ربما لا يحتاج نجيب محفوظ لتقديم أعماله أو الفائدة المرجوة من قراءته، أو الدوافع لها، لكن لنحاول أن نقدم الأديب العربي الوحيد الفائز بجائزة نوبل في سطور قليلة لا توفيه حقه.

يمثل نجيب محفوظ جيلًا جديدًا من الأدباء بعد جيل المبادرين الأوائل، عباس العقاد وتوفيق الحكيم وغيرهما، تفوق عليهم جميعًا في مستويين رئيسيين، الأول هو عالميته التي اكتسبها بفوزه بأرفع جائزة أدبية عام 1988، والثاني لغزارة وتنوع إنتاجه، فعلى الأقل يمكن تقسيم أعمال نجيب محفوظ ال54 إلى ثلاث محطات رئيسية وهي:

  • الأدب الواقعي والتي بدأت مع أولى رواياته سواء الفرعونية أو القاهرة الجديدة، وتوجها بعمله الفريد الثلاثية، وخلال تلك الرحلة سيتطور أسلوب نجيب محفوظ بشكل ملحوظ.
  • الأدب الرمزي الفلسفي، وهي مرحلة بدأت بعد الثلاثية من خلال اللص والكلاب وأولاد حارتنا، ويعتبر تتويجها في الرواية التي يعتبرها البعض أفضل ما كتب بالعربية «الحرافيش».
  • الكتابات القصيرة، وهي مرحلة ساهم فيها تعرضه لمشاكل صحية مع محاولة اغتيال، نتج عنها أعمال أقصر من حيث الحجم، وأكثر تكثيفًا من حيث الشكل، أشهر ما فيها شخصية عبد ربه التائه.

ويمكن
إضافة مرحلة رابعة لا تلاقي الاهتمام الكافي وهي المجموعات القصصية والتي للمفاجأة
تعتبر أكبر عددًا من أي من الروائيين العرب تقريبًا، على الأقل المشهورين منهم،
وسأحاول بشكل موجز شرح أهم مميزاتها وكيفية إدماجها في القراءات المتعددة للروائي
العربي الأهم.

تدور
أحداث أعماله في أغلبها في الحارة المصرية التي يراها مسرحًا مناسبًا لعرض كل
حكاياته، تمامًا كإسطنبول عند أورهان باموك، أو دبلن عند جيمس جويس، أو باريس عند
بلزاك.

في
هذه الحلقة سيتم التعرض فقط لمرحلة الأدب الواقعي، والقصص القصيرة، فيما سيتم عرض
مرحلة الأدب الرمزي الفلسفي والقصير في حلقة منفردة.

ولد نجيب محفوظ في 11 ديسمبر 1911، بدأ مسيرته الأدبية عام 1939 برواية عبث الأقدار وهي أول رواية فرعونية ضمن ثلاثية سيستكملها بروايتي رادوبيس وكفاح طيبة، استمر في كتابته الأدبية ومارس معها كتابة السيناريو فأنتج أكثر من 40 سيناريو للسينما وتوج بجائزة نوبل عام 1988.

المرحلة الأولى (البدايات)

في
بداية تعرفنا على نجيب محفوظ قد نجد طريقًا بسيطًا لدخول عالمه عبر التسلسل الزمني
لنشر رواياته، ففيها تقريبًا الكثير من التشابه مع الطريقة المعتادة لفهم مؤلفات
كاتب، فقد كان نجيب محفوظ متطورًا بشكل خطي، لكن ذلك لا يمنع أن يعود لتجريب بعض
الأفكار في سنوات متأخرة عن المرحلة التي بدأ فيها.

1. القاهرة الجديدة

أول محطاتنا مع أدبه الواقعي ستكون رواية قصيرة هي القاهرة الجديدة الصادرة عام 1945 (كل إنتاج نجيب محفوظ صادر عن دار الشروق، وسيتوافر إلكترونيًا بشكل مجاني عبر موقع مؤسسة هنداوي، وورقيًا بداية من أبريل 2022 مع دار نشر ديوان).

في القاهرة الجديدة، والتي تغير اسمها من القاهرة 30 بسبب مشاكل رقابية، يعطينا نجيب لمحة سريعة عن أسلوبه، لغة أكثر تطورًا من سابقيه، لكنها اليوم ستبدو أكثر كلاسيكية مما تعودنا عليه، يستخدم محفوظ الفصحى في السرد، وفصحى أكثر تبسيطًا في الحوارات دون أن يجعلها عامية، لكنه يضيف المصطلحات العامية الفصيحة في حواراته.

