المكان: الملعب الأوليمبي بياوندي عاصمة الكاميرون.

الحدث: حفل افتتاح كأس الأمم الأفريقية.

على متن سيارة مكشوفة يدخل الرئيس الكاميروني «بول بيا» رفقة زوجته، وفي ثبات لا يُنبِئ عن سنوات عمره الـ 88. وقف يلوح لتحية الحضور، بينما تتجه السيارة نحو المقصورة الرئيسية.

في اللحظة نفسها كان سكان المناطق الغربية يُعدِّون أسلحتهم ويلقمونها استعدادًا للبطولة، وجهَّز مسلحو الجماعات الإرهابية متفجراتهم للهجوم، وكان «متحور أوميكرون» يواصل انتشاره في أنحاء البلاد، وكان 40% من الشعب – هم من يعيشون تحت خط الفقر – يفكرون في وجبتهم القادمة، وكان الاقتصاديون يفكرون في الطريقة التي سيسددون بها الديون التي وصلت إلى 45% من إجمالي الناتج الإجمالي.

لكن «بيا»، الرئيس الأقدم على وجه الأرض، لم يكترث بكل ذلك، واستمر في التلويح من فتحة سيارته، وبدا منتشيًا سعيدًا لأن بلاده استضافت بطولة أمم أفريقيا للمرة الأولى منذ 50 عامًا.


حامت شكوك عدة حول قدرة الكاميرون على تنظيم البطولة الحالية، واستمر الشد والجذب طويلًا، لتقام البطولة في النهاية، ورغم بعض المشاكل التنظيمية البسيطة، فإن الأمور تسير بشكل جيد، وهذا ما يتمنَّاه الجميع.

لكن واقع الكاميرون الحالي، وما ينتظرها في المستقبل، لا ينبئ بأن الأجواء الاحتفالية التي تصحب البطولة ستستمر، وأمم أفريقيا التي انتظرها الجميع هناك طويلًا قد تدفعهم نحو الهاوية من حيث قدَّروا أنها ستنتشلهم منها، كيف ذلك؟ دعنا نرى.

فخ الديون الصيني

تشهد العلاقة بين الصين وأفريقيا نموًا متسارعًا مؤخرًا، وتنمو علاقات الصين مع الدول الأفريقية يومًا بعد يوم، حيث بلغ حجم التجارة بينهم نحو 187 مليار دولار في عام 2020 وحده.

تشمل هذه العلاقة البعثات التعليمية والمساعدات الطبية والتدريب العسكري، لكن أبرز ظواهرها القروض الصينية، والتي تُقبل عليها الدول الأفريقية بشراهة مع تسهيلات السداد التي تقدمها الصين.


بلغ إجمالي تلك القروض خلال الفترة من 2000 إلى 2018،

نحو 148 مليار دولار

، كان معظمها موجهًا لمشاريع البنية التحتية ومحطات الطاقة والمباني الحكومية، واشتركت الصين كذلك في عملية البناء عبر شركاتها المختلفة.

على سبيل المثال إذا أرادت دولة مثل جيبوتي بناء محطة طاقة، فإن الصين توفر لها قرضًا ميسرًا عبر بنوكها، ثم توفر شركة صينية متخصصة لتذهب وتبني المحطة.

لكن هذا نصف الحكاية فقط، لأن جيبوتي لن تستطيع السداد، وتعلم الصين ذلك، وحينها يكون الحل الوحيد أن تتخلى عن أحد أصول البلد المهمة، كآبار المعادن والبترول أو الموانئ والمواقع الاستراتيجية.

تطلب الصين من الدول المتعثرة عن سداد ديونها أشكالًا أخرى من إعادة الدفع، مثل الموانئ والأراضي المهمة.






«أندريه دوفنهيج» الأستاذ في جامعة نورث وست بجنوب أفريقيا


هذه سياسة «فخ الديون الصيني» كما يسميها المختصون، وهي سياسة ناجحة تمكَّنت الصين معها من التحكم الاقتصادي في الكثير من الدول الأفريقية، واستحوذت على أصول عديدة في بلاد مثل زامبيا وكينيا وأنجولا، وتنكر الصين قيامها بذلك وتصف الأمر بأنه مصالح مشتركة.


