الزمان: 13 ذي الحجة من العام 422هـ

المكان: الجامع الكبير في قُرطبة

الحدث جلل..

جامع قرطبة
محتشدٌ عن آخره، فلقد بلغ غضب النّاس من أفعال حاكمهم الأموي هشام بن محمد
(المعتدّ بالله) الزُبى، بعدما لم يتورّع عن فِعل كل الموبقات متخطيًا كافة الخطوط
الحُمر.

اقتصرت اهتمامات المعتدّ على الطعام والشراب، واستكثر من «الملهيات والقينات والمغنيات»، وانقطع تمامًا عن التواصل مع الناس، وحتى في المناسبات الرسمية فلقد أعجزته عدم قُدرته على الكلام بشكلٍ واضح عن الخطابة في النّاس فأناب عنه وزراؤه للظهور فيها.

أصبحت البلاد مسرحًا للعابثين من محترفي النهب
والسرقة، كما ساءت أحوال الناس بشكلٍ مرعب فغلت الأسعار وارتفعت الضرائب وتدهورت أحوال
التجارة.

كما بلغ العبث مداه، بعدما طمع أموي آخر في الحكم هو أمية بن عبد الرحمن، وبدلاً من الائتلاف مع ابن عمّه ليُعينه على المرور بالبلاد في هذه الظروف العصيبة تآمر عليه!

قتله أتباعه
ثم وضعوا رأسه على مقدمة رُمحٍ وساروا بها في الأسواق يهتفون بسقوط هشام وبحياة
أمية.

أراح الموت
أمية من مكر ومقاومة هشام فاقتحم بجُنده القصر غير مبالٍ بأي مقاومة، وكما هي عادة
العرب يموت كل شيء مع سقوط رأس الحُكم؛ لذا لم يُواجه أتباع أمية أي مقاومة وهم
ينهبون قصر الملك الأموي!

بعدما انتهى
كل شيء، جلس أمية على العرش؛ ظنًّا منه أن الأمور قد دانت له نهائيًا، وأنه بات
خليفة الأندلس الجديد.

أمر وحيد أقلقه هو أنه عندما التفت يمينًا لم يجد وزير الدولة الحاذق أبو الحزم ابن جهور جوار العرش كما كان دائمًا، فأرسل في طلبه دون أن يعلم أنه لن يُلبّي رغبته أبدًا.

صحيح أن أمية جلس على العرش وتقلّد تاج الإمارة، إلا أنه في هذه الأيام باتت الإمارة أبعد ما تكون عنه.. ليس هو وحده وإنما عن نسل الأمويين أجمعين.

ضاقت قرطبة
من الهوّة التي انحدر فيها الأمويون، وغرقت آخر قشّات أملهم في أن يستقيم الحال
المائل لأبناء عم الرسول، ولم يبق لمحبة بني أمية مكان في قلوبهم.

في المسجد
احتشد الجميع سعيًا لحلٍّ صعب، لكن آمالهم تعلّقت على رجلٍ واحد غاب عن بلاط
الخليفة المزعوم وأتى إليهم.

إنه الوزير
أبو الحزم ابن جَهْوَر أو جُهُوْر (بفتح الجيم وسكون الهاء وفتح الواو والبعض
ينطقها بضم الجيم والهاء وسكون الواو).

لطالما عرف
الجميع أنه مركز القوة الحقيقي في الدولة، وعقلها الحكيم في زمن جنون أحفاد
معاوية.

هذه المرة كان الرجل مُقبلاً على أهم قرار سيتخذه ليس في حياته وحسب وإنما في حياة مُسلمي الأندلس بأسرهم؛ لذا لم يشأ أن يتأثّر بأحد، ما إن دخل المسجد حتى راح يجتاز الجموع التي تنظر إليه دون أن يبادلها النظرات، صعد درجات المنبر برأسٍ مُطأطئة، وعاد ينظر إلى الحشود التي ملأت المسجد عن بكرة أبيه.

الجميع ينتظر
قولته؛ أملهم الوحيد في النجاة من هذا الكرب العظيم.

