إن موجة الشد والجذب حول سؤال علاقة الحرية الفردية بالدين بلغت مرحلة متأزمة في الآونة الأخيرة. ولعل من أبرز معالم تلك الموجة هو سؤال: إذا كان الدين شيئًا خارجًا عن الإنسان بحكم أن واضعه ليس الإنسان نفسه، ثم إن الدين يأمر الإنسان وينهاه ملزمًا إياه بتقييدات عديدة، فكيف للمتدين أن يدعي أنه «حر»؟


ما الدين؟

إذا كان الدين شيئًا خارجًا عن الإنسان، وإذا كان يأمر وينهى، فكيف إذن للإنسان أن يدعي الحرية وهو طائع لما هو خارج عن إرادته؟ هذه الإشكالية لها عدة مسلمات تنبنى على: نظرة معينة لماهية الدين، ونظرة أخرى لماهية الحرية. إذ إن هذا التساؤل ينطلق من نظرة ترى الدين شيئًا مستقلًا تمام الاستقلال عن الفرد، وأن الفرد خاضع له؛ بحيث إن إرادة الفرد تكون غالبًا محلَ تعارض مع «إرادة الدين».

ويعبر عن هذا، مثلًا، «فريدريش شلايريماخر» حين عرّف الدين بأنه: «شعور بالحاجة والتبعية المطلقة»[1]. فهنا نجد صورة تعبيرية تلخص هذه النظرة؛ إذ إن الإنسان هنا يكون دومًا في احتياج لقوة أعلى منه، وعلى أساس هذا الاحتياج هو مستعد للتخلي عن إرادته – أي: يصبح تابعًا- بشكل مطلق لها.



الدين ليس خصوعا بمعناه السلبي، لأن المتدين يجد نفسه دوما في حال من الشك واليقين في آن واحد أمام تلك القوة التي ﻻ يحدها إﻻ نفسها

لكن الأمر ليس على هذا النحو، وسنستدعي هنا عملًا رئيسًا في هذا الباب يحاول لملمة أطراف الحديث والخروج برؤية أكثر عمقًا للمسألة، وهو كتاب «الدين» للدكتور «محمد عبد الله دراز». ينطلق الدكتور دراز من محاولة للبحث عن تعريف جامع مانع للدين، وفي بداية مسعاه اتجه نحو بحث التعرف المعجمي للدين فلم يجد فيه غايته، ومن ثم ذهب لتحديد خواص الدين ككل وجاءت منه كالتالي:

أ) المتدين يهدف بتقديسه إلى حقيقة خارجية عن نطاق الأذهان فهي ذات مستقلة، ب) تلك الذات لها قوة فعّالة ومريدة ومؤثرة وعاقلة، ج) هي ذات لها صفات خاصّة تدرك بالعقل والوجدان، د) هي ذات ليست منطوية على نفسها، وأخيراً هـ) الخضوع الديني لا يشبه غيره من أنواع الخضوع، فهو وإن كان خضوعًا لقوة كلية لكنه ليس الخضوع الذي يخلق اليأس، بل هو شعور يفتح آمالًا وآفاقًا كبرى [2].

من العرض السابق نتبين أن الدين ليس خضوعًا بمعناه السلبي، بل هو يحمل في طياته خضوعًا إيجابيًّا؛ لأن المتدين يجد نفسه دومًا في حال من الشك واليقين في آن واحد أمام تلك القوة الكلية التي لا يحدها إلا نفسها.

وبإدخال سياق الدين في الإسلام في هذا الطرح استطاع دكتور دراز أن يلفت النظر إلى ملمحٍ آخر في ظاهرة الخضوع الديني: وهو أن المتدين (تحديدًا المسلم) ينطلق من النظر العقلي في الكون بمجمله فيتكشّف له عن أن هذا الكون كله في حيز الممكن العقلي؛ أي أن كل هذا الكون بما فيه المتدين نفسه كان من الممكن ألا يوجد، وبالتالي فلا يرى في نظام الكون الواقعي أي ضرورة ذاتية، ولا في تبديله أي استحالة.

