في المسلسل التليفزيوني الشهير (Lost)، ضلّ مجموعة من الأفراد طريقهم وفقدوا كل صلة بالعالم الخارجي، فاضطرتهم تلك الظروف للتعايش معًا لمدة طويلة. دعنا نفترض أنك واحد منهم، لا يوجد مجتمع ولا دولة أو قانون أو إنترنت أو أي شيء آخر غير مجموعة تضم 40-60 شخصًا تعيش معًا، يقترب ذلك المثال من حالة افتراضية في العلوم الإنسانية نسميها (الحالة الطبيعية State Of Nature)، وتعني حالة البشر قبل ظهور المجتمعات المنظمة، القانون، الدولة..، إلخ.

كيف يمكن لهذا المجموع أن يتفاعل مع بعضه؟، هل سوف يتنافسون من أجل الغذاء أو الحصول على السلطة أو بدافع الخوف، أم سوف تكون حالة من القدرة على التحكم في الذات وإيجاد اختيارات حرّة بدرجة أكبر؟، أو ربما حالة من البهجة التي تخلصت من غباء تحكمات المجتمعات الحديثة وسطحيتها؟.

يتوقف الأمر هنا على تصورك عن الإنسان، عن طبيعتك، عن تلك الجذور الكامنة في الأعماق. إليكَ إذًا هذه المحطّات التأسيسية في أسس النظرية الاجتماعية المعاصرة.


عبر عقل «توماس هوبز»

للوهلة الأولى يتصور البعض أن ما يحكيه هوبز عن الطبيعة البشرية يشير لكيان أناني بربري لا عقلاني يدخل في حرب مع الجميع لحماية ذاته وتمرير رغباته، لكن الأمر أعقد من ذلك بقليل، فإنسان هوبز في الحالة الطبيعية «عقلاني»، يحسب الأمور بطريقة نعرفها جميعًا و نمارسها يوميًا، ربما بدون انتباه. إنها لعبة المكاسب مقابل الخسائر، هل تريد شراء هاتف ذكي جديد؟، ممكن جدًا، لكن عليك أن تدفع 1700 جنيه من نقود مساق اللغة الألمانية، هنا قد تفقد الفرصة للذهاب لألمانيا. هل تريد أن تحصل على الترقية لمركز مشرف مبيعات؟، هنا سوف تتعلم أن جميع منافسيك هم مشكلات تواجهك. هكذا يدخل الإنسان في شارع قصير يمتد من حدود «مخاوفه» إلى حدود «رغباته»، كان الخوف جزءًا رئيسيًا من فلسفة هوبز لدرجة أنه قال ذات مرة «لقد وضعت أمي توأمًا: أنا والخوف»!.



عند هوبز، قيام الحضارة والمجتمع الحديث يستلزم تقويضًا للحالة الطبيعية للمساواة بين البشر.

الإرادة (Will) عند هوبز إذن، هي حالة وسط ما بين الإرادة الحرة والحتمية المطلقة، والقرار متاح دائمًا طالما لا زلت في الشارع خاصتك. كانت قاعدة هوبز واضحة؛ فقد بنى كل شيء على مادية العلم، حتى أنه انتقد بشدّة ثنائية ديكارت القائلة بوجود روح وجسد، منطلقًا من ميكانيكا حركة الإنسان وتكوينه المادي لتصريف أفعاله.

من الطبيعي أن نقول إن كل البشر متساوون، يبدو ذلك مناسبًا للوضع الذي تعيشه المجتمعات البشرية الآن. لكن دعنا نعود إلى عام 1650م مثلاً، هناك الأمراء والملوك والتجار والعبيد.. إلخ، كانت ثورة بالفعل حينما قال هوبز إن كل البشر متساوون في القوة الجسدية والفكرية، في النهاية نمتلك جميعًا نفس الأعضاء البيولوجية حتى وإن بدا البعض أقوى من الآخر، فمن الممكن للضعيف أن يهزم القوي، حدث كثيرًا قبل ذلك وسوف يحدث. في الحقيقة كانت تلك النقطة تحديدًا هي مركز انطلاق فلسفة هوبز عن السلطة؛ التساوي في القوة هو ما يجعل المجتمع في حالة توتر، فنحن جميعًا نرغب في نفس الشيء، نتنافس فيما بيننا للحصول على أفضل موقع على البحر في قرية لوسيندا، أو نتنافس من أجل لقمة عيش في صندوق قمامة، نمشي في الحياة مدفوعين بمصالحنا الذاتية، نعم إننا أحرار في فعل ما يحلو لنا للحفاظ على ذواتنا وتقرير أفضل الطرق الممكنة للحصول على نتائج جيدة في ذلك الصدد؛ لكن تلك الحرية تصنع حرب «الكل ضد الكل» كما يسميها هوبز. ماذا نحتاج إذن لحل تلك المشكلة وتجاوز تلك الحالة لمجتمع حديث؟.

