منذ بداية مشواره عرف شارلي كوفمان بكتاباته الغرائبية والأصيلة التي يخرجها آخرون منهم سبايك جونز وميشيل جوندري فهما على حد قوله يفهمونه جيدًا ويقدرون رغبته في التحكم في كلماته وفي التدخل حتى آخر المراحل لكي تظهر على الشاشة كما يتخيلها.

في كل فيلم كتبه كوفمان يمكن الشعور بأسلوبه ليس فقط كتابيًا ولكن بصريًا حتى يسهل تسمية الأفلام باسمه وكأنه ليس مجرد مؤلف بل مخرج مؤلف، حتى عام 2008 الذي أصبح فيه مخرج مؤلف بالفعل بإخراج فيلمه الأول synecdoche, new York (مصغر نيويورك) وبعده بسبعة أعوام Anomalisa (أنوماليزا) وأخيرًا I’m thinking of ending things (أفكر في إنهاء الأمور)، لطالما تمحورت أفكار كوفمان حول تيمات بعينها، التواصل الإنساني وربما عبثية وجود الإنسان نفسه، طبيعة العقل البشري والمسافة الرفيعة بين الوعي واللا وعي، لكن في أفلامه الثلاثة الذي أخذ حريته الكاملة في تنفيذها والتجريب فيها توجد تيمة مشتركة وهي أفكار تتعلق بهموم شخصية ذكر وحيد يصعب عليه تكوين علاقات حقيقية مع نفسه والآخرين ومع العالم، رجال تلتهمهم الوحدة والأفكار عن المرأة المثالية يصل ذلك إلى أقصى حدوده في آخر أفلامه لكن الجديد هنا أن الفيلم يسرد من وجهة نظر الشخصية الرئيسية الأنثوية.

الأنثى كفانتازيا

أنا لست مفهومًا، كثير من الرجال يظنون أني مفهوم مجرد أو أني سأكملهم أو أبث فيهم الحياة، لكني مجرد فتاة مضطربة تبحث عن سلامها العقلي لا توكل إلي سلامك.

يحكي الفيلم من منظور فتاة (جيسي باكلي) لا نعلم اسمها بالتحديد في طريقها لمقابلة عائلة حبيبها جيك (جيسي بليمونز) لأول مرة، في طريقهما عبر عاصفة جليدية يتناقشان في عملهما وأفكارهما واهتماماتهما الثقافية وعندما يصلان إلى المنزل الريفي أخيرَا لا يبدو أن أي شيء يسير بشكل طبيعي، تبدأ الفتاة في التشكيك في طبيعة وجودها وطبيعة الزمن الذي تحيا داخله.

شارلي كوفمان وجيسي باكلي
شارلي كوفمان وجيسي باكلي

في فيلمه السابق والأكثر وضوحًا وبساطة Anomalisa يحيل كوفمان وحدة بطله بشكل تقريبي لمتلازمة مرضية تسمى فريجولي fregoli تجعل الشخص يظن أن كل الناس في العالم هم شخص واحد، مما يجعل التواصل مع شخص واحد مميز مهمة مستحيلة عليه وتعمق وحدته كل يوم حتى يقابل إحداهما تملك صوتًا مختلفًا وهيئة مغايرة ويقع في حبها في يوم واحد، يسقط عليها كل رغباته ويتجاهل كينونتها الحقيقية وعيوبها، حتى يظهر ضوء النهار طبيعتها الحقيقية فيبدأ في رؤيتها كأي شخص آخر بنفس الملامح والصوت.

تستمر فكرة إسقاط الرغبات الذاتية على الآخرين في I’m thinking of ending things، لكن هذه المرة تعطى الأنثى الدور الرئيسي وليس الرجل الوحيد، الفتاة هي فانتازيا تقاوم فكرة وجودها داخل عقل أحدهم وتملك أهلية التصرف والتفكير، بل تملك هي نفسها وعيًا داخليًا، لا يلجأ كوفمان لحيل بسيطة مثل التواء الحبكة أو خدع عقلية ينتظر المشاهد كشفها وإشباع فضوله فعلى حد قوله تلك فكرة لا تصلح للوقت الذي نعيشه، على الرغم من أن الأصل الأدبي للفيلم رواية ايان ريد تعتمد على ذلك، على غرار أفلام مثل ruby sparks التي يكتب بطلها فانتازيته داخل رواية، لكن فيلم كوفمان يحل محل الخدع السينمائية التقليدية تداعٍ حر لوعي مجهول، وعي مشترك وجمعي، وعي مكدس بالإحالات الثقافية، لا توجد مرجعية مكتوبة أو مرئية لكون البطل يكتب بطلة قصته فالفيلم بالكامل يسبح في مسافة دقيقة بين الوعي واللا وعي، هي ليست شخصية في مذكرات أحدهم بل فكرة متحركة في فضاء زمني يملك منطقه الخاص.


