لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟





من رواية رجال في الشمس، غسان كنفاني

كلمات انتهت بها رواية «رجال في الشمس» التي كتبها غسان كنفاني عام 1962، ورغم مرور سنوات طويلة على كتابتها فإنها تعبر عن الواقع الأليم الذي يعانيه الكثير من الفقراء ومحدودي الدخل جراء انتشار فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19» اليوم.

دارت أحداث الرواية حول قصة الشعب الفلسطيني بعد الاحتلال، حيث الفقر والتشرد في مخيمات اللجوء. كان أبطالها ثلاثة رجال «أبو القيس وأسعد ومروان»، جميعهم عانوا الفقر المدقع هم وأسرهم، بحثوا عن فرصة للنجاة ولم يكن أمامهم سوى المخاطرة بحياتهم والهرب عبر الحدود العراقية الكويتية إلى الكويت.

في طريقهم جمعتهم الصدفة برجل رابع هو أبو الخيزران (سائق صهريج الماء الفلسطيني)، اتفق معهم على تهريبهم بمبلغ أقل من المبالغ التي عرضها المهربون الآخرون، لكن بشرط نزولهم إلى الخزان لعدة دقائق عند عبور الحدود العراقية الكويتية، وإخراجهم منه بعد إنهاء المعاملات المطلوبة. لم يكن أمام الرجال إلا الموافقة على الشرط وبالفعل دخلوا الخزان لأول مرة على الحدود العراقية، كادوا يفقدون حياتهم لولا أن أسرع أبو الخيزران لإنقاذهم في اللحظات الأخيرة.

تكرر الأمر عند وصول الحدود الكويتية، فدخلوا إلى الخزان، لكن في هذه المرة أخذ أبو الخيزران وقتًا طويلًا في إجراء معاملة الدخول، كان أمام الرجال فرصة للنجاة عبر طرق جدران الخزان، لكنهم فضلوا المخاطرة بحياتهم على أمل الوصول والخلاص من الفقر، لكن هذا لم يحدث، فما إن عاد أبو الخيزران حتى وجدهم قد أصبحوا جثثًا هامدة، لتنتهي الرواية بعبارته: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟

جائحة
الجوع والفقر: الأرقام تتحدث عن الواقع الأليم

اليوم وبعد مرور سنوات طويلة يتكرر المشهد ثانية لكن على أرض الواقع، إذ عثرت الشرطة في الهند على عمال مختبئين داخل أسطوانة شاحنة للخرسانة في محاولة للوصول إلى عملهم والالتفاف على إجراءات الحظر المفروضة. وفي مومباي، تكرر الأمر ثانية

حيث اختبأ

300 عامل في شاحنات تنقل المواد الغذائية حتى يتمكنوا من الوصول إلى منازلهم بعد انتهاء عملهم بعيدًا عن تدقيق الشرطة.

كل هذه محاولات من قبل العمال للحصول على قوت يومهم دون الاكتراث بحياتهم المعرضة لخطر الإصابة بالفيروس، وتعبر في داخلها عن الخيارين الصارخين أمام الكثير من الفقراء ومحدودي الدخل حول العالم: إما الموت من الفيروس أو الجوع.

قد يبدو للبعض أن هذا أمر مبالغ به، لكن واقع الحال ليس كذلك، فالخياران

أعلنتهما منظمة

العمل الدولية صراحة حينما خرجت بتصريحات

توقعت خلالها

أن يفقد العالم نحو 5.3 مليون وظيفة في أفضل الاحتمالات، وحوالي 24.7 مليون وظيفة في العام الحالي في أسوأ السيناريوهات.

لم تكن المنظمة وحدها من صرحت بخيار الموت مرضًا أو جوعًا، فمختلف المنظمات الدولية خرجت بتقارير متشائمة بشأن معدلات الفقر والجوع المتوقعة. فالبنك الدولي –مثالًا-

أكد أن أزمة

كورونا لم يشهد العالم لها مثيلًا من قبل في العقود الأخيرة من حيث آثارها الاقتصادية والاجتماعية المحتملة، وتوقع أن يقع بسببها نحو 49 مليون شخص حول العالم تحت خط الفقر الشديد خلال العام الجاري.

