أثار إعلان الدولة المصرية اعتزامها إعادة ترسيم الحدود البحرية بينها وبين المملكة العربية السعودية العديد من التساؤلات عن ماهية الخلافات الحدودية وكيفية التعاطي معها، لا سيما وأن الخطوة التي أعلنتها مصر انتهت بالاعتراف بسيادة المملكة على جزيرتي تيران وصنافير، المدرجتين ضمن السيادة المصرية باتفاق ثنائي بين البلدين منذ عام 1950م، اللتَين تمتازان بإشرافهما على مدخل المجرى الملاحي بخليج العقبة الأمر الذي يشكل سابقة قد يكون لها ما بعدها.

لذا سنحاول في سياق هذا التقرير التعرُّض لأبرز الخلافات الحدودية بين دول منطقة الشرق الأوسط وكيفية تعامل هذه الدول معها.


شط العرب: الخط الذي مات لأجله مليون رجل!


http://gty.im/86879407

كانت أولى المعاهدات الهامة لترسيم الحدود بين العراق وإيران في العصر الحديث هي معاهدة عام 1937م، والتي استندت إلى المعاهدات التاريخية السابقة بين الدولة الفارسية والعثمانية. إلا أن المشكلة الأبرز، في كل مرة يتم فيها ترسيم الحدود بين البلدين، كانت هي النزاع على السيادة على شط العرب. وهو ممر مائي ناتج عن التقاء نهري دجلة والفرات ويصب في الخليج العربي، ويبلغ طوله 204 كم، أما عرضه فمتفاوت؛ إذ يتسع كلما اقترب من الخليج ليبلغ حوالي الكيلومترين عند المصب.

رأت العراق أن المعاهدات التاريخية التي ورثتها عن الدولة العثمانية قد أعطتها الحق في السيادة الكاملة على هذا الممر المائي الذي يصب في الخليج، لا سيما وأنها تعاني من ندرة منافذها إلى مياه الخليح العميقة التي تسهل حركة تنقل وإرداتها وصادراتها من وإلى الموانئ العالمية؛ الأمر الذي يستدعي رسم خط الحدود بين الدولتين بالتماشي مع «خط ضفة النهر» الشرقية، ليصبح مسطح النهر كله ملكًا للعراق، مما يتيح له التحكم الكامل في عمليات الصيد والملاحة فيه وكذلك استخراج النفط من قاعه. في المقابل طالبت إيران بتقاسم السيادة على شط العرب باعتبار «خط قاع النهر» فاصلًا بين الدولتين مستندةً في ذلك إلى الغموض الذي لف المادة الثانية من ملحق المعاهدة العثمانية-الفارسية. في نهاية الأمر انتهت المفاوضات بين الطرفين إلى توقيع معاهدة 1934م، والتي نصت على رسم خط الحدود بين البلدين بالتماشي مع خط ضفة النهر الشرقية، باستثناء منطقتين محدودتين بموازاة مدينتي «عبادان» و«المحمرة» الإيرانيتين يتماشى فيهما خط الحدود مع خط قاع النهر.



استغل الشاه ضعف النظام البعثي عام 1969م لخدمة موقفه في النزاع، وفي وقتٍ لاحق استغلت العراق اندلاع الثورة واحتدام الصراع السياسي الداخلي في إيران لترجح كفتها

إلا أن شاه إيران قرر عام 1969 استغلال ضعف النظام البعثي الجديد، الذي كان قد وصل إلى السلطة قبل عام واحد فقط، وقام من جانب واحد بإعلان إلغاء معاهدة عام 1937، واعتبار خط قعر النهر فاصلا بين البلدين، كما قامت إيران بحشد قواتها العسكرية البرية والجوية والبحرية على طول خط الحدود مع العراق. فرضت إيران أمرًا واقعًا على شط العرب وامتنعت السفن الإيرانية عن دفع رسوم الملاحة للحكومة العراقية بمعزل عن اشتراطات المعاهدة السابقة، ولم تقدم الحكومة العراقية على ردٍ واضح وقتها نظرا للقوة العسكرية الإيرانية من جهة، ولانشغال النظام العراقي بقمع التمرد الكردي شمال العراق من جهة أخرى.

في السادس من مارس/آذار 1975م، وعلى إثر اشتداد القتال مع المتمردين الأكراد في العراق وإيران، قرر نائب الرئيس العراقي صدام حسين توقيع اتفاق مصالحة مع شاه إيران محمد رضا بهلوي في الجزائر بوساطة من الرئيس الجزائري هواري بومدين. ونص الاتفاق على تسوية الخلاف الحدودي بين البلدين حول شط العرب والمناطق الحدودية الاخرى، وقامت العراق لأول مرة بالتنازل عن حقوقها في المعاهدات السابقة بالسيادة على الممر المائي واعتماد خط قعر النهر أساسًا لترسيم الحدود في شط العرب، مقابل وقف كل من البلدين دعمه للمتمردين الأكراد في البلد الآخر.