في أحد أول الحوارات الدائرة بين الثنائي يصف جيك فتاته “بالمثالية”، تستدعي محاولات خلق الفتاة المثالية فيلم كوفمان الشهير الذي كتبه من إخراج ميشيل جوندري eternal sunshine of the spotless mind “إشراقة أبدية لعقل نقي”، يكتب كوفمان على لسان الشخصية الأنثوية الرئيسية كليمنتاين التي يمكن اعتبار وجودها في بعض مراحل الفيلم جزءًا من عقل شخص آخر أنها ليست مفهومًا مجردًا يقتصر وجودها على جعل الرجال يشعرون بالحياة والرضا.

اعتادت كليمنتاين أن يضعها الرجال في قوالب خيالية تغذيها أدمغتهم ويتوقعون منها أن تملأها وهو ما تكرره الشخصية المجهلة في الفيلم الأخير هي تعلم أن وجودها مقترن بإنقاذ جيك من الوحدة بالموافقة على أفعاله وتقديره فوق ما يستحق وملء فراغات روحه وبأن تكون مثالية كفاية لكي يعرف نفسه بها ويفتخر بوجوده معها، في لقاء مع كوفمان يعلق على ذلك بأنه أراد ألا يحصل جيك على ما يتمنى حتى داخل عقله، فعلى الرغم من التعاطف والشفقة التي يكنها كوفمان لشخصياته خاصة شخصيات أفلامه الخاصة الثلاث إلا أنه يعي أخطاءهم تمامًا ويعي تصوراتهم غير المنطقية عن الواقع ومتطلباتهم الأنانية من شركائهم وانعدام حساسيتهم تجاه الآخرين.

الوحدة والتليفزيون

أعتقد أني أشاهد عددًا كبيرًا من الأفلام، أملأ رأسي بالأكاذيب لكي يمر الوقت.

في أحد النقاشات بين جيك وصديقته يستدعي جيك كتابًا من المقالات لديفد فوستر والاس، يتناول أحدها أفكاره عن التليفزيون وتأثيره، يقتبس جيك منه مقطعًا عن الجمال الذي يصدره لمشاهده المتلصص، لكن بالنظر لمقال والاس فإن ارتباطه بفيلم كوفمان يذهب لأبعد من ذلك، يبدأ والاس مقاله بالحديث عن ارتباط الساعات الطويلة لمشاهدة التلفزيون بالوحدة، وكيف يصبح وعاء لرغبات ذلك المشاهد الذي يتعامل مع الناس عن طريقه، فالحقيقة بالنسبة له هي ما تصوره الشاشة لأنه لا يختبرها بنفسه خارجها يصف والاس ذلك الرابط بقوله:

نستطيع رؤية من في التليفزيون بينما لا يستطيعون رؤيتنا نحن نجلس ونتلصص، لذلك أعتقد أن التليفزيون يجذب الأناس الوحيدين المعزولين اختياريًا، كل شخص وحيد أعرفه يشاهد التليفزيون لأكثر من ست ساعات، يحب الوحيدون المشاهدة ذات الاتجاه الواحد لأن الشخص الوحيد ليس كذلك بسبب إعاقة ما بل أنه يفضل وحدته لأنه لا يريد تحمل الخسائر المرتبطة بالتعامل مع البشر الآخرين، الوحيدون يتحسسون من الناس لأنهم يؤثرون فيهم بقوة.




نشاهد عدة مشاهد متناثرة على مدار الفيلم لعامل نظافة المدرسة الوحيد يشاهد الرسوم المتحركة القديمة والإعلانات على تليفزيون صغير، أو يتناول غداءه أثناء مشاهدة فيلم رومانسي كوميدي مبتذل عن ثنائي يقعان في الحب في مطعم، ينقلنا كوفمان من حالة مشاهدة العامل وهو يتفرج إلى جعل الفيلم جزءًا من تجربتنا نحن في المشاهدة حتى تهبط التترات معلنة “إخراج روبرت زيمكس” المخرج الهوليوودي الشهير، تمثل المشاهدة المستمرة مهرب وملاذ العامل الوحيد المسن لكن أفكار تلك الأفلام والإعلانات تتسلل الى عقله مثل فيروس يصعب إيقافه فيبني بها تصوراته عن العلاقات وعن الفتاة المثالية وعن ذاته، لا يقضي جيك الشاب وقته في مشاهدة الفن الرديء أو الشعبي والمبتذل فهو قارئ نهم للأشعار والنقد السينمائي والأدبي والمقالات الفكرية لكن الفن العاطفي دون غيره يصبح جزءًا أصيلاً من لا وعيه وأفكاره عن الحب الرومانسي بالرغم من ثقافته الواسعة وقراءاته المتوسعة في النقد والأدب، ما يفعله كوفمان ليس نقد مجرد للتأثير السلبي للسينما بل هو إظهار تأثير الثقافة البصرية واقتران استهلاكها المفرط بالوحدة ودورها في تشكيل الخيال الجمعي.

الواقعية المفرطة

كل شيء يسعى للحياة حتى أفكار الأفلام المزيفة الرديئة تريد أن تنمو في عقلك و تستبدل الأفكار الحقيقية، هذا ما يجعلها خطرة .

