إشكالية البحث

يتعرّض البحث لنشأة فكرة «حقوق الإنسان» في الخطاب السياسي الغربي المعاصر، ودورها وتطورها التاريخي، مع نظرة على مدى توافقها أو تعارضها مع الخصوصيات الحضارية والثقافية للشعوب؛ متناولًا كذلك أهميتها في مواجهة التحديات المزمنة التي تواجه المجتمعات الإنسانية المعاصرة، من الاستبداد والديكتاتورية إلى الحروب المدمرة وليس انتهاءً بالفقر والبطالة وسوء توزيع الثروات والفساد المالي.


هل تتعارض الهويات الثقافية وحقوق الإنسان؟

هكذا ينظم القرآن العلاقات الدولية في إطارها الأمثل من التعارف والتواصل الإنساني، بغية الوصول إلى فهم أوسع للحالة الإنسانية human condition ومقاصد وأهداف الحضارات المختلفة. ربما ينبغي بداية أن نُعرِّج على مفهوم حقوق الإنسان في السياق المعاصر، مع لمحة تاريخية عن نشأة الخطاب الحقوقي وأهميته في العصر الحديث؛ ثم نعود للتفصيل حول التفاعلات الثقافية المختلفة مع ذلك الخطاب، وكيف يمكن أن تضيف الشعوب والأمم غير الأوروبية لهذا الخطاب من أجل تطويره وجعله أكثر إنسانية وشمولية وأكثر قابلية للتوظيف في سياق الدفاع عن كافة الأمم ضد الاستبداد السياسي والظلم والجهل والفقر والاستغلال الاقتصادي.

يعرّف أندرو هيود، أستاذ العلوم السياسية، حقوقَ الإنسان بأنها الحقوق التي يتمتع بها أي إنسان بما هو إنسان وحسب، فهي حقوق لا تعتمد في أصلها على جذور إثنية أو قومية أو دينية. وهي حقوق عالمية الطابع universal، فهي تشمل كافة البشر دون تفرقة على أساس اللغة أو الدين أو الجنس أو العرق.

ومن جانب آخر، فهي حقوق أساسيّة basic and fundamental لا غنى لأي إنسان عنها، وكذلك لا يمكن التنازل عنها أو عن بعضها والإبقاء على البعض الآخر؛ فرغم التفريق بين الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية—كما سنتناول لاحقًا—فإنّ هذه التفرقة، على الحقيقة، هي فقط من ناحية تقنيّة قانونية وليست تفرقة واقعيّة؛ فهذه الحقوق وتلك تترابط وتتداخل ويؤدي بعضها إلى الآخر، وغيابها بعضها قد يُفضي بشكل أو بغيره إلى غياب البعض الآخر.


نشأة فكرة حقوق الإنسان في الخطاب السياسي المعاصر

مع بدايات عصر النهضة (القرن الخامس عشر الميلادي) في أوروبا، ومع انتشار فكرة الإنسانية humanism وابتعاد الخطاب الفلسفي الغربي، إنْ تدريجيًا أو راديكاليًا، عن الجذور الدينية للحقوق والتركيز على القواسم المشتركة بين البشر ليصل إلى النتيجة المنطقية أن كل الناس سواسية، مستحقون لنفس الحقوق، مع أدائهم لواجباتهم تجاه المجتمع والآخرين.

ونظرية الحقوق الطبيعيّة natural rights هي نظريّة وفلسفة قديمة ذكرها فلاسفة اليونان والعصور الوسطى (مسلمون ومسيحيون)، وإنْ اكتملت صياغتها في عصر التنوير enlightenment في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وقوام هذه الفلسفة أن الإنسان حين يولد، فإن له حقوقًا مصدرها كونه إنسانًا، فهي جزء لا يتجزأ من ماهيته وكينونته، ولا يجوز لأحد كائنًا من كان، حتى هو نفسه، أن ينفيها عنها أو ينازعها عليه أو ينكرها أو يسعى في حرمانه منها أو التعدّي عليها. وقد كان هذا مصدر الحراك الحقوقي الذي أودى بسلطات الكنيسة والملكية المطلقة التي حكمت باسم الحق الإلهي. وبهذا انتزع الأوربيون حرية الاعتقاد والرأي والعبادة والحريات الاقتصادية والسياسية بعد قرون طوال من القمع والاستبداد والحروب الدينية.