بسيطة، سلطة مطلقة قوية للدرجة التي تمنع أفراد المجتمع من التفكير في تجاوزها، هنا يمكن أن نحكم هذا الهرج والمرج الناتج عن ذلك التساوي بين البشر. في غلاف كتابه (اللفياثان Léviathan)، يرسم هوبز الملك القوي كجسم ضخم مكون من أجسام أتباعه الصغيرة جدًا، أفراد مجتمع هوبز يعقدون اتفاقًا مع ذواتهم – لهذا سُمّي بالعقد الاجتماعي Social Contract -، ينص على التسليم الكامل للحاكم والانصياع لرغباته، أما خانة واجبات الحاكم فلا تحتوي على شيء يُذكر، مجرد وجوده يحميهم من الانهيار على ذواتهم. عند هوبز، إذن، قيام الحضارة والمجتمع الحديث يستلزم تقويضًا للحالة الطبيعية، هنا يطل علينا شبح سيجموند فرويد القائل إن الحضارة الإنسانية بُنيت على كبت رغباتنا وليس إشباعها، ربما قد نزور فرويد قريبًا كي نتعرف على قلقه من الحضارة.

كان ما قدّمه هوبز ثوريًا في هذا السياق. بالطبع يمكن أن نسأل: ما الفرق بين حاكم شرعي مستبد وملك مستبد؟، الإجابة: كلاهما واحد. في فترة عاش فيها المجتمع مقتنعًا بحق إلهي Divine Right لشخص مختار لحكم شعبه، نقله هوبز لما نسميه حق طبيعي Natural Right، إنها إجابة مختلفة تمامًا لهوبز عن السؤال الشهير: «لماذا يجب علينا أن نخضع للسلطة؟»، إجابة عقلانية بعيدة عن تدخل الدين، تلك هي نقطة الانفصال الهوبزية. لا حاجة لنا أن نُحكم بأي طريقة أخرى غير تلك التي تخدم مصالحنا وتحمينا وتحمي ممتلكاتنا، أليست تلك نقطة مثيرة للانتباه؟!، هل من الممكن أن تكون المساواة، تلك التي يعتبرها البعض حلاً للصراع الاجتماعي، في المقام الأول، سببًا في هذا الصراع؟!.


توازنات «جون لوك»

يبدأ لوك من التسامح – أوّلَ شيء-، ولا يجعل منه ظرفًا استثنائيًا، بل يحاول تعميمه على الجميع. إنسان الحالة الطبيعية عند لوك هو شخص يمتلك قدرًا «أكبر» من الحرية في التقرير والامتلاك، قدرًا أكبر من الوعي، فهو يعرف كيف يميز بين الخير والشر، ويعرف أن حرب الكل ضد الكل تضره في الأساس، شارع أطول من شارع هوبز، وقدر أقل من الخوف. يمكن هنا أن نعتبر لوك تخفيفًا لهوبز، كسر لحالة حرب الكل ضد الكل وللأنانية المطلقة. يظل الإنسان محكومًا برغباته ومخاوفه وله الحق في تقرير ما يجده مناسبًا لتحقيق ذلك، لكن لوك هنا يقول إن العناية الإلهية خلقتنا أقل حدّة، وإن البشر قبل المجتمع عاشوا في «درجة» ما من درجات التناغم التي يتحكم فيها القانون الطبيعي. إذا كان إنسان هوبز عقلانيًا لكن قوانين الطبيعة تفرض عليه الاقتتال لذاته؛ فإنسان لوك عقلاني مع قوانين الطبيعة التي تسمح بمزيد من الحرية والوعي بضرورة الحفاظ على الجميع كسببٍ للحفاظ على ذواتنا. لكن، إذا كانت الأمور في الحالة الطبيعة بهذه الرومانسية، ما الذي يدفعنا لإقامة مجتمع؟، ألم يكن من الأفضل أن نظل كما كنّا؟.



عاش جون لوك في ظروف انتقال سلمي للسُلطة؛ ما جعله يرى أن الحضارة هي بنت الحرية.