بصوتٍ أراده
قويًّا ليُخفي الارتجاف الذي سرى في كيانه أعلن بشكلٍ مقتضب سقوط الخلافة الأموية
في العاصمة قرطبة، معتبرًا أنه بات من المستحيل أن يلتمس من الأمويين حُكمًا
عادلاً بعد الآن، وأن أهل الأندلس أدرى بشِعاب حُكمها وأولى به.

انفجر
المكان..

عاصفة من
الهمهمات حوّلت مسجد الأمة إلى سوق عامر، وهمَّ البعض بالرحيل عن المسجد مخافة أن
تقع جدرانه فوق رؤسهم إزاء هذا الكُفر البواح.

والكل يسأل: كيف
نعيش بلا خليفة؟

هل يمكن أن تستقيم الحياة بدون «ظِل الله» في الحكم؟

للأسف، كان منطق ابن جهور حازمًا وقاطعًا؛ لا يُمكن بقاء الوضع على ما هو عليه للأبد، بنو أمية مثلهم مثل غيرهم من خلق الله ليسوا منزّلين من السماء، وأن الشجرة الطيبة الآتية من بلاد الكعبة ملأها السوس وهدَّ كيانها فلم تعد تطرح إلا زقوم!

وبالرغم من
كل هذا القلق والصخب اللذين سادا المكان إلا أن الجميع أيقن أن طريق ابن جهور هو
الأصح لإنقاذ البلاد من التمزق فأمّنوا على كلامه، ووافقوه على إبطال الخلافة.

وهكذا، لم يهنأ أمية بن عبد الرحمن بعرشه إلا ساعات قِصار فطُرد هو ومَن بقي من نسل الأمويين من البلاد، حتى أنه نُودي في الأسواق «لا يبقى بقرطبة أحد من بني أمية ولا يكنفهم أحد، لأنه لم يبقَ من عقبهم من يصلح للإمارة، ولا من تليق به الرئاسة».

وبخلع المعتدّ انقطعت الدعوة للأميين، وكفَّ
ذِكرهم على المنابر في جميع أقطار الأندلس.

هرب أمية إلى
ثغرٍ بعيد، وتفرّق الأمويون في الأصقاع المختلفة، ولأول مرة منذ 3 قرون، تقريبًا،
بات مسلمو الأندلس بدون ظِل خليفة، ولو محدود الصلاحيات.

حسب الجميع
أنهم سيستيقظون ليجدوا أن السماء قد انطبقت على الأرض إزاء امتهانهم للنسب السامي.

لكن شيئًا لم
يحدث.

سليل الوزراء

في العام 399هـ منح الحاجب عبد الرحمن بن المنصور
بن أبي عامر نفسه لقب ولاية العهد في عهد الخليفة هشام المؤيد، لكن أهل قرطبة
رفضوا هذا القرار وقامت في وجه الحاجب آنذاك فتنة عارمة، أدخلت الأندلس في فتنة
عمياء، تواصلت حتى لحظة إلغاء هذا القرار.

لكن بعد 3 أعوام فحسب أقدم رجلٌ آخر على
إلغاء منصب الخلافة بأسره، ولم يُعارضه أحد، فمن هو؟

هو أبو الحزم، جهور بن محمد بن جهور بن عبد الله
بن محمد بن الغمر بن يحيى بن أبي المعافر بن أبي عبيدة الكلبي.

يحكي محمد بن عبد الله عنان في كتابه «دولة الإسلام في الأندلس»:

كان هذا الوزير القوي النابه، يستأثر نظرًا لماضيه التالد، ورفيع مكانته، ووفرة حزمه ونضجه، بمحبة الشعب وثقته وتأييده.

فيما يُضيف الوزير والمؤرخ الإشبيلي الفتح بن خاقان في إطار حديثه عن بني جهور:

أبو الحَزْم أمجدهم في المكرمات، وأنجدهم في الملمَّات، ركب مُتُون الفتون فَرَاضها، ووقع في بحور المِحَن فَخَاضها، مُنْبَسِطٌ غيرُ مُنْكمش، لا طائش اللِّسانِ ولا رَعِش.

ولا عجب في ذلك، فأبو حفص ينحدر من واحدة من أعرق السلالات العربية التي وطأت أرض الجزيرة الإيبرية، التي قدمت إليها قبل الأمويين أنفسهم، بعدما اختار أجداده الانحدار من الشام (وقيل من اليمن) إلى البلاد الفرنجية المفتوحة حديثًا قبل مدة طويلة من وصول الأمير الأموي الهارب من مجازر العباسيين عبد الرحمن الداخل.