اتفاق لم يدم طويلا قبل أن يعود صدام حسين لإلغائه من جانب واحد في السابع عشر من سبتمبر/أيلول لعام 1980م، مستغلًا حالة الفوضى التي أعقبت الثورة الإيرانية، وبعدها بخمسة أيام فقط -أي في الثاني والعشرين من ذات الشهر- دفع بقواته إلى داخل الحدود الإيرانية لتندلع حرب الثمانية أعوام -الحرب الأطول في القرن العشرين، والتي راح ضحيتها حوالي المليون شخص- ليعود الطرفان بنهايتها عام 1988م ،إلى اتفاق الجزائر.


حقيقة الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاثة

الجزر الثلاثة محل النزاع بين إيران والإمارات العربية المتحدة

رغم صغر مساحة الجزر الثلاثة -طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى- إلا أن الأهمية الإستراتيجية التي تتمتع بها جعلتها محط صراع طويل الأمد بين الإمارات العربية المتحدة التي تدّعي ملكية الجزر وتعلنها أراضيَ إماراتية محتلة وبين إيران التي تفرض سيطرتها على الجزر بالقوة وتعدّها جزءًا من أراضيها وسيادتها الجغرافية حتى أنها أعلنت مؤخرًا -عام2012م- عن إقامة محافظة جديدة تدعى «خليج فارس» وجعلت جزيرة أبو موسى عاصمتها بعد أن كانت تابعة لإقليم «هرمز غان» وعاصمته بندر عباس، بينما سمحت لشركات سياحة إيرانية بتنظيم رحلات سياحية إلى الجزر الثلاث، كما أجرت منذ التسعينيات عشرات المناورات العسكرية البحرية والجوية في مياه المنطقة.

ولا تزال الإمارات العربية المتحدة تجهر برفضها الاحتلال الإيراني لأراضيها، رغم العلاقات الاقتصادية الممتازة بين البلدين. ولا تنفك الإمارات إلى يومنا هذا عن تنظيم حملات دبلوماسية، من حين لآخر، تطالب خلالها الدول العربية والمنظمات والهيئات الدولية بمساندتها في مواجهة الاحتلال الإيراني للجزر الثلاثة، إلا أن نظرية الأمر الواقع لا تزال هي الحاكمة بهذا الشأن.

ما يجعل الصراع على ملكية الجزر مسألة حيوية للدولتين هو الأهمية الإستراتيجية الكبيرة لهذه الجزر. فهي تقع في منطقة في غاية الحساسية من الخليج العربي، إذ تتحكم بالملاحة فيه -في صورة شديدة الشبه بتحكم جزيرتي تيران وصنافير بالملاحة في خليج العقبة. كما تشرف الجزر الثلاث على مضيق هرمز والذي يمر بمياهه قرابة الـ 40% من الإنتاج العالمي للنفط، كما يربط الخليج العربي بخليج عُمان -المنفذ العربي إلى المحيط الهندي-. ومن الناحية الاقتصادية فإن حاكم الشارقة -قبل إعلان إتحاد الإمارات العربية- سلطان بن محمد القاسمي كان قد أعلن عن اكتشاف النفط في المياه الإقليمية لجزيرة أبو موسى، وقد منحت حكومة الشارقة إحدى الشركات الأميركية امتيازات للتنقيب عن النفط في الجزيرة، وصدّرت أول شحنة منه عام 1974م.



أزمة الجزر لم تكن أزمة استقلال وطني حتى توحدت الإمارات العربية عام 1971م لكنها بنهاية المطاف لم تكن قادرة يومًا على انتزاعها من السيطرة الإيرانية

واضطر حاكم الشارقة خالد القاسمي، بعدما أخفق في الحصول على مساندة عربية، لإبرام مذكرة تفاهم مع إيران برعاية بريطانية، تقضي بتقاسم السيادة على جزيرة أبو موسى وتقاسم عوائدها النفطية، دون اعتراف من كلا الطرفين بمزاعم الآخر حول السيادة الكاملة للجزيرة. وظلت اتفاقية التقاسم سارية حتى عام 1992م إذ قررت إيران فرض سيطرتها على كامل الجزيرة بالقوة.

بنهاية المطاف، صارت قضية الجزر الثلاثة قضية استقلال وطني مذ أعلنت الإمارات العربية اتحادها في ديسمبر/كانون الأول 1971م.