للثورتين الأميركية والفرنسية تأثيرهما البالغ والذي لا ينكر في تطور وبلورة خطاب سياسي جديد يركز على شمولية وعمومية حقوق الإنسان، وأنها بمكانة لا يمكن إنكارها أو التنازل عنها أو التفريط فيها تحت أي ظرف inalienable. في مسودات الإعلانات التي أتت ثمرة هاتين الثورتين اهتمام شديد بفلسفة الحقوق الطبيعية، وتركيز واضح على أن الحقوق المنصوص عليها هنالك ما هي إلا مسلّمات بدهية وحقوق أساسية يكتسبها الإنسان لا عن طريق إرشادات دينية أو نصوص مقدسة، وإنما فقط بالحق الطبيعي؛ أي أنه يكتسب تلك الحقوق بشكل طبيعي ناتج عن كونه إنسانًا بالمقام الأول، لا بفضل انتمائه إلى عرقٍ أو دينٍ أو جنس بعينه دون آخر.

يقول توماس جيفرسون، كاتب إعلان الاستقلال الأميركي، وأحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركيّة: «نحن نؤمن بأن الحقوق الآتية من البديهيات، وهي أن جميع البشر قد خُلِقوا متساوين، وأن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة لا يمكن انتزاعها، من بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة». ومن هذه الوثيقة وأشباهها أتى شعار الحلم الأميركي: life, liberty, and the pursuit of happiness. بهذا التعليق شديد الأهميّة—والذي أتى في سياق إعلان الاستقلال الأميركي، معتمدًا على إعلان فيرجينيا (يونيو 1776)—يتلخص تحوُّل المظالم السياسية المعتادة في التاريخ الإنساني إلى إعلان يركِّز على توطين حقوق الإنسان كمبادئ أساسيّة من مبادئ العمل السياسي الذي يراعي مصالح الشعوب والأفراد على نفس الدرجة والوتيرة من الاهتمام والرعاية.

ومن منظورٍ آخر، فإن أساس الفكر الليبرالي في حقوق الإنسان يقوم على فكرة العقد الاجتماعيّ، وأن الناس يتعايشون بناءً على تعاقدٍ ضمنيّ أو صريح بينهم يقوم على أساس احترام الحقوق والواجبات، مما يجعلهم يؤسسون قواعد وتشريعات تضمن حماية حقوقهم وتعايشهم في سلام ورخاء. فمن واجب كل فرد ألا يتعدّى على حقوق غيره، بل وأن يعمل على حمايتها لو تعرّضت للخطر، حتى يضمن أن يحصل على حقوقه غير منتهكة أو منقوصة ويجدَ كذلك من يدافع عنها حين يتعدّى عليه أحد أو يتعرّض للمخاطر.

ومن جانبٍ آخر، فقد كان شعار الثورة الفرنسيّة «الحريّة، المساواة، الإخاء» مصدرَ إلهام للكثير من الحركات الحقوقيّة والتشريعات الدوليّة التي أتت لاحقًا لتوطيد الخطاب الحقوقيّ في العمل السياسي والنضال الإنساني ضد الاستبداد والطغيان. ويرى البعض أن هذا الشعار يلخّص الكثير من التصنفيات المتعددة لحقوق الإنسان التي اضطلع النظام الحقوقي في ظل هيئة «الأمم المتّحدة» بتفصيله وتوقيع المعاهدات والمواثيق الدوليّة من أجله، كما سنبيّن في السطور التالية.


الحقوق الإيجابيّة والحقوق السلبيّة

تنقسم حقوق الإنسان، كما مفهوم الحريّة كذلك، إلى شقّين: حقوق إيجابيّة وأخرى سلبيّة. أما السلبيّة فهي التي تحرّر إرادة الإنسان من تدخّلات الآخرين وتجاوزاتهم بحقّهم، وتمنع سلطان الدولة من البطش برعاياها؛ فهي حريّةٌ وانعتاقٌ مما يكبّل الإنسان ويُملي على إرادته غير ما يهوى ويحبّ. وأما الحقوق الإيجابيّة، فهي تلك التي تتطلّب معونةَ الغَير ومن مؤسسات الدولة ومرافقها حتى يتمكّن الإنسان من تحقيق ما يصبو إليه ويتطلع إلى بلوغه؛ وهي بذلك الحريّة في الوصول والسعي إلى الغاية والهدف مع محفّزاتٍ وتسهيلاتٍ خدماتيّة وسياسيّة.