كانت الكاميرون أحد هذه الدول التي أقبلت على القروض، ف

ي 2011 حصلت على قرض بقيمة 400 مليون دولار

لإنشاء ميناء جنوب البلاد، تبعه آخر بـ 680 مليون لاستكمال الميناء، ثم توالت القروض لمشاريع مختلفة متعلقة بالبنية التحتية والطاقة، وتولت الشركات الصينية العمل على تلك المشاريع.

أحد المشاريع التي أنجزتها الشركات الصينية كان «ستاد بافوسام»، الذي يستضيف مباريات بطولة أمم أفريقيا الجارية،

وتولت الشركة الصينية «CMEC» إنشاءه

وتسليمه للحكومة الكاميرونية.

كان الاستاد رائعًا بالفعل، ولكن الخبر غير السعيد أن الصين لم تقدم هذه القروض لأجل رفع رأس الكاميرون أمام أشقائها في الكان، لكنها تطمح لمكاسب أخرى، والصين هي أكبر دائن للكاميرون بـ 60% من إجمالي الديون،

وفخ الديون الصينية قد ينتظرهم قريبًا

.

لم تكتفِ الكاميرون بالصين، ستاد «جابوما» أبرز ملاعب البطولة

تكلف إنشاؤه 143 مليون دولار

بتمويل وتنفيذ تركي، ورغم إنشائه منذ 2019 فقط، اشتكى الكثير من المنتخبات من أرضيته وطلبوا تغييره.


ويبدو أن أمم أفريقيا قد أثقلت الكاميرون بديون لن يسهل الوفاء بها، وربما تدفع ضريبة باهظة من أصولها وسيادتها على أراضيها نظير هذه الديون.

حفلة

هناك اعتقاد شائع تتمناه الكاميرون بالطبع، أن عوائد البطولة قد تساهم في انتعاش الاقتصاد وتسديد بعض هذه الديون، لكن دعنا نخبرك بأن ذلك لا يحدث.

عادةً لا تجلب استضافة البطولات أي أموال للبلد المضيف، خسرت اليونان المليارات في أولمبياد أثينا 2004، وخسرت البرازيل مثلها في 2014، ودخل الثنائي أزمات مالية طاحنة بسبب تلك الاستضافة.

يزداد الأمر صعوبة داخل أفريقيا، لطبيعة القارة الجغرافية وصعوبة التنقل داخلها، ومتوسط دخل الأفراد الذي يجعل من الانتقال أمرًا مكلفًا لا تقدر عليه أغلب شعوب القارة.

لا بد أن تعامل هذه البطولات على أنها حفلة، أنت لا تستضيف حفلًا للثراء، ولكن للمتعة.






سيمون كوبر، الباحث المختص


وتذهب المكاسب التي تحققها البطولة من عقود الرعاية والبث نحو الاتحاد الأفريقي دون أن تستفيد الكاميرون.

فلذلك ينتظر الكاميرون اقتصاد ضعيف وديون ثقيلة، لن تسددها أمم أفريقيا، بل ستزيدها على الأرجح.

أمبازونيا

قبل انطلاق البطولة بساعات دوى انفجار في محيط ملعب «ليمبي» الذي يستضيف مباريات البطولة، ورغم أنه لم يسقط ضحايا، فقد كان إعلانًا لما ينتظر الحكومة الكاميرونية أثناء البطولة.

أعلن الانفصاليون مسئوليتهم عن التفجير، وأكدوا في بيانهم أن هذا ما ينتظر البطولة إذا أقيمت في المناطق التي ينشطون فيها، والتي تدور فيها الحرب بينهم وبين الحكومة الكاميرونية منذ سنوات.



تعود بذور الحرب إلى عقود مضت

، وتحديدًا بعد هزيمة ألمانيا – التي كانت تحتل الكاميرون – في الحرب العالمية الأولى؛ فقُسِّمت الكاميرون حينها كجزء من الغنائم، فكان الجزء الغربي من نصيب بريطانيا وباقي الكاميرون من نصيب فرنسا.

بعد جلاء الاستعمار في 1960، اجتمعت الكاميرون مرة أخرى، لكن صار الجزء الأكبر من البلاد يتحدث الفرنسية، والجزء الغربي فقط يتحدث الإنجليزية.

