غرة ديسمبر/ كانون الأول، استقلت منغ وان تشو، المُديرة المالية لشركة هواوي المصنعة لأجهزة الاتصالات وابنة مؤسسها رين جانغفي، طائرة من الصين إلى المكسيك، مروراً بمطار فانكوفر الكندي. انتظرت السيدة في مطار فانكوفر بدء الجزء الثاني من الرحلة، من كندا إلى المكسيك، ولم يخطر ببالها أن قوات أمن المطار ستلقي القبض عليها بعد قليل، على خلفية الاشتباه في مشاركتها في مخططٍ صيني-إيراني لتجاوز العقوبات الأميركية المفروضة على إيران.

كان على مانغ الانتظار 12 يوماً حتى

أخلت

المحكمة سبيلها على ذمة التحقيق، بكفالة ضخمةٍ تقترب من 7.5 مليون دولار أميركي، وفرضت عليها المراقبة على مدار اليوم وارتداء سوارٍ إلكتروني في كاحلها.

جاء الاعتقال بطلبٍ من الولايات المتحدة، في سابقةٍ أثارت لغطاً عالمياً واسعاً. ولم يمر الحدث مرور الكِرام، إذ اندلعت على إثره أزمة سياسية عنيفة بين الصين والولايات المتحدة. وعلقت كندا في المنتصف، إذ تتعرض لضغوطات وتهديداتٍ من الصين حال عدم الإفراج فوراً عن مانغ، بينما تطالبها الولايات المتحدة بتسليم مانغ امتثالاً لاتفاقية ترحيل المتهمين الموقعة بين البلدين. فما الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى هذا التحرك العدواني المفاجئ ضد إدارة شركة هواوي؟ وما أهمية هذا بالنسبة للعلاقات الأميركية الصينية؟


اعتقال قانوني أم ورقة ضغطٍ سياسية؟

اكتنف الغموض أسباب الاعتقال المفاجئ لمانغ في البداية، لكن الاتهامات كُشِف عنها بعد أيام، حين مثلت مانغ أمام محكمة كندية للنظر في الإفراج عنها بكفالة.

شاركت

المديرة المالية لهواوي، وفقاً لوزارة العدل الكندية، في مخطط للالتفاف على العقوبات الأميركية على الاقتصاد الإيراني. بين عامي 2009 و2014، أجرت هواوي معاملاتٍ مع شركات اتصالات إيرانية بشكلٍ غير مباشر، عن طريق شركة سكاي كوم تِك المتمركزة في هونغ كونغ، واستغلت البنوك داخل الولايات المتحدة في إجراء هذه المعاملات، ومنها بنك إتش إس بي سي البريطاني.

هذه هي الأسباب المعلنة، لكن لا يمكن بحال إغفال التوقيت الذي تم فيه اعتقال منغ في كندا. في اليوم نفسه، التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنظيره الصيني شي جين بينغ على هامش قمة مجموعة العشرين ببوينس آيرس، في محادثاتٍ تهدف إلى التوصل إلى اتفاقية تجارية تضمن مصالح الطرفين، وتضع حداً للحرب التجارية التي اندلعت بينهما حين قرر ترامب

فرض تعريفات جمركية

على مجموعة ضخمة من السلع الصينية المستوردة، وهو ما دفع الصين إلى الرد بفرض تعريفات مماثلة.

اقرأ أيضًا:

كيف تكون العقوبات على إيران هدية لـ «الصين»؟

يرى بعض المحللين أن اعتقال منغ كان بهدف اتخاذها «

رهينة

» من جانب الولايات المتحدة، واستعمالها كورقة ضغطٍ على الجانب الصيني خلال المحادثات. صحيحٌ أن تصريحات المسؤولين في الصين والولايات المتحدة، على حدّتها، كانت حذرة في البداية، وتجنبت الربط بين اعتقال منغ والمحادثات التجارية بين ترامب وشي جين بينغ، مصرة أن العملية «قانونية» تماماً ولا أبعاد سياسية لها. لكن ترامب

تحدَّث

لرويترز بوضوحٍ، بعد الإفراج عن منغ بكفالة، عن إمكانية تدخله في الإجراءات القانونية التي اتخذتها وزارة العدل الأميركية، إن ارتأى أن هذا «سيكون في مصلحة ما سيصبح الاتفاقية التجارية الأعظم في التاريخ».