أجيال من حقوق الإنسان

عادةً ما يقسّم الأكاديميون والناشطون الحقوقيّون، حقوق الإنسان، إلى خطابات نشأت في سياقات تاريخيّة وسياسيّة معيّنة، ولهذا فكثيرًا ما نرى أن حقوق الإنسان ليست مجموعة من الحقوق المتناسقة تحت مظلّة واحدة، وإنما تنقسم إلى أجيال وخطابات يتم تصنيفها وِفقَ مجالات تأثيرها واهتماماتها الأساسية، إنْ سياسيّة أو اقتصادية أو اجتماعيّة أو ثقافيّة.

الجيل الأول

ركّز الجيل الأول من خطاب حقوق الإنسان على قيمة الحرية، وكان يظهر في صورة الحقوق المدنية والسياسية بشكلٍ أساسيّ. ومن بين هذه الحقوق التي تبّنتها خطابات الجيل الأول، حق الحياة، الحرية السياسية، عدم التفرقة العنصرية، عدم التعرض للسجن بدون تهمة، حرية الفكر والاعتقاد، وغيرها من الحقوق السياسيّة الأساسية. وقد بدأ الخطاب الحقوقيّ التركيز على هذه الحقوق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى أن تُوِّجَ بإعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان (ديسمبر 1948) الذي تبنّى ضمن مواده مبادئَ أساسيّة تركّز على هذه الحقوق. فيما وقّعت معاهدة دولية عام 1966 من أجل صياغة قانونية لهذه الحقوق، وقد عرفت باسم «الميثاق الدولي للحقوق المدنيّة والسياسيّة»، وقد دخل حيّز التنفيذ عام 1976.

الجيل الثاني

على صعيدٍ آخر، خلال القرن العشرين انتشرت أفكار تدعو إلى المساواة الاقتصادية، وظهرت خطابات تركّز على الحق في العمل، والأمن الاجتماعيّ، والرعاية الصحيّة، والحق في التعليم، والحق في الحصول على إجازات مدفوعة الأجر؛ مع اهتمام بقيم المساواة والعدالة. ومن خلال هذا الخطاب الذي تبّناه أيضًا الإعلان العالمي (1948) في مواد أخرى من مواده، أتى وصف هذا الجيل من الخطاب الحقوقي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ وقد تبنّاه «الميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية»، وكميثاق الجيل الأول، تم توقيعه عام 1966 ودخل حيّز التنفيذ القانوني عام 1976.

الجيل الثالث

مع انتهاء الحرب العالميّة الثانية، ومع ترسيخ الجيلين الأولَين من الخطاب الحقوقي، ظهرت أفكار تدعو إلى التركيز أكثر على القيمة الثالثة من قيم الثورة الفرنسيّة (بافتراض أن الجيل الأول يركّز على قيمة «الحرية»، في حين أن الجيل الثاني يتناول قيمة «المساواة»). وبالتالي، فإن العالم كان بحاجة إلى دعوات إلى نشر قيمة «الإخاء» والتضامن والتكافل بين شعوب العالم وأفراده. من أجل هذا، ركّز خطاب هذا الجيل على حقوق جماعيّة مثل حقّ تقرير المصير، الحق في العيش في سلام، الحق في الحصول على فرص متكافئة من أجل التنمية، حماية البئية والحق في بيئة نظيفة، والسلام الأخضر.

ورغم أهمية هذا الخطاب المتمثّلة في تناوله قيمًا وحقوقًا تمس الغالبية العظمي من سكان الكوكب، إلا أن بعض هذه الحقوق تعارض مع مصالح واهتمامات الدول الأوروبية وأميركا (حق تقرير المصير مثلًا)؛ وبالتالي أتى إهمالها في إعلان الأمم المتحدة (1948) وميثاقَيْها آنفَي الذكر (1966). ورغم أن ميثاق ستوكهولم للبيئة (1972) وقمة ريو دي جانيرو (1992) حاولا تقنين ولفت الأنظار إلى هذه الحقوق، لكن تبقى هذه المواثيق غير كافية طالما لم تحظَ بدعم القوى الكبرى، التي ركّز جلّ اهتمامها بالحقوق السياسية والاقتصادية لما لها من تأثير مباشر لا يتعارض مع مصالحها بالأساس.