مع الوقت شعر الطرف الذي يتحدث الإنجليزية أنه يتعرَّض للتهميش، وأن القوة السياسية والاقتصادية بالكامل في أيدي من يتحدثون الفرنسية، وبعد مطالبات ومناشدات للحكومة واحتجاجات سلمية واسعة في 2016، لم تستجب الحكومة وألقت القبض على المحتجين، وما هي إلا بضعة أشهر واندلع الصراع المسلح بين الطرفين، وطالبوا الانفصال و

إقامة دولة مستقلة تدعى «أمبازونيا».

تدور رحى الحرب منذ 2017، وباء الكثير من محاولات الصلح بالفشل، وجاءت أمم أفريقيا لتشعل الصراع وتؤججه، حيث يعتبرها الانفصاليون وسيلة لتبييض وجه الحكومة وصرف الأنظار عن القتلى الذين وقعوا في السنوات الأخيرة.

هدد الانفصاليون بإجراء عمليات عسكرية أثناء البطولة لتعريف الجميع بقضيتهم، وفي المقابل أعلن الجيش الكاميروني تأهبه للتصدي لكل الاحتمالات.

ما زالت البطولة في بدايتها، وإن صدقت تهديدات الانفصاليين، فستكون الكاميرون فتحت على نفسها بابًا من الجحيم، اشتعلت الحرب بينها وبين الانفصاليين، وتعرضت لمشاكل دولية لو أصيبت أحد البعثات الأجنبية بضرر.

جبهة جديدة

تنشط جماعات إرهابية عديدة في أفريقيا، أبرزها بوكو حرام وداعش، وينشط الثنائي في نيجيريا ومناطق الساحل وغرب القارة، وقاموا ببعض العمليات في شمال الكاميرون كذلك.


وتأتي أمم أفريقيا في وقت تبحث فيه بوكو حرام عن مناطق نفوذ جديدة بعد خسائرها لصالح داعش مؤخرًا، وتسعى فيه داعش لتوسيع سيطرتها وإثبات قدراتها.

واعتادت هذه الجماعات مهاجمة البعثات الأجنبية، واعتمدت خلال تاريخها على عمليات الخطف وطلب الفدية لتمويل عملياتها.

أماكن إقامة البطولة ليست بعيدة عنهم بالطبع،

وتخشى الحكومة الكاميرونية أن يحاولوا استغلال البطولة

لشن هجماتهم، استغلالًا لوجود البعثات الأجنبية في البطولة، والصدى الواسع الذي ستجلبه عملياتهم.

لأنها لو فعلت، فإن أمم أفريقيا ستكون بداية لحرب جديدة للحكومة الكاميرونية ضد هذه الجماعات، كانت آخر ما تتمناه في وجود كل تلك المشاكل.

أوميكرون

كان هذا أبرز مخاوف الأندية الأوروبية حين أرادت منع لاعبيها من الالتحاق بالبطولة، وهو انتشار الفيروس الواسع في أراضي أفريقيا، لكن الكاميرون ردت بأنها وضعت بروتوكولًا للحد من انتشار الفيروس.

لكن الحقيقة أن الكاميرون من أقل الدول عالميًّا على صعيد عدد الأفراد المطعمين، ولم تتعدَّ النسبة 4% من إجمالي الشعب حتى الآن.

تبذل الكاميرون حاليًّا جهودًا واسعة لزيادة العدد الحاصل على اللقاح، لكن دون تقدم كبير، وتجمعات كالتي تفرضها البطولة قد تسهم في نشر الفيروس أكثر مما هو عليه الآن.

يأتي ذلك في دولة تعانى على المستوى الصحي بشكل واسع، لكن لحسن الحظ، لن نتمكن من معرفة مدى انتشار الفيروس؛ لأن الكاميرون من أقل الدول في عدد المسحات الكاشفة للفيروس.


يخبرنا كل ذلك أن الكاميرون ليست في أفضل أحوالها بالطبع، وأن إصرارها على استضافة البطولة بعد سحبها منها في 2019 لم يكن مبررًا، وربما يكون بداية لمستقبل أسوأ لا تتمناه الكاميرون، ولم يعلمه إيتو حين أصر على إقامة البطولة.