وصف ابن حيان (آل عبيدة/ آل جهور) بأنهم من «الملازمين للطاعة، وليسوا من المتمردين».

الجد المُؤسِّس لآل جهور هو حسان بن مالك (أبو عبيدة) الذي هاجر إلى الأندلس خلال ماعُرف بـ «عصر الولاة» (92- 138هـ) وعاش في إشبيلية.

ولما لجأ عبد الرحمن الداخل، المعروف بلقب «صقر قريش»، إلى أقصى بقاع الأرض بُعدًا عن بغداد وهي شبه الجزيرة الإيبرية، كان بديهيًا أن يُلبّي عامل الأمويين نداء سيده، فنذر سيفه له وخاض معه حروبًا ضروسًا ووأد ثورات جمّة وكسب وِد القبائل حتى أُعلنت الخلافة الأموية إلى الأندلس، ورُفعت الرايات الخضراء فوق قصورها، دون أن يدري أبو عبيدة أن خير أحفاده سيسير على خطاه بممحاة وسيُفجِّر الثورة لإسقاط حُكم أسوأ أحفاد الأمويين.

تعتبر نهلة شهاب في كتابها «دراسات في تاريخ المغرب والأندلس»، أن نجاح عبد الرحمن في إقامة دولته لم يكن ليتم لولا تعاون أسر عربية استوطنت الأندلس، وعُرفوا في كُتب التاريخ بـ «موالي بني أمية».

وهم ليسوا بالضرورة كانوا عبيدًا للأمويين، وإنما من خاصة من تعاونوا معهم وخدموهم وكانوا من جملة رجالهم مثل بني شهيد (من غطفان) وبني مغيث (من عرب الغساسنة)، وأبرزهم بنو عبيدة، الذين كانوا مصدر قوة للإمارة الأموية وظلوا يخدمونها طوال عصرها.

استوزر عبد الرحمن أبا عبيدة على غرب الأندلس كلها حتى مات في إشبيلية.

ومن بعده حافظ أبناء «صقر قريش» على هذا الجميل لأبناء أبي عبيدة (آل جهور) فاعتمدوا عليهم في كثيرٍ من المناصب الإدارية الرفيعة كالحجابة والوزارة وولاية الأقاليم وولاية الشرطة وخزانة المال وكتابة الرسائل، وظلّوا على هذا الحال حتى أسقطوا الراية الأموية التي رفعوها بأنفسهم.

أما عن أبي الحزم نفسه فعمل كاتبًا للوالي الأموي،
وهو منصب رفيع في ذلك الزمن أشبه بمستشارٍ للأمن القومي وكاتمٍ أول لأسرار الدولة،
ولما انقلب بنو حمّود على الأمويين وانتزعوا منهم الحُكم بدعوى أنهم أيضًا أسرة
قرشية يحقُّ لها المُلك، لعب ابن جهور دورًا أساسيًا في إعادة بني أمية للعرش
مُجددًا، ولمّا خيّب الخليفة المعتدّ آمالهم صحّح ابن جهور خطأه وأمر بالإطاحة به
وبالأمويين للأبد.

صحيح أنه من المجحف تشبيه ابن جهور بأتاتورك،
فالرجل لم يُناصب الدين العداء ولم يُعلن العلمانية، وإنما قرّب منه العلماء
والمشايخ، إلا أن تأثير فِعلته بإعلان سقوط الخلافة يتشابه كثيرًا مع إعلان
أتاتورك سقوطها في أنقرة.

فلقد أعطت

[2]

هذه الثورة المبادرة للرؤساء والزعماء بإعلان استقلالهم وظهور دويلات الطوائف، وحين سلمت السُلطة إلى جهور رأت المدن الأخرى أن تحذو حذو قرطبة، ودخلت الأندلس رسميًا فيما عُرف بعصر «ملوك الطوائف»، بعدما تحولت من مملكة واحدة قوية إلى «فسيفساء إسلامية» مكوّنة من 20 مدينة حاكمة.