الواقعية المفرطة hyperreality هي مصطلح تكرر في كتابات المفكر جان بودريار، للإشارة لحالة المجتمعات الما بعد حداثية حيث يختلط الحقيقي بالخيالي حتى يصعب التحديد من أين يبدأ الخيال وتنتهي الحقيقة، بل وتصبح التمثيلات المصنوعة أكثر حقيقية من الواقع وتغدو هي المرجعية الرئيسية للأشياء في العالم.

في عام 2009 وصفت الناقدة هرميوني هوبي في الجارديان فيلم synecdoche, new york بأنه أشبه برواية ما بعد حداثية بسبب تصويره للمجتمع الذي تخيله بودريار بشكل واقعي ودقيق خاصة في فكرة بناء بطله كيدن عالم مفرط الواقعية يبتلع العالم الواقعي ويصبح التفريق بينهما مستحيل، تستمر تلك الأفكار في كلا من Anomalisa و I’m thinking of ending things.

يتناول كل من synecdoche, new york وفيلم كوفمان الأخير مفهوم التقدم في العمر والخوف من الفناء أو الرغبة فيه وكيف يعزز ذلك السن وحدة الفرد في مجتمع يجعله مغتربًا عن ذاته وعما حوله، كل من كيدن وجيك فاقدا الثقة في ذواتهما وفي قدرتهما على بناء علاقات إنسانية سوية ومرضية، يلجأ كلاهما لخلق واقع بديل، يصنع كيدن ذلك بشكل حرفي يبدأ فعلاً في بناء موقع مسرحي يحل محل الواقع حتى تختلط بالنسبة له الحقيقة والخيال خاصة أنه يختار تمثيلات لكل فرد يعرفه داخل تلك المحاكاة الضخمة، أما جيك فيخلق عالمًا من التمثيلات والإشارات الفنية والثقافة الشعبية داخل عقله، وتصبح قدرته على التفريق بين ما هو حقيقي وما هو تمثيلي مستحيلة، تصل تلك الاستحالة في التفريق إلى المشاهد الذي يختبر فيلم كوفمان، وإلى الشخصية المتخيلة نفسها، الفتاة صديقة جيك محور تلك الفانتازيا ليس لديها القدرة على تعريف الخيال من الواقع لأنها لا تعرف واقعها من الأساس هي شخصية محتجزة داخل وعي آخر، وعي يتشكل من شذرات من السينما والأدب والفنون البصرية.

من فيلم Thinking of Ending Things
من فيلم Thinking of Ending Things

يملك كوفمان نظرة ناقدة للفن الاستهلاكي ويتحدث عن ذلك بشكل منفتح لكنه يسمح لأفكار الأفلام المبتذلة أن تحتل عقل جيك وأن تحتل فيلمه فنختبرها واحدًا تلو الآخر، تصبح النتيجة مزيجًا بين نقد الإرث الثقافي من أفلام وأشعار وإعلانات والاحتفاء بذلك الإرث.

ففي أحد أكثر مشاهد الفيلم عذوبة وحزنًا يتم استبدال البطلان براقصي باليه أكثر رشاقة وجمالاً بالمفاهيم التقليدية  لكي ينفذا مشهد “باليه حلم” وهي تقنية تستخدم في المسرحيات والأفلام الموسيقية اشتهرت لأول مرة في مسرحية أوكلاهوما التي يحيل إليها الفيلم أكثر من مرة، يستبدل فيها الغناء بالرقص والموسيقى لكي يكثف تيمات وأهداف القصة ويستبدل الأبطال بآخرين من الراقصين المحترفين، يلعب ذلك المشهد كفانتازيا مثالية لثنائي أجمل وأرشق وربما أصغر ويلعب أيضًا كمفتاح لفهم الفيلم، فبعد رقصة ساحرة من الحب والتواصل يحدث صراع مروع ينتهي بما يمكن أن يرمز لرغبة جيك في «إنهاء الأمور» لكن لا تنتهي الفانتازيا عند تلك اللحظة القاتمة بل يستخدم جيك مرة أخرى رصيده من الأفلام العاطفية ويعطي لنفسه نهاية حياة حافلة بالإنجازات العلمية وانتصار الحب عن طريق استخدام مشهد لحظات التكريم العاطفية من فيلم A beautiful mind (عقل جميل).

لا يوقظنا كوفمان من ذلك المحيط من الصور والأفكار بتذكيرنا بما هو حقيقي فيصبح فيلمه امتدادًا لذلك العالم المعلق بين الواقعية البديلة والتجارب الحقيقية، ويصبح الفيلم نفسه مجموعة متلاصقة من الأنواع الفيلمية المختلفة والأساليب السينمائية القديمة والحديثة، لا ينتهي الفيلم الذي يمكن رؤيته كفيلم قاتم يستدعي الوحدة والألم بدون بارقة أمل صغيرة، فباستمراره لاقتباس الأنواع الفيلمية عليك أن تنتظر لما بعد تترات النهاية كما تنتظر في أفلام الأبطال الخارقين لكي يعود لك أمل بسيط في نهاية أقل سوداوية مما تعتقد.