وما زال القضاء الكندي لم يصدر قراراً بترحيل منغ إلى الولايات المتحدة، مكتفياً بوضعها تحت الإقامة الجبرية. بالتأكيد لن ترغب هواوي في أن تتخذ الإجراءات القانونية ضد منغ طابعاً جدياً، إذ إن إدانتها قد تمثل أساساً قانونياً لقرارٍ أميركي بحظر تعامل الشركات مع هواوي. مثل هذا القرار كفيلٌ بإصابة الشركة بشللٍ تام جراء عجزها عن الحصول على القطع والبرمجيات اللازمة لتصنيع أجهزتها. ولن تكون هذه سابقة في تاريخ العلاقات التجارية بين البلدين، إذ سبق

وأصدرت

الولايات المتحدة قراراً مماثلاً ضد شركة الاتصالات الصينية زي تي إي ZTE، على خلفية إدانتها من جانب وزارة التجارة الأميركية بالتحايل على العقوبات ضد إيران وكوريا الشمالية. ونجت زي تي إي بأعجوبة بعد عقدها صفقة مع الوزارة، ألزمتها بتغيير مجلس إدارتها ودفع غرامة تقدر بمليار دولارٍ أميركي، من بين عقوباتٍ أخرى.


عملاقٌ تفتخر به الصين

ولا يُمكن فهم الأبعاد السياسية للأزمة فهماً كاملاً دون تناوُل أهمية شركة هواوي للحكومة والشعب الصيني، ومنافستها الشرسة مع شركات الاتصالات الأميركية على الصعيدين الاقتصادي والتقني.

هواوي تكنولوجيز من

أنجح الشركات الصينية

، إذ استطاعت أن تحتل المركز الأول عالمياً في تصنيع أجهزة الاتصالات. بعدد موظفين يصل إلى 180 ألف موظف، حققت الشركة عائداتٍ في عام 2017 تقدر بـ 92.5 مليار دولار، أي ضعف ما حققه فيسبوك من عائداتٍ في العام نفسه. وفي الربع المالي الأخير، وصلت مبيعات الشركة من الهواتف الذكية عالمياً إلى نحو 52 مليون هاتف ذكي، متفوقة على شركة آبل الأميركية بسبعة ملايين هاتف، وتتنافس الآن وجهاً لوجه مع المزود الأول للهواتف الذكية في العالم، الشركة الكورية سامسونغ إلكترونيكس.

ولأن هواوي تناطح شركاتٍ أميركية عالمية عملاقة على غرار آبل وفيسبوك، فإنها مصدر فخرٍ وإلهامٍ لمجتمع الأعمال الصيني. تُداعب هواوي بقوة الحس القومي الصيني، وتُعد إثباتاً عملياً لإمكانية نجاح النموذج الصيني الساعي إلى تقديم بديلٍ للنموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي. ومن هنا يمكن أن نفهم الغضب العارم الذي اجتاح الصين بعد «الإهانة» المتمثلة في اعتقال منغ. فقد

استدعت

وزارة الخارجية الصينية السفير الكندي، وهددت بـ«عواقب وخيمة تُسأل عنها كندا» حال امتناعها عن الإفراج الفوري عن منغ. وبلهجةٍ حادة،

سخِرت

تعليقات الراديو الصيني الدولي من «زعم» كندا أنها دولة مستقلة قضائياً وسياسياً، وأيَّدت من يصفون كندا بأنها «الكلب الوفي ودولة خادمة للولايات المتحدة، وليست دولة ديمقراطية حرة».