مفهوم الخصوصية

يقصد الكثير من الباحثين وأساتذة العلوم السياسية بمفهوم الخصوصية عند الحديث عن حقوق الإنسان السياقَ الحضاري والتاريخي الذي ينظّم العلاقات الإنسانية وما يتبعها من حقوق وواجبات. بمعنى آخر، فإن الخصوصية تعني وضع الأمور في سياقات تاريخية وثقافية contextualisation حتى يتسنّى لنا فهمها بصورة أفضل وأشمل.

وقد أتى سؤال الخصوصية في خضّم مجابهة سؤال العولمة، وتأثيراتها على النطاق الذي يمكن فيه تطبيق حقوق الإنسان، لا محض الحديث والتنظير عن أهميتها وعدالة قضيتها. فمع تزايد المجالات والقضايا التي أصبحت من بين الأمور الخاضعة للعولمة، أصبحت الحاجة ملّحة لتحديد ماهيّة حقوق الإنسان وهل يمكن «عولمتها» حقًّا، أم أن ما يصلح في سياق حضارةٍ وثقافةٍ ما قد لا يصلح، أو يتعارض، مع غيرها.

عادةً ما ينظر للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان (1948) على أنه نتاجُ الأحوال السياسيّة والاقتصاديّة على الساحة الأوروبيّة في منتصف القرن العشرين، في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية. وهذا ما يفسّر اهتمامه وتركيزه على الحقوق السياسيّة والاقتصاديّة بشكل خاص، وتبنّيه للقيم الليبراليّة التي كانت سائدة آنذاك؛ ومن ثمّ يأتي تركيزه على قيم الفرديّة والمواطنة والحريّة كحقوق طبيعيّة natual rights لا يمكن إنكارها أو التنازل عنها.


الخصوصيات الحضارية: عائق أم حافز؟

على صعيدٍ آخر، من الممكن أن تصبح الخصوصيّة الحضارية للشعوب حافزًا وبوابةً للتمكين للخطاب الحقوقي في أوطان أخرى خارج القارة الأوروبية وأميركا الشماليّة؛ وذلك عن طريق إيجاد رابط وجذور لهذا الخطاب في الهويّة الثقافية والحضاريّة للشعوب الأفروآسيويّة، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ إذ تجمع تلك الشعوبَ الهويّةُ الإسلاميّة العربيّة في الغالب، وبالتالي يمكن ربط ذلك الخطاب بجذور الحقوق الإنسانيّة التي أكّدت عليها المبادئ الإسلاميّة والأخلاقيّات العربيّة حتى في عهد ما قبل الإسلام، من أمثال حلف الفضول وغيره.

وإذا ما تمّ ذلك، ورأى الناس أنّ هذه الخطابات لها جذورها في تاريخهم وثقافتهم، انتهت وظيفةُ منظمات المجتمع المدنيّ المعنيّة بحقوق الإنسان سهلةً ميسورة، إذ تتجذّر الدعوات الرامية إلى احترام الحقوق الأساسيّة بتجذّر الثقافة والحضارة العربيّة الإسلامية، ويصبح من السهل التكيّف معها واعتبارها أصيلةً لا دخيلةً على الشعوب العربيّة. وهذا ما يقطع السبل أمام السلطات والحكومات التي عادةً ما تتذرّع بدواعي احترام الخصوصيّة العربيّة، وتعمد إلى التنبيه على الجذور الغربيّة لذلك الخطاب الحقوقي، لتصل إلى الاستنتاج القائل أنها لا تتناسب مع الأوضاع القائمة في المجتمعات العربيّة.

حين يُصقل الخطاب الحقوقي العربيّ ويصبغ بالصبغة التي تعبّر عن هوية وثقافة المجتمعات العربيّة، فإنه وقتئذٍ يلقى قبولاً شعبيًّا ولا تستطيع السلطات إنكاره أو التنكّر له بالحجج المعتادة، وإنما ينقل من كونه خطابًا نخبويًّا لا يعكس قيم المجتمعات والشعوب إلى متحدّث باسمهم ومدافعٍ عن قضاياهم وحقوقهم بشكل جادّ وصادق، عِوضَ ما يوصم به اليوم من كونه خطابًا تغريبيًّا مغايرًا لثقافة الشعوب التي يُفتَرَض به الدفاع عن حقوقها وكرامتها.

