبوجهٍ خاص الطباعة، والتغيير الذي جرى في طبيعة السلطة الملكية غير الوطنية التي تحكم بالمصاهرة والقرابة، من دون أن ترتبط بالشعوب، وبعد نشوء مفهوم جديد للزمن يفصل الزمن اليومي الفارغ والقابل للملْء بالأفعال الإنسانية، عن زمن التكوين والخطيئة والخلاص الديني المملوء أساساً. ويضيف عزمي بشارة شرطا آخر وهو تفكك الجماعة المحلية بفعل الهجرة من الريف إلى المدن ونشوء الفرد البرجوازي في مقابل جماهير العمال المتحررين من علاقات التبعية وبالتالي من الارتباط بالجماعة المباشرة.

ويميز أندرسون ما بين القومية الرسمية التي تنشأ بتبني الإمبراطوريات القومية لها عبر محاولة فرض لغة وهوية على مناطق متعددة القوميات من جهة، والقومية الشعبية الصاعدة بتحالف الطبقة الوسطى والإنتلجنسيا والطبقات الفقيرة، والمتشكلة باللغة وبغيرها من خلال السعي لتحقيق حرية الأمة وسيادتها، ضد الإمبراطورية غالبا، من جهة أخرى. لكنه عاد ليؤكد أن القومية الرسمية أزالت التباين بين الأمة والمملكة السلالية، فهي تلك الاستراتيجية الاستباقية التي تبنتها جماعات مسيطرة أو سلالات ملكية تهددتها بالتهميش أو الإقصاء جماعة بازغة تخيلة قوميا. وتعمل هذه القومية الرسمية أحيانا على بسط نفوذها بشكل إمبريالي وتضم طبقات من المستعمرين إلى قوميتها هذه وإن كانوا يعتبرون مواطنين من درجة أقل. لكن مع الوقت تحول هؤلاء المستعمَرون إلى قوميين بسبب أساليب التعليم المشترك التي وحدت اللغة بالإضافة إلى الإحساس بالتقارب العرقي والجغرافي والمصير المشترك، وهو ما تسبب في ظهور ما أطلق عليه الكاتب «قوميات الموجة الأخيرة» في آسيا وإفريقيا الكولونيالية.

وعند حديثه عن قدرة القوميات على تفكيك الإمبراطوريات الكبرى التي حكمت من فيينا ولندن ومدريد والقسطنطينية وغيرها، لم يكن أندرسون يتوقع أن القاعدة تنطبق أيضا على موسكو التي كانت مركزا لحكم أممي اشتراكي ضخم، حتى قال: «إنه لمن العزاء المحزن أن أجد التاريخ متمسكا بمنطق (الجماعات المتخيلة) أكثر مما استطاع مؤلفه». لكن «مكر التاريخ» الذي تحدث عنه هيجل ربما يقلب تفاؤل أندرسون إلى تشاؤم وبوسائل الاتصال نفسها التي دفعته لاعتبار أن القومية ستمثل نهاية التاريخ.



[1]

محمد الغزالي. حقيقة القومية العربية (القاهرة، دار نهضة مصر، 1998)، ص 5.

يمكن تحميل السلسلة ككتيّب PDF

(من هنا)

ويمكن تصفحها كصفحات ويب

(من هنا)