في هذه الرواية، نتحرك عبر عدة شخصيات شابة يجمعها الطموح للتحقق لكنها تواجه بصعوبات بالغة ينتج عنها تفرقها ووقوعها فريسة للفساد السياسي والاجتماعي، ويظهر جليًا أيضًا ميل نجيب محفوظ نحو الميلودراما في أحداث رواياته، والتي سيتخلص منها تدريجيًا.

2. زقاق المدق

صدرت الرواية عام 1947 وتحولت لفيلم مصري، وفيلمين مكسيكي وإيراني، يعاود نجيب رحلته داخل الحارة المصرية، والصراع هنا يبدو قريبًا مما سيقدمه في روايته الأكثر فلسفية ورمزية، فحميدة بطلة الرواية والتي يقع شاب في حبها، يمكن التعامل معها على أنها الحياة التي تعذبنا، لكن أيضًا على مستوى الحكي الظاهري، لا تزال القصة ممتعة ومحكمة للغاية.

3. بداية ونهاية

تكمن أهمية الراوية الصادرة عام 1949 أنها ربما بداية النهاية للميلودراما في أعمال نجيب محفوظ، وهي آخر عمل قبل ثلاثيته الأشهر.

تدور أحداث الرواية في قالب بسيط، أسرة تفقد عائلها فتبدأ في التفكك، تنهار الأسرة تدريجيًا، وبشكل درامي مع تطور الأحداث، هنا الحبكة مميزة ومتماسكة جدًا، والبطولة أيضًا لشخصية نسائية هي نفيسة التي تقع في حب شاب يغدر بها فتتأزم الأحداث.

4. همس الجنون

صدرت المجموعة القصصية عام 1938 وهي أول عمل أدبي لنجيب محفوظ، وأعتقد أن قراءتها بعد الروايات الثلاث قد يعطي رؤية أوضح لأفكار الرجل الفائز بنوبل، لأن الكثير مما قدمه في هذه المجموعة سيعود ويعمل على إنضاجه في روايات كاملة.

وكما أفترض في قراءة المجموعات القصصية لن تحتاج لإنجازها بشكل متتالٍ، يمكن أن تقرأ قصة أو قصتين في المرة الواحدة وتعود لقراءة إحدى رواياته أو أي كتاب آخر لتتمكن من استيعاب القصص التي رغم قصر حجمها تحتاج لبعض الوقت للتفكر فيها، فسمة القصة القصيرة أنها ومضة أو لمحة أو موقف واحد يغير أو يعقد أو ينبه البطل، وفي مقابل الاختزال في الأحداث ينتظر الكاتب من القارئ أن يستكمل كل الخلفيات والمساحات الفارغة بعقله من خلال الأحداث المكتوبة

.

المرحلة الثانية (الثلاثية)

تعتبر كلمة ثلاثية تعبيرًا عن عمل نشر على أجزاء ثلاثة، ولكن لأهمية وقيمة ثلاثية نجيب محفوظ فقد أصبح الاسم المجرد معبرًا عن هذه الثلاثية بالذات، فما إن تذكر الكلمة حتى نتصور أن المقصود هو ثلاثية نجيب محفوظ بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية.

في هذه المرحلة سنكتفي فقط بالثلاثية، عمل صدر في ثلاثة أجزاء بعدد صفحات يتجاوز ال1800 صفحة، لكن لا تدع الرقم ينفرك من قراءة الرواية، فالمتعة مضمونة داخل صفحاتها التي يتخلى فيها نجيب محفوظ عن الميلودراما، لصالح تحليل للشخصيات ونفسيتها ومن خلال وضع الأبطال في صراع لإظهار شخصياتهم المختلفة.

1. بين القصرين

تبدأ الثلاثية الصادرة بين عامي 1956-1957 برواية بين القصرين، البطل هو السيد أحمد عبد الجواد، لكن المشهد الافتتاحي لأمينة، واحد من أروع المشاهد الافتتاحية، الذي يقدم فيه شخصية أمينة من خلال صراعها مع زوجها السيد أحمد عبد الجواد، وفي الفصل الثاني يقدم شخصية السيد أحمد عبد الجواد من خلال صراع جديد مع شخصية جديدة، وهكذا يتتبع محفوظ شخصياته ويقدمهم فصل يتبع فصلاً من خلال وضعهم في صراع مع شخصية جديدة حتى يكتمل عقد الشخصيات الأساسية، أسرة السيد أحمد عبد الجواد والشخصيات الأخرى التي ستظهر تدريجيًا في باقي الثلاثية.

2. قصر الشوق

ينتهي الجزء الأول من الثلاثية مع ثورة 1919، ويتمحور الجزء الثاني بالإضافة للشخصيات الأساسية من عائلة السيد أحمد عبد الجواد، حول الابن كمال، وهو أقرب شخصية لنجيب محفوظ نفسه، ويمكن افتراض أن تلك الشخصية تمثل جزءًا من السيرة الذاتية لنجيب محفوظ في شبابه.