على صعيدٍ آخر، فإن العولمة كما دفعت إلى ذوبان الكثير من الحدود الثقافيّة والاجتماعيّة بين الشعوب؛ فإنها كذلك تدفع إلى تفاعلٍ أكبر في مجال حقوق الإنسان. فالانتهاكات المتواصلة بحق الكثير من الأقليّات والمستضعفين لم تعد حبيسة غرف التحقيق والزنازين ولا يختص مجالها بمَن يتعرض لهذه الانتهاكات وحسب، وإنما يتعدّاه ليحاصرنا جميعًا أخلاقيًّا وشعوريًّا في كل آن.

ربما تبدو عبارةً مكرورة، ولكن العالم حقًّا يبدو في كثير من الأحيان قريةً صغيرةً، يعرف ساكنوها بما يجري للآخرين من حولهم. وهذا ما يدفع الكثير من الناشطين إلى عولمة مفهوم حقوق الإنسان كذلك والدعوة إلى أن ينشط الكثيرون دفاعًا عن المظلومين في أي بقعة وأي مكان من الأرض، متخطّين الحدود في هذا المجال كذلك، والدعوة إلى تفعيل مبدأ «مسئولية الحماية R2P»، وعدم التذرّع ببعض النصوص في ميثاق الأمم المتحدة التي تحدّثت عن سيادة كل دولة على أراضيها وعدم التدخل في شؤونها؛ فالأولى عندهم هي روح الميثاق.


هل حقوق الإنسان حقا مفهوم علماني؟

في كثيرٍ من الخطابات السياسيّة العربيّة، خاصة الحكوميّة منها مما يتلبّس بالصبغة الدينيّة طلبًا لودّ الشعوب والتأثير فيها، يوصف مفهوم «حقوق الإنسان» بالعلمانية وأنه ناتجٌ عن ظروف تاريخيّة غربيّة أدّت إلى فصل بين الدين والحياة السياسية. فما نصيب هذا القول من الدقة والصواب؟

مردّ الأمر أن حقوق الإنسان برزت كتيّار ومفهوم مع عصر النهضة ولاحقًا، وفي شكل أبرز وأوضح، مع الثورة الفرنسيّة التي لخّص شعارها ما أتى لاحقًا مفصَّلاً في الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان: الحرية والمساوة والإخاء. إلا أنّ وصف الحقوق بالطبيعيّة بدلاً من كونها منحةً إلهيّة فإنّ هذا لا يتعارض مع نظرة الإسلام والثقافة العربيّة التي توحّد الاثنين تحت مظلّة الشريعة وكونها الطبيعة ليست إلا مُراد الشارِع.

فإن اختلفت المقاصد والغايات من حقوق الإنسان في العالم الغربيّ، إلاّ أنّ هذا لا يجعل المفهوم ذاته علمانيًّا؛ إذ يمكن التوفيق بين هذا وذاك فمقاصد الشريعة تخط خطوطًا عريضة ينطوي تحتها غالب الحقوق الإنسانيّة الحديثة مع بعض تطوّرات تتواكب مع غايات العصر وطبيعته.


حقوق الإنسان في القانون الدولي

«يا أيّها الناسُ إنّا خَلقْناكُم من ذَكرٍ وأنثَى، وجَعلناكُم شعوبًا وقبائلَ لِتعارَفوا…»

تأسست أول منظمة حقوقية عام 1864 على يد رجل الأعمال والناشط السويسري جان-هنري دونان Jean-Henri Dunant وهو أول فائز بجائزة نوبل للسلام. لم تكن تلك المنظمة إلا ما نعرفه اليوم في جميع أصقاع المعمورة باللجنة الدولية الصليب الأحمر، ومنها جاءت لاحقًا منظمة الهلال الأحمر كذلك. كان مناط أعمال اللجنة الدولية القانون الدوليّ الإنسانيّ humanitarian international law، وكذلك جهود عدّة انبثق عنها اتفاقيات جنيف الأربع لحقوق الإنسان في حالة الحرب، وخاصةً أسرى الحرب prisoners of war / POW (الاتفاقية الثالثة).