هنا يجب أن نعيد التذكير أن جون لوك هو هوبز مخفف، لم يختلف بعدُ اختلافًا كليًا. كانت فكرة هوبز تتعلّق بحالة طبيعية صارمة قاسية؛ مما اضطره، كردّ فعل، لتصميم مجتمع يُحكم بصرامة وقسوة. أما جون لوك فيرى أن الحالة الطبيعية كانت أقل حدة لذلك سوف تنتج سلطة أقل حدة؛ أي يشارك فيها الأفراد بدرجة ما. إن خانة الواجبات التي تقع على عاتق الملك هنا تزداد السطور فيها قليلاً، ويوسّع لوك من أمنياته فيتحدث عن «حقك في الاعتراض».

لنعُد لإجابتنا؛ يحدث في الحالة الطبيعية أن يختلف البشر حول المِلكيات، السرقات، الاقتصاص مثلاً، لكن الإنسان يتعامل دائمًا مع جرمه على أنه «شيء بسيط»، بينما يتعامل الخصم مع نفس الجرم على أنه «أمر عظيم»؛ لأن درجة حب الذات التي لا تزال موجودة فيه تدفعه للتحيز لذاته وعائلته وأصدقائه ضد أعدائه. من هنا وجب علينا صياغة اتفاق – عقد اجتماعي- بين أفراد الجماعة لصنع قانون ما، حكم مدني، للفصل في تلك القضايا وتنظيمها قبل انتشار العنف، من هنا نشأ المجتمع ونشأت الحضارة، الحضارة إذن من منظور لوك هي بنت الحرية، لذلك فـ «جون لوك» هو الأب الروحي للفكر الليبرالي.

دعنا هنا نتوقف قليلاً لنشير لبعض السياقات وإن كانت لا تعطي تأكيدًا سببيًا لكون هذا العمل الفلسفي الاستثنائي الذي صاغه كل من هوبز أو لوك أو روسّو نتيجة لها؛ الأمر – كما أظن- أعقد من ذلك. عاش هوبز في كنف الخوف، رأى بعينيه اضطرابات عظيمة وضعفًا في الحكم في دولة تنقاد لحرب أهلية مما أدّى بالمجتمع لحالة من الفردية والفوضى، كتلك التي ربما نراها الآن في مجتمعاتنا، بل إن هوبز في مرحلةٍ ما هرب إلى باريس خوفًا. أما لوك فقد شهد انتقالاً سلميًا للسلطة، كانت الأمور مضطربة في بريطانيا لكنها لم تكن كحالة هوبز، أما عن صديقنا روسّو فقد عاش حالة من البذخ في مجتمع يحكمه فساد الحكم الملكي الذي فرّق بين الناس، حالة من الانحطاط، فخرج لنا ضاربًا بفكرة هوبز عرض الحائط، قائلاً إن المجتمع الحديث هو الشيء الوحيد الخاطئ في حياتنا، وإن الحالة الطبيعية هي الوضع المثالي؛ الحضارة هي ما قضى على أفضل ما في الإنسان. يرمي ذلك في طريقنا فكرة أكثر اختلافاً عما سبق؛ الشعب – وليس الملك- هو من يجب أن يحكم. دعنا نصيغها بصورة أخرى: إنها إرادة الشعب. هل لاحظ أحدٌ الآن أي علاقة للّون الأحمر بتلك الجملة الأخيرة؟!.


الحالة الطبيعية لـ«جان جاك روسّو»

فرنسا قبل الثورة: يتصور الجميع أن الإنسان يتطور بواسطة العلم والتكنولوجيا والفنون، من الهمجية والجهل إلى وضع متحضر مستنيرٍ وأكثر رفاهية، يتفق الجميع على أن البشر في أفضل أحوالهم الآن إلا رجل واحد؛ جان جاك روسّو، جادل أنّ المجتمع الحديث قضى على الحالة الطبيعية، تلك التي كان الإنسان فيها أكثر سعادة وطيبة، كان بسيطًا، انتشر في الغابات وعاش على خيراتها غير مهتم بمستقبل أو ماضٍ، لم يهتم بالحصول على الساعة روليكس أو الملابس من كيلفين كلاين مع برفان هيوجو، عاش محبًا لأسرته محترِمًا للطبيعة غير منتهكٍ لها. الحالة الطبيعية هي حالة أخلاقية، بريئة، فضولية، يعيش الإنسان فيها متعاطفًا مع الآخر مشفقًا عليه، الحب عند روسّو هو الشفقة على من نحب.