والإيمان بتلك القوة التي أخرجت الكون لحيز الوجود هو، إذن، إيمان عقلي وشعوري، ومن ثم اختياري. فهو: عقلي لأنه قائم على تسلسل منطقي، مدعومًا بحجج و براهين، وهو: شعوري لأن المتدين هنا يرى نفسه أمام قدرة كلية لا يحكمها إلا نفسها، ومن ثم فهو يستشعر أمامها بالعظمة والتقدير، وهو: اختياري من حيث المبدأ؛ لأن المتدين هو الذي يختار السير في هذا الطريق. أو كما يقول دراز: «والمتدين من حيث يخضع لمعبوده ويسجد لعظمته يفعل ذلك طواعية لا كراهية؛ لأنه يقوم في ذلك بحركة نفسية من التمجيد والتقديس تأبى طبيعتها أن تؤخذ قهرًا».[3]

ومن هنا يمكن فهم التعريف الإسلامي الشائع للدين. فالدين هو: «وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة، باختيارهم، إلى ما فيه الصلاح في الحال والفلاح في المآل» [4]. ومن ثم فالإنسان المتدين لا يُخضع نفسه لقوة تستبد به، ولا أن تلك القوة هي من تجبره على ذلك، و إنما هي تدبيرات عقلية تقود إلى تجربة شعورية تجعل الشخص «ذا دين».


الخضوع للعقل، أم لرب العقل

وبالعودة إلى منطلقات سؤالنا حول التعارض – المزعوم – بين الدين والحرية، نجد أن من جذوره تصورًا حداثيًّا عن منبع الحرية. ففي الحضارة الغربية برز «جان جاك روسو» على أنه حامل لواء «الموجة الثانية من الحداثة» [5]، وقد أخرج روسّو مفهومًا لعب دورًا محوريًّا في مسار هذه الحضارة؛ الإرادة العامة.

فينبغي، عند روسو، على الأفراد أن يحترموا القانون وأن يطيعوه؛ لأنه «ممثّل العقل الإنساني»؛ فما القانون إلا محاولة لمأسسة وتحديد مقتضيات هذا العقل [6]. وإذا ما حُمِل هذا التصور، خطأً، على الحضارة الإسلامية فبالطبع ستظهر «الشريعة» على أنها لا طاعة لها؛ فهي ليست ابنة العقل. إن الجواب عن هذه النقطة موجود في تعريف دراز لعلاقة الدين بالحرية كما يلي.

بالعودة إلى روسو نجد أن الإنسان – عنده – يُسـلم نفسه للمجموع. فيقول: «ومن المعلوم أن هذه الشروط – شروط العقد الاجتماعي- تختزل جميعها في شرط واحد، ألا وهو: أن يتنازل كل شريك في الاجتماع عن شخصه وعن جميع حقوقه تنازلًا تامًّا للمجموع»[7]. ولا يرى روسو لهكذ تسليم أي مشكلة؛ لأن «الكل» هو صاحب السيادة الذي قال عنه روسو: «أما صاحب السيادة، فليس له مصالح مخالفة لمصالحهم – أي المتعاقدين- فمحال على الجسم أن ينوي إلحاق الضرر بجميع أعضائه»[8].

أي أن مناط المشكلة هو في «طبيعة» من يُـتنازَل له. فمثلًا نجد «روسو» في حديثه عن العبودية يقول: «أن يتنازل المرء هو أن يبيع أو يهب. والحال أن إنسانًا إذ يجعل من نفسه عبدًا لشخص آخر فإنه لا يهب نفسه وإنما يبيعها»، ثم يقول: «فأما من قال بأنه من شأن أي إنسان أن يهب نفسه دون مقابل فقد قال كلامًا عبثًا»، ثم شنّ هجومًا حادًا على العبودية التي هي في نظره كالعقد من حيث المبدأ- تنازلًا، فالتنازل لشخص هو مرفوض، أما للكل فهو المطلوب! [10]

أما الدين، بالتعريف السابق، فلا يرى تنازلًا لشخص أو جماعة، ولا يرى تنازلًا لمن يقهر إرادة الإنسان جبرًا، بل هو تنازل لقوة كلية مُريدة وعاقلة مشفوعًا بالعقل والوجدان.