ومع قيام النظام العالميّ الجديد عام 1948، في ظل الأمم المتحدّة التى تأسست قبل ذلك بثلاث سنوات، نشأ اهتمام خاص ودعم ملحوظ للأنشطة الحقوقية وسبل نشر تلك الثقافية عالميًّا. فظهر الإعلان العالميّ آنف الذكر وغيره من مواثيق مكمّلة ومتممة لما أجَمَل وأوجَز الإعلان.

مع مرور الأيام وتعدد المطالب الحقوقيّة، نشأت عدة منظمات حقوقيّة أخرى، مثل هيومان رايتس ووتش (مراقب حقوق الإنسان) HR Watch ومنظمة العفو الدوليّة Amnesty International. وتصدر تلك المنظمات تقارير دوريّة ومراجعات هامة عن الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية في وقتنا الحاضر، وتعتبر مرجعًا هامًّا في هذا المجال، وكذلك نقطة انطلاق ومظلّة للجهود الدوليّة للناشطين الحقوقيّين لتنسيق جهودهم ودعمها ماديًّا وقانونيًّا في مواجهة المتعدّين على حقوق الإنسان، إنْ حكوماتٍ أو شركات دوليّة أو مليشيات مسلّحة.

وقد كان عام 1993 عامًا هامًا في النشاط الحقوقي الدولي، إذْ شهِد انعقادَ المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في العاصمة النمساويّة فيننا بمشاركة أكثر من 1500 منظمة غير حكومية NGO، فيما تضاعف هذا العدد مرّات عدّة في سبع سنوات ليصل إلى حوالي 37000 منظمة حقوقيّة وإنسانيّة مع نهاية الألفيّة الميلاديّة الثانية. بعض تلك المنظمات، مثل الصليب الأحمر وأوكسفام وأطباء بلا حدود ولجنة الإنقاذ الدوليّة، يعرف عنها عملها في المجال الإغاثيّ، إلا أنها تعمل أيضًا في مجال دعم حقوق الإنسان بالدعوة إلى تشريعات دوليّة تتصل بالقانون الدولي الإنساني.

رغم محاولات هيئة الأمم المتحدة ومفوضيّة حقوق الإنسان وما تفرّع عن الهيئة من محاكم دوليّة [محكمة العدل الدوليّة International Court of Justice عام 1945، والمحكمة الجنائية الدوليّة International Criminal Court عام 2002، رغم استقلالية الأخيرة عن الأمم المتحدة قانونيًّا؛ وكلتاهما في لاهِاي، هولندا]، إلّا أن المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان تعتبر الأكثر تطورًا وتنظيمًا وكفاءة في مجال دعم وحماية حقوق الإنسان عالميًا.

فقد تأسست المحكمة الأوروبية عام 1953، أي بعد ثلاثة أعوام من توقيع الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان في أحد اجتماعات «مجلس أوروبا» (منظمة مستقلة عن الاتحاد الأوروبي، مقرّها ستراسبورگ، فرنسا؛ وتضمّ حوالي 47 دولة أوروبيّة منها روسيا وتركيا، ومعنيّة بحقوق الإنسان والحريّات ودعم حكم القانون في دول القارة الأوروبيّة، بغض النظر عن عضويتهم أو عدمها بالاتحاد الأوروبي).



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.


المراجع



  1. الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة، الموسوعة العربية الميسرة، حقوق طبيعية، ص ١٣٩٣-١٣٩٤ (صيدا: المكتبة العصرية، ٢٠٠٩).
  2. السيد، حسام الدين: الخصوصية – مدخل لتوطين خطاب حقوق الإنسان، نشر على موقع إسلام أون لاين.

  3. عزت، هبة رؤوف: إشكاليات مفهوم حقوق الإنسان (اضغط هنا)
  4. هانت، لين: نشأة حقوق الإنسان، فايقة جرجس حنّا (مترجمة)، القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، ٢٠١٣.
  5. Heywood, Andrew: Global Politics (Hampshire, UK: Palgrave Macmillan).

  6. Gillespie, Michael Allen: Deadly hesitation: Why human rights are so often unenforced