كذلك رفعت منظمة أوكسفام الدولية

سقف

التوقعات إلى نحو نصف مليار شخص في العالم من المحتمل أن يعانوا خطر الفقر بسبب الفيروس. وفي المنطقة العربية، رجح تقرير جامعة الدول العربية حول القطاع الاجتماعي، أن تخسر الدول العربية نحو 1.7 مليون وظيفة هذا العام، وأن

تتقلص الطبقة

المتوسطة في المنطقة، ما يدفع بأكثر من 8 ملايين شخص إضافي إلى الدخول ضمن دائرة الفقر، وبصفة خاصة العمالة غير المنتظمة، غير المشمولة بأنظمة الحماية الاجتماعية.

جاء برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة،

ليشير إلى

ارتفاع عدد من يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد إلى 265 مليون شخص بنهاية هذا العام، مقارنة بـ 135 مليونًا في عام 2019، ما يعني زيادة بنحو 130 مليون شخص إضافي كانوا يعيشون على حافة المجاعة.

بناءً على هذا، خرج ديفيد بيسلي المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي أمام مجلس الأمن الدولي (مؤتمر عبر الفيديو) ليزيد الصورة قتامة،

قائلًا

:

يواجه العالم أسوأ أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية… إننا بالفعل على شفا وباء الجوع.. إذا لم نتمكن من الوصول إلى هؤلاء الأشخاص بالمساعدة، يظهر تحليلنا أن 300 ألف شخص يمكن أن يموتوا جوعًا كل يوم على مدى ثلاثة أشهر.





ديفيد بيسلي، المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي

الموت
بالجوع أو المرض: البعض يفضل الخيار الثاني

ترجمت التوقعات القاتمة هذه على أرض الواقع في أحاديث الأفراد الأكثر تضررًا من الأزمة سواء من العمالة غير المنتظمة، أو الفقراء ومحدودي الدخل أو حتى الطبقة المتوسطة، لكنها بالطبع كانت أكثر قسوة لمن يعتمد في قوت يومه على أجره اليومي، وبالفعل ظهر خيار الموت من الجوع أو العدوى والمرض أمامهم، في أحاديث من قبيل:

هتفرق إيه إذا

أصبت بالكورونا

من عدمه؟ أنا الآن بلا دخل منذ أكثر من أسبوعين ولا أجد قوت يومي وإذا استمر الحال على كده هموت من الجوع أنا وعيالي، وإذا أصبت بالكورونا هموت، النتيجة واحدة […] سهل على المسئولين أن يقولوا لا تخرج من بيتك، لكن إذا لم أخرج لمدة أسبوع، فسيموت أطفالي وزوجتي… نحن خائفون من هذا المرض ولكن

الجوع سيقتلنا






أحاديث لعدد من العمالة اليومية حول العالم

هذه الأحاديث لم تكن حكرًا على منطقة معينة، بل كانت لسان حال العديد من الفقراء والمتضررين من الأزمة بمختلف دول العالم، الذين اختار الكثير منهم الموت بالمرض بدلًا من الجوع، لكن هل تعلم لماذا؟ إنها

سيكولوجية الفقر والعوز

.

إن قرارات الفقير الذي يحتاج المال تشبه قرارات المحروم من الأكل أو النوم. فالحرمان من أي شيء يحد من قدرة العقل، يجعله أقل بكثير عن قدرة العقل في حالة الاكتفاء والشبع. الفقير يغلف حياته حالة من الندرة، ندرة في الغذاء والفرص، هذه الحالة تغير سيكولوجيته، تؤثر على قراراته،

وتحد من قدرته

على توسيع نطاق التفكير أو استقراء العواقب والآثار المستقبلية لقراراته.