يحصل
شباب وأطفال الجزء الأول على دور أكبر في الجزء الثاني، ودون أن يخفت بشكل كامل
دور الشخصيات الرئيسية من الجزء الأول، بل نعاين تطورها وانكساراتها والتي ستتجلى
في الجزء الثالث والأخير من الرواية.

3. السكرية

الجزء الأخير من الثلاثية والذي يتقدم فيها الجيل الثالث (الأحفاد) لنرى مدى تغير الواقع السياسي والاجتماعي لمصر في تلك الفترة، وتبدأ رحلة النهاية لأبطالنا من الجزء الأول، ولا تفترض في الجزء الثالث نهايات دراماتيكية للشخصيات، بل تطور متناسب جدًا مع ما سبق تقديمه عنها، حتى التغير الكبير، بل وربما يمكن تسميته الانقلاب، الحادث في أدوار كل من أمينة الزوجة المستكينة، والسيد أحمد الرجل القاهر هو جزء من صميم تطور الشخصيات على مدار صفحات الرواية.

يمكن رؤية ذلك التطور في لمحة تقنية قدمها نجيب محفوظ ربما لا تذكر كثيرًا والمتعلقة بالمونولوج أو الحوار الداخلي للشخصيات على صفحات الرواية، فعلى مدار 1200 صفحة تقريبًا قدم نجيب محفوظ حوارًا داخليًا لكل الشخصيات الأساسية عدا أمينة، والتي سيظهر أول مونولوج داخلي لها في الفصل الذي يتبع وفاة السيد أحمد عبد الجواد، وكأن القهر الذي مارسه الزوج استكمل في النسق التقني للرواية فلم تكن قادرة على التعبير عن مكنونها إلا بوفاته على صفحات الرواية، وهي لمحة تقنية متميزة وتدل على عمق العمل الذي يقدمه محفوظ ودرجة الإتقان فيه.

بعد الانتهاء من الثلاثية التاريخية أرشح عملاً واحدًا لاستكمال تلك المرحلة، وهو عمل ليس من إبداع نجيب محفوظ، بل قراءة نقدية تمت من خلال عدة مقالات كتبها الشاعر والناقد نجيب سرور، وفيها من المتعة والذكاء ما سيزيد من روعة تجربة قراءة الثلاثية، بالرغم من أن المقالات التي جمعت في كتاب واحد تحت اسم «رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ» لم تقدم إلا تحليلاً للجزء الأول فقط وتوقف سرور بعدها عن استكمال العمل، إلا أنها ثرية للغاية، حتى لو لم تجد كل الملاحظات متفقة مع رؤيتك للثلاثية.

المرحلة الثالثة (ثلاثية الأعمال المتشظية)

في هذه المرحلة سنراوح ما بين الأعمال السابقة لاستكمالها والقفز لقراءة أعمال صدرت بعد الثلاثية، وبالرغم من أن محفوظ سيتجه نحو الرمز والفلسفة بعد الثلاثية، فإن الأعمال الواقعية ستظل موجودة وإن كان الاختلاف بينها وبين الواقعية الكلاسيكية، إن صح التعبير، سيبقى واضحًا وجليًا.

رغم واقعية الأعمال الثلاثة التي سنقدمها في هذه المرحلة بالإضافة لرواية قشتمر إلا أنها تتميز بالتشظي، حيث الخيط الناظم للحكايات رفيع وغير مرئي دائمًا، يصل بالرواية أحيانًا لمرحلة أنها غير متماسكة من حيث البناء، لكن إدراك الرابط سيعني سعادة إضافية نحو النص.

1. المرايا (1972)

خمس وخمسون شخصية يقدمها نجيب محفوظ من خلال روايته، بورتريهات مثالية من حيث الدقة في الوصف والقدرة على النفاذ للمعنى بأقل عدد من الكلمات، يعتقد البعض أن الكثير من أبطال الرواية أشخاص حقيقية عايشها نجيب في حياته، يذكر منها الكثير جدًا، وحتى نجيب محفوظ نفسه في مذكراته ذكر أن سيد قطب موجود في الرواية في شخصيته عبد الوهاب إسماعيل، لكن قراءة الرواية من تلك الزاوية ربما يقلل من أهميتها وينقص من جماله الفني، فيما التعامل معها كرواية والبحث عن تأثير الزمن والأحداث على الشخصيات، وهو الخط الناظم لها، سيعطي رؤية أكثر اكتمالاً نحو فهم الرواية وتفاصيلها.