وبينما راح هؤلاء الملوك يأكلون بعضهم، راحت تنمو في إسبانيا دولة مسيحية عاشت على الأراضي التي لم يعد المسلمون قادرين على الدفاع عنها، فتأسست بعض الممالك الصليبية الصغيرة تحت قيادة الملك سانشو الكبير، وخلفه ابنه فرناندو الذي قاد حروب الاسترداد ضد المسلمين.

جمهورية بني جهور: الديمقراطية هي الحل

كان أبو حفص أذكى من أن يُعلن رغبته في تقلد منصب الإمارة كيلا يظنُّ النّاس أنه أجهز على بني أمية ليُنصَّب بدلاً منهم؛ لذا اكتفى بإعلان «السقوط» دون طرح البديل، وهو يعلم في قرارة نفسه أنه سيخوض انتخابات المُلك بالتزكية.

وكما يقول محمد عنان في كتابه «دولة الإسلام في الأندلس»، كان جهور خلال ذلك كله يتمتع بمكانة بارزة في الزعامة الشعبية، حتى غدا في نهاية الأمر «شيخ الجماعة»، وزعيم المدينة الحقيقي، وكان كثيرًا ما يؤثر برأيه في تطور الشئون والأحوال، في تلك الأعوام الأخيرة، التي كانت تحتضر فيها خلافة قرطبة، وتسير سراعًا إلى نهايتها المحتومة.

وكما توقّع أبو حفص، لم يجد أعيان قرطبة
ونُخبتها خيرًا منه ليُولّى الأمر، ولما أخطروه برغبتهم في توليته أميرًا عليهم
تمنّع!

وبعدها وافق على مضض بعد أن اشترط تعيين ابني عمه محمد بن عباس وعبد العزيز بن حسن وبعدها «خلعوا (أهل قرطبة) من دونهم من الرؤساء، ووحَّدوا له عقد الرياسة»، وبهذا دانت السيطرة التامة لآل جهور، بلا مُنازع، على رقعة واسعة في الأندلس شملت 7 مدن، هي: قرطبة، جيان وأبَّدَة وبيّاسة والمدور وأرجونة وأندوجر، وبهذا فقد امتدت الدولة الجهورية شمالاً حتى جبل الشارّات (سيرا مورينا)، وشرقًا حتى منابع نهر الوادي الكبير، وغربًا حتى قرب إستجة، وجنوبًا حتى حدود ولاية غرناطة.

كانت أول أهداف ابن جهور أن يُثبت أن عصره
سيكون على النقيض تمامًا من أيام سابقيه الذين أفسدوا البلاد طولاً وعرضًا؛ لم
ينتقل للعيش في أحد قصور الخلافة الفارهة وبقي في داره القديمة، كما لم يتّخذ
لنفسه مقصورة خاصة للصلاة في المسجد كما هو حال أسلافه الأمويين، ولم يُبِح لنفسه
أو لوزرائه أموال الدولة كالسابق وإنما خصَّص لنفسه ولقادة دولته راتبًا محددًا لا
يتقاضى غيره من بيت المال.

وأيضًا، خفّف المكوس (الضرائب) على النّاس
وأصلح أحوال القضاء، ولم يتّخذ حرسًا لنفسه ولم يُحط نفسه بأي مظهر من مظاهر
الأبهة.

وفي زمن الفتنة والتمزّق الذي عاشته البلاد، سعى لتجنيب قرطبة قدرًا من هذه الصراعات، فبعث رسائل السلام لجيرانه مطمئنًا إياهم أن سياسته لن تشمل العدوان عليهم أبدًا، كما طرد كافة عناصر الإقلاق الداخلي كجنود البربر المشاغبين، ثم أمر بتسليح كافة المواطنين ووزّع عليهم السلاح في بيوتهم ودكاكينهم حتى يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم إن صعقتهم أخطار مُفاجئة.

وعندما عاد الأمير الثائر أمية بن عبد الرحمن من ثغره البعيد، وسعى لاسترداد عرش أجداده لم يتردد أبو حفص في قتله.