حلايب وشلاتين، بين مصر والسودان


بعد الإعلان المصري المفاجئ عن أحقية المملكة العربية السعودية في السيادة الكاملة على جزيرتي تيران وصنافير، دون تحكيم دولي أو تحرك عسكري من أيٍ من الجانبين، تتجه الأنظار بصورة تلقائية إلى نقطة الخلاف الحدودي المصرية الأخرى في الجنوب، والتي تردد ذكرها مؤخرًا، لا سيما وأن الرئيس السوداني عمر البشير

أعلن

قبل أشهر امتلاك دولته لأدلة ووثائق تثبت أحقية السودان بالسيادة على المنطقة محل النزاع.تقع المنطقة المتنازع عليها بين مصر والسودان على ساحل البحر الأحمر وتبلغ مساحتها قرابة الـ 20 ألف كيلومتر وتسكنها قبائل تمتد بجذورها التاريخية بين الجانبين كما يتمتع سكانها بحرية التنقل على الحدود المصرية السودانية. يمكن أن نؤرخ لنقطة انطلاق الأزمة من السابع والعشرين من فبراير/شباط 1958م، الموعد المقرر لإجراء الانتخابات البرلمانية السودانية إذ تم إدراج منطقة حلايب المصرية ضمن الدوائر الانتخابية!في التاسع والعشرين من الشهر ذاته تقدمت الحكومة المصرية بمذكرة اعتراض للجانب السوداني معتبرةً ما حدث خرقًا للسيادة المصرية أشارت المذكرة إلى أن القانون خالف اتفاقية 1899م بشأن الحدود المشتركة؛ إذ أدخل المنطقة الواقعة شمال مدينة وادي حلفا والمنطقة المحيطة بحلايب وشلاتين على سواحل البحر الأحمر ضمن الدوائر الانتخابية السودانية، وطالبت حينها مصر بحقها في هذه المناطق التي تقوم السودان بإدارتها شمال خط عرض 22 درجة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أعلن فيها نزاع على الحدود بين البلدين.



المثلث المتنازع عليه بموجب اتفاقية ترسيم الحدود المصرية السودانية مصري، وبموجب القرار البريطاني الذي أعقبه بعامين خاضعة للإدارة السودانية، وهو طبقًا للأمر الواقع تحت السيادة المصرية

فالمنطقة محل النزاع خاضعة للسيادة المصرية بموجب اتفاقية ترسيم الحدود المصرية السودانية والتي يرجع تاريخها لعام 1899م، والتي كان بطرس غالي -وزير الخارجية المصري في حينها- ممثلًا عن الجانب المصري في حضور اللورد كرومر. بينما ذات المنطقة بموجب القرار البريطاني -صاحبة الحماية على مصر في حينها- خاضعة للإدارة السودانية. وقد تقدمت الحكومة السودانية برئاسة عبد الله خليل في فبراير/شباط 1958م بشكوى ضد مصر في مجلس الأمن وتم تأجيل نظر الشكوى أمام المجلس بموافقة مصرية إلى أن تنتهي الانتخابات البرلمانية السودانية مع استمرار الإدارة السودانية للمنطقة.مؤخرًا، في عام 1990م أصدرت مصر قرارًا جمهوريًا يوضح حدودها بما يؤكد ضم حلايب للحدود المصرية، وفي عام 1992 قامت القوات المصرية بالتوغل في منطقة حلايب، ورغم شكوى السودان لمجلس الأمن إلا أن وزير الخارجية المصري في حينها عمرو موسى جادل في أن حلايب أرض مصرية وأن الصلاحيات والتسهيلات الإدارية الممنوحة للسودان فيها لا تجعلها أرضا سودانية، وقبل النظام السوداني بالأمر الواقع وتلاشت القضية عن الأنظار حتى عام 2010م حين عاد الرئيس السوداني بتصريحات حول أحقية السودان في مثلث حلايب قوبلت بتصريحات مناهضة من الجانب المصري. جدير بالذكر أن حلايب تم ضمّها بشكل رسمي كدائرة انتخابية مصرية، وأجريت فيها الانتخابات البرلمانية والرئاسية المصرية عامى 2011 و 2012م عقب الثورة المصرية. وحتى يومنا هذا تتصاعد حدة التوترات وتخفت بين البلدين بهذا الشأن تبعًا للمزاج السياسي الآني بين النظامين الحاكمين في القاهرة والخرطرم.ختامًا، وبعد أن تعرضنا في الأسطر الماضية بالسرد التاريخي لثلاثة من أبرز النزاعات الحدودية بالمنطقة الشرق أوسطية، أوضحنا خلالها كيف تعاملت معها إدارات الدول المشاركة في النزاع، بقي أن نتساءل هل أصابت الإدارة المصرية ضالتها في تعاطيها هذا مع أزمة الحدود البحرية الشرقية التي تنازلت خلالها عن سيادتها لجزيرتين حيويتين كانت تتحكم من خلالهما في واحدة من أهم الممرات الملاحية بالعالم وهو خليج العقبة؟ وهل نشهد عهدًا جديدًا من السياسة التفاوضية في قضايا النزاع الحدودي -على عكس ما كانت عليه السياسة المصرية منذ إعلان الجمهورية الحديثة- يمكن أن تلقي بظلالها على مثلث حلايب الجنوبي أم أن الأمر فقط متعلق بأمن الخليج القومي والاقتصادي؟


المراجع




  1. 1

  2. 2

  3. 3

  4. 4

  5. 5