وإذا أضفنا لهذه الندرة الضغوطات التي يفرضها الفقر، يبدو واضحًا كيف يمكن لهذا الفقر أن يعطل ويحد من قدرة العقل. فالأمر

أشبه بمن

يكون مشغولًا بإخماد حريق يحدث أمامه، وعليه أن يتخذ قرارًا.

أشبه أيضًا

بجهاز كمبيوتر جديد يقوم بتشغيل 10 برامج ثقيلة في وقت واحد، فمن الطبيعي أن يصبح أبطأ، ويخطئ، وفي النهاية يتجمد – ليس لأنه جهاز سيئ، ولكن لكثرة الضغوطات والأشياء التي يجب أن يفعلها في وقت واحد. هكذا هو حال الفقير، يعاني ضغوطات مالية كثيرة تدفعه في النهاية لاتخاذ قرار المخاطرة بالموت مرضًا، أملًا في تخفيف هذه الضغوطات.

الأمر ليس حكرًا على الأزمات

واقع الحال يشير إلى أن هذا هو الحال في مختلف قرارات الفقراء ومحدودي الدخل في الحياة بصفة عامة وليس في الأزمات وحدها، ولعل هذا ما يزيد الإنسان فقرًا، ويجعل محاولاته للخروج من الفقر دون جدوى. فالفقر يؤثر في الدماغ البشري، يؤدي إلى ضعف الإدراك، ما يقود الفقير بالنهاية إلى اتخاذ أسوأ القرارات، وبالتالي الاستمرار في دائرة الفقر.

وقد أثبت هذا العديد من الدراسات والأبحاث من بينها بحث

نشر في

مجلة «ساينس» العلمية، وضح أن الفقر يمكنه أن يستنزف الموارد العقلية للإنسان، وأن المخاوف المالية تشغل مساحة أكبر من ذهن الفقير، وأن الضغط المالي المستمر من شأنه أن يتسبب في إحداث تغيير سلبي على حياة الفقير وقراراته.

ليس هذا فقط، فمختلف الأبحاث التي أجريت بهذا الإطار،

أظهرت أن

الأشخاص ذوي الدخل المنخفض عادة ما يركزون على الحلول قصيرة المدى، وكيفية الخروج من الأزمات الآنية وإيجاد حلول سريعة لها، هذه الحلول السريعة -مثل الاقتراض بمعدلات مفرطة- تزيح همومهم اليومية، ولكنها تجعل مستقبلهم أكثر سوءًا. هذا ما يحدث اليوم بالنسبة لأزمة فيروس كورونا، فالتركيز الآن على سد الاحتياجات وتأمين الغذاء، دون النظر للتداعيات السلبية فيما بعد.

ما يزيد الأمر صعوبة هنا، عدم ثقة الفقراء حول العالم في قدرة حكوماتهم أو مجتمعاتهم على حمايتهم من الجوع، ما يدفعهم للمخاطرة لتجنب الجوع. أثبتت هذا

ورقة بحثية

حديثة نشرت في الأكاديمية الوطنية للعلوم أوضحت أن الفقراء يمكنهم اتخاذ قرارات قوية وطويلة الأجل – شريطة أن يثقوا في مجتمعاتهم المحلية.

بينت الورقة أن الفقراء إذا شعروا بإمكانية الاعتماد على مجتمعاتهم في مواجهة أي مخاطر محتملة، فمن المرجح أن يتخلوا عن تلك الحلول قصيرة المدى ويركزوا على الصورة الكبيرة مثلهم مثل غيرهم من المكتفين وميسوري الحال.

إذا أضفنا لهذا، عوامل أخرى من قبيل الثقافة المحيطة بالإنسان التي يفرضها وضعه المعيشي والتي تؤثر في سلوكه، والطبيعة غير المرئية لانتشار الفيروس، يبدو واضحًا لماذا لا يتم الالتزام بتعليمات مكافحة الفيروس من مختلف الطبقات والفئات، فالبشر بشكل عام

أكثر استجابة

عندما يكون هناك دليل فوري على النتيجة. ولكن بسبب وجود فترة حضانة طويلة، ولأن الكثيرين لا تظهر عليهم الأعراض في البداية، فإن التجاوب يكون متأخرًا.