الإشكالية مرة أخرى



الإنسان عند رسو يسلم نفسه للمجموع، وهو ﻻ يرى في هذا التسليم والتنازل أي مشكلة، لأن الكل أو المجموع هو صاحب السيادة

باستخدام إحدى إشارات الفيلسوف الألماني«إريك فوغلين» يمكن أن نموضع المشكلة مرة أخرى؛ إذ أشار فوغلين إلى جانب مهم عن علاقة الرمز بالتجربة: فالحقيقة المعيشة في واقع التجربة هي ما تعطي للرمز مكانته؛ إذ قد يكون للرمز حقيقة كلامية مكتوبة أو مقروءة، لكن ما يُعطيه مكانته هو التجربة المتعلقة به.

وكون هذه التجربة غير مادية في طبيعتها يعرِّض الرمز وحقيقته إلى تقلبات التاريخ؛ فبمرور الأزمان قد تُفقد التجربة ليستحيل الرمز – بالتالي- فارغًا من معناه، مما قد يجعل قارئه أو مطالعه لا يتحرك تجاهه لغياب التجربة منبع الحقيقة الوجدانية في الرمز [11].



مفهوم الإرادة العامة عند رسو ﻻ تنبع من كونها مجرد مفهوم فكري، بل تنبع من تجربة عايشتها أوروبا، وواقع خطير كان آخذا في التشكل

أو بلغة المثال، إن الإنسان المصري اليوم إذا ما مر بصورة رمزية لـــ«إخناتون» فهو لا يتحرك تجاهها كما تحرك نحوها المصري القديم، ولا يعتبر إخناتون من زمرة المقدسات كما اعتبره المصري القديم؛ مما يعني أن أي رمز هو يجب أن ينبع من تجربة معينة. وبالتالي فرمزية مفهوم «الإرادة العامة» عند روسو لا تنبع من كونها مجرد مفهوم فكري، بل تنبع من تجربة عايشتها أوروبا وواقع خطير – قد يكون غير قابل للتكرر- كان آخذًا في التشكل.

فحتى لو توصلنا لحل نظري لمسألة علاقة الدين بالفرد، فكيف سيتحول – أو بالأحرى سيعود- الدين إلى رمزيته الأولى التي شهدت تجربتها الوجودية الكبرى في الواقع التاريخي للجماعة الأولى من صدر الإسلام؟ إن أي سؤال لا يكفي معه فقط إجابة نظرية، بل يجب أن تشفعها تجربة معيشة؛ فمجرد طرح سؤال علاقة الدين بالحرية كما عرضنا له يعني أن تجربة الأفراد مع الدين بوصفه منبعًا للحرية قد وقفت أو في طريقها إلى الوقوف عن الاستمرارية!


المراجع



  1. محمد عبد الله دراز، “الدين”: بحوث ممهدة في تاريخ الأديان «، (الكويت: دار القلم، 1952)، صـ: 37-40
  2. المرجع السابق، صـ: 49-52
  3. يوسف القرضاوي، »مدخل لمعرفة الإسلام «، (القاهرة: مكتبة وهبة للطباعة والنشر، 2008)، صــ: 1
  4. Leo Strauss, «Three waves of modernity”, in: «Political Philosophy: Six Essays», ed. Hilail Gildin, Pegasus-Bobbs-Merrill, 1975.
  5. Leo Strauss, «Three waves of modernity
  6. روسو: العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون الأساسي«، صـ: 93
  7. المرجع السابق، صـ:97
  8. المرجع السابق، صـ: 84-90
  9. Eric Voegelin, «Immortality: Experience and Symbol, part 1», a lecture delivered at Harvard Divinity School on January 14, 1965, can be found on the following website: http://voegelinview.com/immortality-experience-and-symbol-pt-1/ .