تقول إيناس البهيجي في كتابها «تاريخ الأندلس»، أدمن ابن جهور السياسة بحُكم اشتغاله بالوزارة والكتابة وملازمة الخلفاء والأمراء، فعَرَّفته التجارِب أن التسلُّط والاستبداد طريق الزوال القريب، فابتكر نظامًا سياسيًّا شوريًّا، أقرب إلى النظام الديمقراطي في وقتنا الحاضر، فلم ينفرد بالسياسة ولا بتدبير الأمور، بل شكَّل مجلسًا شوريًّا وزاريًّا من الوزراء وأهل الرأي والمشورة والقيادة بقُرْطُبَة.

وبهذا يكون أبو حفص قد أعاد الرونق لمفهوم «الشورى» للحُكم في الدولة الإسلامية، وطبّقه لأول مرة على نحوٍ سليم في الأندلس، حتى أن بعض المؤرخين أطلقوا على دولته اسم «جمهورية جهور».

وهو ما حدى بعنان إلى اعتبار أن الدولة الجهورية اتّبعت «نوعًا خاصًا» من الحُكم لم يعتد عليه النّاس في عصر سادت فيه نزعة الرياسة الفردية والحكم المطلق، فلم ينفرد بتدبير أي أمر، وإنما شكّل «نخبة» من صفوة الزعماء والقادة أسماهم «الجماعة» وكان يُعلن للناس دومًا أنه لا يمتلك عطاءً أو منحًا خاصًّا وإنما الأمر بأسره يعود إلى قرار النخبة حتى أنه لقّب نفسه بـ«أمير الجماعة».

ويعتبر عنان أن هذا التصرف كان «نموذجًا بديعًا» من حكم الشورى، أو حكم الأقلية الأرستقراطية، وهو النهج الذي سارت عليه فيما بعد بعض الولايات الإيطالية مثل حكومة «الكوموني» في جنوة، وحكومة «السنيوريا» في فلورنسا أيام حكم آل مديتشى.

وحينما ادّعى القاضي أبو القاسم بن عباد صاحب إشبيلية أن الخليفة هشام المؤيد الأموي لم يمت، وأنه يأويه في بلدته، وطلب من حاكم قرطبة أن يُعلن البيعة له بصفته الخليفة الشرعي، أبَى ابن جهور أن يُلدغ من جُحر الأمويين مرتين، وكان يُدرك أنها مجرد حيلة من جاره اللدود ليبتلع مُلك قرطبة كما فعل في إشبيلية، فقاوم هذه الدعاوى بشدة ورفض الانصياع لها.

ساهمت هذه السياسات في حدوث طفرة معيشية كبيرة بحياة القرطبيين أبدى المؤرخ ابن حيان، الذي كان يبلغ عمره 45 عامًا حينها، إعجابه الشديد بها، بقوله: «فعجب ذو التحصيل للذي أرى الله في صلاح الناس من القوة، ولما تعتدل حال، أو يهلك عدو، أو تقو جباية، وأمر الله تعالى بين الكاف والنون»، لذا اختار ابن حيان العيش في ظِل الجهاروة معتبرًا دولتهم «خير بيئة يستطيع فيها أن يسجل أحداث عصره».

وهو ذات ما أكَّد عليه ابن خاقان في حديثه عن تجربة ابن جهور مع الحكم، بقوله:

دبَّرها بالجِدِّ والعزم، وضبطها ضبطًا أَمَّنَ خائفها، ورفع طارق تلك الفتنة وطائفها، وخلا له الجوُّ فطار، واقتضى اللُّبَانَات والأوطار، فعادت له قُرْطُبَة إلى أكمل حالاتها، وانجلى به نوء استجلالاتها، ولم تزل به مشرقة، وغصون الأمل فيها مورقة إلى أن تُوُفِّيَ.

وهكذا عاشت
قُرطبة أيام سعدها لمدة 13 عامًا هي مُدة مُلك أبي جهور، الذي تُوفي عام 435هـ
وخلفه ابنه أبو الوليد.

وبالرغم من أن خلافًا قديمًا كان قد شجر بين أبي حفص والشاعر الأندلسي الشهير ابن زيدون، أمر بموجبه الأول بسجن الأخير، إلا أن هذا لم يمنع الشاعر من الحُزن على وفاته، فرثاه بعددٍ من الأبيات البليغة، قائلاً:

ألم تر أن الشمس قد ضمّها القبر :: وأن قد كفانا فقدهما القمبر البدر

وأن الحيا إن كان قد أقلع صوبه :: فقد فاض للآمال في إثره البحر