جاء المجتمع المتحضر بالانحطاط وعدم المساواة بين الناس، أيقظ في البشر حب الذات فانتشرت الغيرة والحقد على الآخرين، أصبح كل شيء مُصنّعًا حسب الطلب، حتى المحبة، كلما انتقل البشر للحياة في المدينة كلما ازدهر ذلك النمط المنحطّ من الحياة. بدأ الناس في مقارنة بعضهم بالبعض وقلدوا بعضهم وظهرت الموضة فأصبح البشر نسخًا مكررة من نفس الشيء، وتوقفوا عن التفكير فيما يهم حقا، فيما يرغبون فيه من داخلهم وما يشعرون به حقيقةً بعيدًا عن أثر الانحطاط المجتمعي. إنه ذلك الشعور الذي يتملكك حينما تترك المدينة وتذهب في زيارة للأقارب بالقرى النائية حيث لا زالت تلك «الطيبة» العجيبة تسكن الأجواء. هل تلاحظ ذلك؟!، نحن نتحدث برومانسية شديدة حينما نتحدث عن روسّو، بالفعل روسّو هو مؤسس النزعة الرومانسية، النزعة للطبيعة، تحرير الذات من القيود.

يبدأ روسّو كتابه «العقد الاجتماعي» قائلاً: «وُلد الإنسان حرّا وفي كل مكان هو الآن يرسف في الأغلال»، تجبره المخاوف على التنازل عن حريته الطبيعية للآخرين فتصبح للدولة السلطة عليه، من هنا يبدأ روسّو في صياغة فلسفة لها علاقة بإرادة الشعب، «الشعب دائمًا على حق» كما يقول روسّو، تلك الإرادة يمكن التعبير عنها باقتراع عام يساهم فيه الجميع – عدا المرأة وقتها- لتحقيق رغبة عامة، الحاكم إذًا يحصل على سلطته فقط بقرار من الشعب، ليعبّر هذا الحاكم فيما بعد عن الإرادة العامة التي تفرض بدورها بعض التقييد على حياة الفرد.

دعنا نوضح تلك النقطة قليلاً. الفرد في فلسفة روسّو ليس هو مركز الفعل الاجتماعي كما عند لوك أو هوبز، بل «المجتمع كوحدة واحدة»؛ ليس الأفراد هم المعنيين بالعقد الإجتماعي لكنها الإرادة العامة؛ أي أن المجموع له مصالح تختلف عن مصالح الفرد، وأن للمجتمع خصائص أكبر من مجموع أفراده، الأمر كأن تبدأ في تجميع أجزاء سيارة فيراري، لكل جزء من أجزاء تلك السيارة خصائصه الخاصة به، لكن حين اجتماعهم معًا نحصل على «سيارة» ذات صفات مُضافة للكيان الكلّي بعيدًا عن صفات كل قطعة على حدة. تظهر هنا فكرة «الصالح العام»، نجد أفكار روسّو بوضوح في «ماركس»، ونجدها كذلك في «دوركايم» فيما بعد. فكرة الإرادة العامة تطرح مفهومًا غامضًا يصعب التحكم فيه، أدّى في الكثير من الحالات إلى أنظمة شمولية مستبدة، حيث يدّعي المستبد أنه يحكم بأمر «الإرادة العامة» ويقودهم للصالح العام، بينما يقودهم للهلاك. مَن الذي يقرر تلك الإرادة العامة؟، العمّال؟، رجال الأعمال؟، المثقفون الأرستقراطيون؟!، ومَن يقرر للذي يقرر؟!.


بأيّ عقلٍ ستفكّر؟



الفرد عند روسّو ليس هو مركز الفعل الاجتماعي كما عند لوك أو هوبز، بل «المجتمع كوحدة واحدة»؛ ليس الأفراد هم المعنيين بالعقد الاجتماعي لكنها الإرادة العامة.

حسنًا، من أنت؟!، وبأي عقلٍ ستفكّر؟!، يطرح موضوعنا الكثير من الأسئلة عن معنى الحياة، عن طبيعتنا كبشر، وعن أثر تلك الأفكار عن ذواتنا على تشكل المجتمعات. يطرح كيف أنّ فكرةً – قد تبدو بسيطة-، مع نقيضها، قد تعيدان تشكيل العالم وتدفعه للتطور بصور مختلفة تمامًا. دعنا نفترض أن هناك خط أعداد يعبّر عن طبع البشر في الحالة الطبيعية، خط ممتد ما بين «هوبز» على اليمين و«روسّو» على اليسار، بينما يقف «لوك» في منتصفه تقريبًا عند الصفر. لكل منّا – نحن البشر- رأيٌ يمكن وضعه كنقطة على هذا الخط، درجة تحددها في الأصل قناعتك عن الطبيعة البشرية ونسبة تواجد كل من الخير والشر بها.

وأنت، على أي نقطة ستقف؟، على أي عقد اجتماعي يمكن أن توقع؟