2. أفراح القبة (1981)

رؤية جديدة لتقنية سيستخدمها محفوظ مرة أخرى في رواية عن أخناتون (العائش في الحقيقة) (1985)، شخصيات تحكي الحكاية من وجهه نظرها، يجعل الربط ما بينها صعبًا في البداية لكن مع الوقت ستتمكن من ربط الحكايات وسيعاد مرة أخرى استخدام نفس التقنية بشكل أكثر تعقيدًا في الرواية الثالثة في هذه المرحلة وهي رواية حديث الصباح والمساء.

3. حديث الصباح والمساء (1987)

في هذه الرواية يتلاعب بنا نجيب محفوظ ويجعل الترتيب خاضعًا فقط للحروف الأبجدية، وإن كان هذا الترتيب سيجعل من تتبع أزمان كل شخصية أمرًا صعبًا، فإنه أيضًا يجعل الرواية ممتعة بصورة مغايرة عن الأعمال السابقة التي اتخذت من شكل السرد على لسان شخصيات طريقة لصناعه النص، ربما تفتقر هذه الرواية تفاصيل كافية لبناء عالم كامل، وهو ما يظهر بشكل واضح في العمل الدرامي الذي أنتج عن الرواية بنفس الاسم وكتبه السيناريت محسن زايد، وفيه سيعمل زايد على استكمال تفاصيل الشخصيات ليقدم منها دراما تلفزيونية، لكن ما قدمه محفوظ بالأساس في هذه الرواية هي شخصيات مفعمة بالحياة في كلمات قليلة جدًا، قادرة على دفع هذه الشخصية للأمام دائمًا وإدراك طباعها وتصوراتها عن الحياة في إطار ملحمي وأسطوري.

4. قشتمر (1988)

كيف تكتب رواية عن خمس شخصيات لمدة سبعين عامًا في 120 صفحة؟ يتطلب الأمر الكثير من المجهود والخبرة، وهما عنصران لا يفتقرهما نجيب محفوظ الذي سيفوز بجائزة نوبل في نفس عام صدور الرواية، والتي ستصبح آخر رواياته وسيبدأ بعدها مرحلة مختلفة في الكتابة القصيرة جدًا وبتنوع وأسلوب مختلفين بالكلية عن أعماله السابقة.

كتبت هذه الرواية مرتين، الأولى لم تر النور، كتبها محفوظ عن صديقه الشاعر صلاح جاهين بعد وفاته، لكنه وجدها ملأى بالشخصيات الحقيقية والتي يمكن أن تسبب له متاعب ومشاكل هو في غنى عنها، فقرر إعادة كتابتها بشخصيات متخيلة، وإن بدت كسيرة ذاتية كاملة لخمسة أبطال ليس من ضمنهم نجيب محفوظ، لكن بالتأكيد يمكن اكتشاف شخصية صلاح جاهين بسهولة شديدة.

تنتهي المرحلة الثالثة من قراءة تجربة نجيب محفوظ الواقعية بهذه الروايات، في المرحلة الرابعة سنجد عدة روايات كان يمكن ضمها لأي من المراحل السابقة للتشابه في النمط أو الأسلوب، لكن تم تأجيلها لتصبح كل مرحلة محددة المدة بثلاث أو أربع روايات فقط.

المرحلة الرابعة (استكمال المجموعة)

في
هذه المرحلة يمكن استكمال باقي أعمال نجيب محفوظ خارج إطار الرمزية وسأعمل على
جمعها في قائمة بسيطة قد لا تكون بالضرورة معبرة بشكل كامل عن تلك الأعمال التي
يمكن إدراجها تحت هذا المسمى:

1. رباعية مصر القديمة: بدأت هذه الرباعية بثلاثية هي أول أعمال الكاتب الروائية وهي عبث الأقدار، رادوبيس، وكفاح طيبة بين عامي 1939 و1944 ثم تضاف إليهم الرواية الرابعة وهي العائش في الحقيقة عام 1985.

2. أعمال سياسية: يمكن اعتبار السياسية جزءًا أصيلاً في أعمال نجيب محفوظ بالرغم من اعتراض الكثير من مثقفي جيله على ابتعاده عن التعبير بشكل علني عن معارضته، لكن في كل أعمال نجيب محفوظ الواقعية ستجد اعتراضًا واضحًا على الأنظمة السياسية المصرية باختلافها، لكن هذه القائمة يمكن اعتبارها أكثر وضوحًا من غيرها:

ثرثرة فوق النيل (1966)، الكرنك (1974)، الحب فوق هضبة الهرم (1979).

انتهت رحلة الواقعية مع نجيب محفوظ، في المقال المقبل نستكمل رحلة جديدة مع الرمزية والفلسفة.