على الطريق ذاته تسير الدول

بالفعل

اتخذت العديد

من الدول الأوروبية الأكثر تضررًا من الوباء، خطوات مبدئية تهدف إلى تخفيف الإغلاق الصارم المطبق فيها. ففي الدنمارك، تم استئناف بعض الأنشطة التجارية لأعمالها، وفي إسبانيا استأنفت بعض القطاعات الاقتصادية نشاطها، مع عودة عمال البناء والمصانع إلى عملهم.

بالنظر إلى مختلف الإجراءات الدولية المتخذة حاليًّا، يبدو أن منطق الفقير في تعامله مع أزمة كورونا، هو المنطق الذي بدأت تتعامل به الدول، فقد تحرك العديد منها، باتجاه مرحلة جديدة، تتجاوز مرحلة العزل الصحي، إلى التعايش مع الفيروس.

في إيطاليا وألمانيا تم السماح لبعض المحال بفتح أبوابها، وهكذا هو الحال في الكثير من الدول التي أطلقت جملة من تخفيف الإغلاقات، ورفع القيود عن التجارة، وحرية الحركة. وبالطبع لم تكن مصر بعيدة عن هذا،

فبدأت الحكومة

تخفيف الإجراءات الوقائية عبر فتح المحال والمراكز التجارية طوال أيام الأسبوع، وعودة بعض الخدمات الحكومية للعمل جزئيًْا، فضلًا عن إعلانها مزيدًا من التخفيف بداية من يونيو/حزيران المقبل.

جاءت مختلف هذه الإجراءات بفعل التأثير السلبي المتفاقم، الذي تركته حالة العزل الصحي على الاقتصادات الدولية التي تعطلت قطاعات كبيرة منها تعطلًا تامًّا، وتسببت بخسائر

وصلت إلى 50

مليار دولار في صادرات الصناعات التحويلية في جميع أنحاء العالم، خلال شهر فبراير/شباط وحده.

إلى جانب الأضرار التي تكبدتها كل دولة على حدة حيث الانخفاض في الاحتياطي النقدي والذي انخفض في مصر على سبيل المثال بمقدار 5.4 مليار دولار في مارس/آذار، وبنحو 3.07 مليار دولار بنهاية أبريل/نيسان الماضي، فقد انخفض الاحتياطي النقدي العالمي بمقدار 175 خلال شهرين فقط.

توقع أيضًا صندوق النقد الدولي تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي خلال العام الجاري بوتيرة أكبر مما شهده عام 2019. حيث خفَّض الصندوق توقعاته للنمو في العام الحالي بحوالي 0.4% على الأقل. وفي الشرق الأوسط، خفضت كابيتال إيكونوميكس البحثية

توقعاتها للنمو الاقتصادي

في المنطقة وشمال أفريقيا بـ 0.5% ليصبح 2% فقط نتيجة للأزمة.

وفي ظل هذه الأضرار الاقتصادية، والتوقعات الدولية المتشائمة بشأن معدلات الفقر والجوع العالمية، وجدت الحكومات نفسها بين نارين، إما استمرار عمليات الإغلاق والعزل، أو التعايش مع الفيروس والعودة إلى العمل والحياة الطبيعية. ونتيجة للتكاليف الاقتصادية الكبيرة والتي لا يمكن الاستمرار في تحملها، لجأت إلى الخيار الثاني الذي سبق أن اختاره الفقراء والمتضررون بشكل كبير من الأزمة، فلم يعد أمامهم إلا ممارسة الحياة الطبيعية والمخاطرة بالحياة تفاديًا للجوع.

ختامًا، هذه ليست دعوى للخروج ولكن محاولة لتقديم الصورة من جانب آخر، وتفهم أوضاع الفقراء، فالميل إلى عدم اتخاذ القرارات الصحيحة موجود لدى الجميع، إلا أنه أكثر ظهورًا لدى الفقراء.