حروب الجيل الخامس

تمتد المنافسة بقوة إلى المجال التقني، إذ إن هواوي من الشركات الرائدة في أبحاث وتطوير

تكنولوجيا الجيل

الخامس من شبكات الاتصالات، التي تعد بمضاعفة سرعات الاتصال الإنترنت والشبكات المحمولة مئات آلاف المرات، وستسهِّل كثيراً من تأسيس مشروعات تقنية ضخمة مثل المدن الذكية. تضم هواوي أكثر من 80 ألف مهندس يعملون على تطوير التقنية، ولا تواجهها منافسة حقيقية سوى من إريكسون السويدية ونوكيا الفنلندية.

وفي حال استمر غياب الولايات المتحدة عن مشهد شبكات الجيل الخامس، ورسخت هواوي من هيمنتها على تطوير التقنية، فقد تجد الشركات الأميركية نفسها في وضعٍ لا تُحسد عليه في غضون أعوامٍ قليلة، إذ ستضطر إلى شراء معداتٍ من شركة هواوي للحفاظ على تنافسية البنية التحتية للاتصالات، وهو ما تخشاه الولايات المتحدة بشدة.

في 2012،

قررت

الولايات المتحدة منع شركة هواوي من بيع منتجاتها على أرض الولايات المتحدة، متذرعة بكون الشركة تمثل «تهديداً للأمن الوطني» الأميركي، وهو ما تنكره هواوي تماماً، إذ لمح إيريك شو، واحدٌ من ثلاثة رؤساء لمجلس إدارة الشركة بالتناوب، إلى أن الاستهداف الأميركي المتكرر لهواوي قد يكون له دوافع سياسية لا علاقة لها بالأمن الوطني، فقبل كل شيء، لم يكتشف المطورون والجهات المختصة بالأمن السيبراني أي ثغرات في معدات أو هواتف هواوي قد تشكل خطراً على الأمن القومي للولايات المتحدة أو غيرها من الدول.

التعامل الحذر من جانب الولايات المتحدة وعددٍ من حلفائها مع الشركات الصينية، وبالأخص شركات الاتصالات، يقوم على تخوفات من اختراق الهيكل الإداري للشركة من جانب الحكومة الصينية واستخدامها في التجسس على المواطنين الأميركيين أو تنفيذ هجمات سيبرانية ضد الولايات المتحدة. ولا يمكن إنكار أن هذه المخاوف قد يكون لها أساس من الصحة لعدة أسباب.

فقد كان

رين جانغفي

، والد منغ ومؤسس هواوي، ضابطاً بجيش التحرير الشعبي الصيني، هذا إلى جانب المناخ السلطوي السائد في الصين، وسيطرة الحكومة على الموارد الاقتصادية والنظام المصرفي، مما يجعل الضغط على الشركات الصينية من أجل اتباع أجندة النظام أمراً وارداً. وقد

اتخذ

الرئيس الصيني شي جين بينغ عدداً من الإجراءات الهادفة إلى «بناء الحزب الشيوعي»، كان من آثارها الحد من استقلالية الشركات الخاصة في الصين، وإجبار طواقمها التنفيذية على الامتثال لأوامر سكرتارية الحزب.

ومع استمرار الأزمة، يبدو مصير منغ، ومعها شركة هواوي، معلقاً على نجاح المحادثات بين ترامب وشي جين بينغ في التوصل إلى اتفاقٍ تجاري مرضٍ للطرفين. حال فشل المحادثات، قد تدفع إدارة ترامب بقوة في اتجاه إدانة منغ، وتوجيه ضربة قاسمة لهواوي ولسمعة الشركات الصينية عالمياً، بصفتها أداةً سياسية في يدِ النظام يستخدمها لدعم حلفائه السياسيين عبر منحهم نافذة على النظام المالي العالمي، وهو مصيرٌ ستفعل الصين – وهواوي قبلها – الكثير لتفاديه.